الإنجيليون

رياح نهاية العالم تهبّ من أمريكا الشمالية حتى القدس

هل يمثّل الإنجيليون آخر سور أمام التوسع الصهيوني؟ أم هم بالعكس حلفاء غير طبيعيين لإسرائيل؟ رغم أن أغلبهم يقف إلى جانب أقصى اليمين الإسرائيلي، فإن جزءا منهم يعتبر اعتناق اليهود للمسيحية شرط خلاص ديانتهم.

مئات الإنجيليين التابعون لمنظمة “مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل” يتظاهرون في القدس (2008)).
Gali Tibbon/AFP

“بينما يتواصل النزاع، وبينما يحاول قادة العالم إيجاد حلّ سلمي لقضايا الشرق الأوسط، تزداد القدس أهمية”. هذا ما كتبه في 30 مايو/أيار 2021 على حسابه على تويتر القسّ الأمريكي جون هاجي، بعد أيام من وقف إطلاق النار الذي وضع حدّا لـ11 يوما من القصف المكثف على غزة من قبل الجيش الإسرائيلي، ولإطلاق صواريخ حماس على إسرائيل. وقد كان السبب في هذه الأزمة تهديد إسرائيل بترحيل أهالي حي الشيخ جراح بالقدس. وقبل خمسة أيام من هذه التغريدة، كتب القسّ نفسه على نفس الحساب: “مستقبل القدس هو في قلب مخطّط الرّب الأزلي. لا يَغرّنكم، فسينتزع الرّب، وسيستعيد، وسيرمّم، وسيعيد التنظيم، وسيجدّد، وسيعيد التوزيع والالتزام والابتياع، حتى تصبح هذه المدينة المقدسة جوهرة مدن الأرض”.

كلام كهذا ليس مفاجئا في الحقيقة، فصاحبه هو مؤسس منظمة داعمة لإسرائيل تُدعى “مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل”، ويصل عدد أعضائها في الولايات المتحدة الأمريكية إلى سبعة ملايين. هؤلاء الإنجيليون الأصوليون مقتنعون بأن استقرار اليهود على الأرض المقدسة، وتأسيس دولة إسرائيل (1948)، واحتلال إسرائيل للقدس الشرقية (1967)، هي علامات تبشّر بعودة المسيح. كما أن فكرة “نشوة الطرب للكنيسة” – أو “الاختطاف” (rapture) كما تسمى بالإنكليزية، أي صعود الكنائس للسماء للقائها بيسوع المسيح – هي مصطلح شائع في علم الأمور الأخيرة، خاصة في منهج التدبيرية (أو القدرية - dispensationalism)1. لذلك، فرح جون هاجي بأحداث شهر مايو/أيار، إذ لم تكن بالنسبة إليه سوى علامة جديدة: “عندما أقول إن”الاختطاف“وشيك، أي أنه يمكن أن يحدث في أي وقت.. فلست أبالغ، بل بالعكس، أنا حذر في تعبيري. إن لم تكونوا جاهزين فاستعدّوا، لأننا على وشك الرحيل من هذا العالم!”2.

وخلال رئاسة دونالد ترامب، تفاقم تأثير دعم الأوساط التبشيرية الأمريكية لدولة إسرائيل التوسعية على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط -علما وأن تأثيرها كان مهما حتى قبل 2017-، رغم أن بعض الأصوات في صفوف أجيال الإنجيليين الجدد تعارض قراءات الكتاب المقدس التي يروّج لها هاجي، لا سيما في علاقتها بقضية إسرائيل وفلسطين. وهكذا، حقق الرئيس الجمهوري السابق ذلك الوعد القديم بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، امتثالا لـ“قانون سفارة القدس” الذي تم التصويت عليه سنة 1995 تحت ضغط الإنجيليين. بهذا القرار، أثلج ترامب صدر المستوطنين الإسرائيليين وداعميهم. كما أنه من خلال ما سماه “صفقة القرن” أو مشروعه للسلام في الشرق الأوسط، حقق أمنيات اليمين واليمين المتطرف الإسرائيلي، ومسانديهم في صفوف الإنجيليين.

لكن وصول جو بايدن إلى الحكم لم يكسر شوكتهم. ففي العاشر من مايو/أيار 2021، دعا رون درمر، السفير السابق لإسرائيل في الولايات المتحدة الأمريكية، في صفحات الجريدة الليبيرالية “هآرتس” إلى تعزيز العلاقات مع الأوساط التبشيرية عوض الطائفة اليهودية الأمريكية، نظرا لكونها صارت أكثر فأكثر انتقادا لسياسة الدولة العبرية، كما أنها أقل عددا من الإنجيليين3.

لكن لِم يهتم الإنجيليون إلى هذا الحد بإسرائيل؟ وما هي المكانة التي يحظى بها اليهود في علم الأمور الأخيرة؟

لنفهم ذلك، يجب الرجوع إلى غداة “الإحباط العظيم” الذي حدث سنة 1844 في الولايات المتحدة الأمريكية، وأن نذكّر بمفسّرَين لنظرية نهاية العالم غاب اسمهما في طيات التاريخ، وهما القسّ ويليام ميلر وإحدى أتباعه كلوريندا ماينور.

إخفاق النبوءة و“الإحباط العظيم”

دائما ما حظيت نبوءات نهاية العالم بمكانة مركزية في تفسير العهدين القديم والجديد. ويتم تجميع أفكار التفسير البروتستانتي تحت عبارة “الإيمان بالعصر الألفي”، أي بفترة مستقبلية بألف عام من النعمة. ومن بين هؤلاء، يؤوّل أتباع منهج التدبيرية الكتاب المقدس بطريقة حرفية، ويرون في نصوص نهاية العالم نبوءات أحداث مستقبلية. لذلك، فهم يبحثون عن “علامات الساعة” في الأخبار، ويقرؤون الأحداث التاريخية على ضوء نهاية العالم التي ينتظرونها. وقبل جون هاجي، فقد أعلن كثيرون عن قدوم النهاية.

من بين هؤلاء، نجد ويليام ميلر، الذي كان واعظا معمدانيا في القرن التاسع عشر والذي أسّس حركة “الميلريين”. قادته دراسته للتواريخ المذكورة في الكتاب المقدّس إلى استنتاج مفاده أن نهاية العالم وعودة يسوع المسيح ستتحقق بين عامي 1843 و1844، ليبدأ بذلك “عهدٌ جديد”. وخلال جولته في المدن الكبرى للشرق الأمريكي من أجل التعريف بنبوءته، جلب ويليام ميلر إليه عديد الأتباع. وفي 22 أكتوبر/تشرين الأول، كان ما بين 50 ألف إلى 100 ألف “ميلري” ينتظرون عودة المسيح، حتى أن بعضهم ترك منزله وعمله لاقتناعهم بأن نهاية العالم وشيكة.

ويا للأسف. لم يتحقق مجيء المسيح الثاني، وغرق أتباع ميلر في “الإحباط العظيم”. بعد ذلك، عاد كثيرون منهم إلى طقوسهم التقليدية، لكن البعض الآخر بقي مؤمنا بنبوءة ميلر ومقتنعا بأن ما يجب فعله هو إعادة العمليات الحسابية وإعادة التفكير في الاستعدادات اللازمة لعودة المسيح.

من “هنود” الغرب إلى فلسطينيي الشرق

نجد في المجموعة الثانية كلوريندا ماينور التي كانت تنتمي إلى الوسط التجاري بمدينة فيلادلفيا. فبعد “وحي” ما، قامت كلوريندا بتصحيح نبوءة ميلر وبإضافة فترة استعداد يُفترض على يهود فلسطين خلالها أن يلعبوا دورا مهما، وأن تكون هي وسيلة لتحقيقها. فبالنسبة لماينور، لا يمكن للنبوءات أن تتحقق في أمريكا الشمالية، بل على الأرض المقدسة. وقد كانت قصّة حجّها إلى فلسطين (1849-1850) بعنوان “ميشولام! أو أخبار من القدس” التي نُشرت سنة 1851 نداء لمساندة المستوطنة الزراعية الأولى التي أقامها في قرية أرطاس بفلسطين جون ميشولام، وهو بريطاني يهودي اعتنق المسيحية الأنغليكانية المؤمنة بالعصر الألفي. بالنسبة لماينور، فقد كان هذا المشروع يتوافق تماما مع رؤيتها “التنبؤية” حول مستقبل فلسطين. فهذه المستوطنة الزراعية التي تقع جنوب بيت لحم يديرها يهودي اعتنق المسيحية، ويطمح لمساندة يهود القدس الفقراء من خلال تعليمهم الزراعة. وهو بذلك يعدّ الأرضية لعودة اليهود، ومن خلالها المجيء الثاني للمسيح.

فعلا، يلعب اليهود دورا أساسيا في نبوءة نهاية العالم، إذ يُفترض أن يجسّدوا الوعود التي قُطعت لإسرائيل في الكتاب المقدس. ويعتبر البعض أن اليهود هم أحفاد النبي إبراهيم وإخوة اليسوع4 الطبيعيون، وعليه يجب أن يجتمعوا في الأرض المقدسة للاستعداد لعودة اليسوع، لا سيما من خلال إعادة تأسيس مملكة داوود وإعادة بناء المعبد.

كتاب كلوريندا ماينور لا يوضّح فقط قراءة المؤمنين بالعصر الألفي لعلم الأمور الأخيرة، بل يوضّح كذلك عقيدة المستوطنين “الرواد” في أمريكا، إذ تم نقل الخط الحدودي الذي كان موجودا في شمال القارة الأمريكية إلى الشرق الأوسط. فالأتباع الإنكليزيون لمذهب التطهيرية كانوا يعتقدون بأنه سيتم إرساء مملكة الله على الأرض في شمال القارة الأمريكية، في إنكلترا الجديدة، لتنخرط بذلك هذه العملية الاستعمارية في تاريخ الخلاص. وبالنسبة للمؤرخ أسامة مقدسي، فإن الإنجيليين المؤمنين بالعصر الألفي “يجسّدون شعورا متجدّدا بالمهمة، وهو وليد امتحان غزوة البيض وهزيمة الهنود في العالم الجديد”5.

القضاء على العرب في الفصل الأول...

تروي كلوريندا ماينور قصّة حجها إلى فلسطين بجُمل ملؤها التعابير المجازية والاستعارات، وتظهر من خلالها فلسطين كـ“بيت حزين ومهجور” ينتظر عودة أصحابه الحقيقيين، أي اليهود المنفيين. أما سبب الحزن المخيم على هذا البيت، فهو وجود العرب التي تعرّفهم ماينور كـ“أبناء إسماعيل المتوحشين”. لذا، تدعو ماينور المؤمنين بالعصر الألفي إلى التدخل للتحضير لـ“عودة” اليهود إلى الأرض المقدسة. ومن المفروض أن تُسفر هذه العودة عن تغيّر كلّي للبلاد كما تكتب ماينور في هذه الفقرة:

ها هي القدس تمتد تحت أقدامنا كالخريطة، وها هي الأرضية الجميلة لمكان المعبد، [...] أما فوق، باتجاه اليسار، فتظهر شرفات صهيون العالية، والباب المغلق الذي ينتظر في صمت خاشع أن يأتي من يجب أن يحكم، وأن يفتح مصراعيه الذين لم يستكشفهما أحد طوال هذه السنين. لم نلتق في طريقنا بأي عربي، وحولنا، تمارس التلال المعزولة والصامتة طقوس السبت معنا. وقد بدا وكأن حضورا مقدّسا كان يطفو على الجبل، فانتابني الخوف... ودعوت لمجيئه بسرعة. [...] وبينما كنا نصلي، مرّت علينا غيمة مباركة لا يمكن للكلمات أن تصفها. وللحظة، لم أعد أرى أكوام الحطام والدمار، ولا معبد المسلم، بل كنت أرى مكان كل ذلك قيام مدينة طاهرة وجميلة، يتوسّطها بكل ما أوتي من مجد، ملك العدالة...

لا مكان للعرب إذن في الرؤية التي تحملها كلوريندا ماينور للقدس الجديدة، ولا للمساجد طبعا التي ستختفي مع حطام نهاية العالم. فمكان القدس الحالية، ستولد مدينة جديدة “طاهرة وجميلة”، بدون سكان عرب وبدون آثار الحضارة الإسلامية. وسيحدث هذا التغيير دون حاجة لاستعمال القوة، أو للتطهير العرقي، أو للتدمير الهائل للبيوت والمساجد، بل فقط من خلال صنيع إلهي.

...واختفاء اليهود في الفصل الرابع

لكن اليهود ليسوا بمأمن كذلك، رغم الدور الرئيسي الذي يلعبونه في قدوم العهد الجديد. فوفق بعض القراءات، يجب عليهم اعتناق الديانة المسيحية للنجاة: “المفهوم الإنجيلي يتجلّى من خلال مسرحية في خمسة فصول، ويختفي اليهود في فصلها الرابع”6، وفق الصحفي غيرشوم غورنبرغ، مؤلّف كتاب “The End of Days”. وقد أثبت الجدل الذي تسبب فيه إطلاق قناة تبشيرية تحمل اسم “GOD TV” في ربيع 2020 ضمن القنوات الأرضية في إسرائيل، أن اعتناق اليهود للمسيحية لا يزال خطا أحمرا في إسرائيل، رغم استحسان دعم الإنجيليين7. بالنسبة إلى جون هاجي كما إلى كلوريندا ماينور من قبله، فإن مسألة اعتناق اليهود للمسيحية أقل أهمية من الدعم القوي لإسرائيل. وقد كتب هاجي على حسابه على تويتر في 19 مايو/أيار 2021: “إن مبدأ الكتاب المقدس المتعلق بالازدهار الشخصي مرتبط بمباركة إسرائيل وبالصلاة من أجل مدينة القدس”. هذا القسّ ليس فقط مؤسس منظمة “مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل”، بل هو موجود كذلك على لائحة منظمة “حلفاء إسرائيل” التي أحصت أهم خمسين شخصية مساندة لإسرائيل، إلى جانب نائب الرئيس السابق مايك بنس، والسفيرة الأمريكية السابقة لدى الأمم المتحدة نيكي هالي. كما اعترفت إسرائيل بجون هاجي كأحد أهم مساهميها في الذكرى السبعين لإنشاء دولة إسرائيل. نفسه هاجي هو من تلا صلاة المباركة في 14 مايو/أيار 2018، بمناسبة حفل افتتاح السفارة الأمريكية في القدس.

1تعتمد التدبيرية أو القدرية على تفسير حرفي للكتاب المقدس، وتقسّم علاقة الله مع الجنس البشري إلى سبعة “أقدار” أو حقب زمنية. ويشدّد هذا المنهج على الفصل بين إسرائيل كشعب يهودي أو شعب الله على الأرض، والكنيسة أو شعب الله في السماء، خلافا للمسيحية التقليدية التي ترى في الكنيسة وريثة الوعود التي أعطاها الله لإسرائيل، ما يجعلها تمثّل إسرائيل الجديدة التي تسعى بشوق لبلوغ أورشليم السماوية. ويُعتبَر الإنكليزي جون نلسون داربي (1800-1882) من أهم مؤسسي هذا المنهج.

2غريغوري خليل، “Christians must rethink their reflexive support for Israel”، واشنطن بوست، 27 مايو/أيار 2021.

3كورا ألدر وإيمانويل شاوبلين، “US Evangelicals, from Prophecy to Policy”، مجلة Policy Perspectives 8/11، سبتمبر/أيلول 2020.

4وهي فكرة منتشرة بكثرة خاصة لدى “الميلريين”.

5أسامة مقدسي، " Artillery of Heaven, American Missionaries and the Failed Conversion of the Middle East، دار نشر Ithaca، Cornell University Press، 2008، الصفحة الرابعة.

6سيلفان سيبال، “Les tribulations des chrétiens américains en Israël”، جريدة “لوموند”، 16 ديسمبر/كانون الأول 2002.

7جونثان توبينن، “Evangelicals Trying to Convert Jews: A Fair Price for Christian Support for Israel ?”، “هآرتس”، 11 مايو/أيار 2020.