مصر. الرئيس والجيش، زواج الحب والمصلحة

أقرّ مجلس النواب المصري مؤخرا وبطريقة مستعجلة أكثر من تنقيح لقوانين تخص المؤسسة العسكرية. هذه القوانين تبرز في نفس الوقت عزم الرئيس عبد الفتاح السيسي على مراعاة القيادات العسكرية التي أصبح دورها يكبر في جميع مجالات السلطة، مع التحكم في أهم صلاحيات الجيش.

القاهرة، الأكاديمية العسكرية، 22 يوليو/تموز 2018. الرئيس عبد الفتاح السيسي ووزير الدفاع محمد أحمد زكي يحضران حفل تقديم الشهادات للمتخرجين، أي ضباط الجيش الجدد.
الرئاسة المصرية/وكالة فرنس برس.

في 25 مايو/أيار الماضي، قام مجلس النواب المصري بإقرار قانون بسرعة مدهشة يتعلق بالجيش المصري، وهو تعديل لسن تقاعد رتبة “الفريق”، لتصبح 65 عاماً بدلاً من 64 فقط، وهي ثاني أعلى رتبة عسكرية حالية بالمؤسسة بعد رتبة “فريق أول”، والتي يبلغ سن التقاعد القانوني لها 62 عاماً فقط. كما أن رتبة “فريق” ثالث أهم رتبة عسكرية على الإطلاق بعد رتبة مُشير التي كان رئيس الجمهورية الحالي آخر الحاصلين عليها.

وكانت الحكومة قد تقدمت بمشروع القانون في اليوم نفسه مرفقاً بتوصيات بسرعة إقراره من وزير الدفاع وهيئة مستشاري مجلس الوزراء والأمين العام لمجلس النواب. ليستأنف التعديل مشواره بالسرعة ذاتها، بتصديق رئيس الجمهورية عليه ونشره بالجريدة الرسمية بسرعة البرق. هذا القانون طُبق مباشرة على الفريق أسامة عسكر، والذي بلغ 64 عاماً عقب نشر القانون بـ 48 ساعة فقط وتحديداً يوم 31 مايو/أيار.

أصغر الحاصلين على رتبة فريق

ليست هذه المرة الأولى التي يقترن فيها اسم الرجل بالمفارقات، وهو الجنرال الذي تم تعيينه مؤخراً رئيسًا لأركان حرب القوات المسلحة، ثاني أهم المناصب في الجيش المصري. وقد سطع اسم رئيس الأركان الجديد عام 2015، ومنذ حينها وهو مقترنٌ بثلاثة ملفات شائكة هي: سيناء التي تشهد اضطرابات واسعة ومواجهات دامية بين الجيش وفصائل إرهابية مسلحة، و“الشائعات الإعلامية” التي تأتي ضمن أكثر الملفات أهمية عند النظام، ويعطيها أولوية خاصة قام لأجلها بإعلان الحرب عليها منذ لحظة تأسيسه الأولى لتصل إلى السيطرة الكاملة على الغالبية العُظمى من وسائلها، وتلك التي لم يستطع لها سبيل قام بحجبها أو تتابع الضربات الأمنية والسيبرانية عليها وعلى من يعمل بها. وثالث تلك المحاور هي الاستثناءات أو السوابق المهنية وسرعة الترقي، وهو ما يجلب المشاكل والأزمات لصاحبه في العادة، نتيجة كثرة المنافسين والمتربصين.

وقد سطع اسم أسامة عسكر في نهاية يناير/كانون الثاني من عام 2015، عندما أصدر السيسي قراراً باستحداث منصب جديد بالقوات المسلحة وهو “القيادة الموحدة لمنطقة شرق قناة السويس ومكافحة الإرهاب”، أي أن المنصب الجديد يجمع قيادة الجيشين الثاني والثالث (شمال وجنوب شبه جزيرة سيناء) بيد رجل واحد، ليقوم بتسمية أسامة عسكر أول من يتولى ذلك المنصب العسكري الهام مع ترقيته لرتبة فريق، ليكون أصغر الحاصلين عليها أيضاً. وبالإضافة إلى ذلك، تم إسناد عملية الإشراف على تعمير سيناء لاختصاصاته مع رصد مبلغ لهذه المهمة بلغ 10 مليارات جنيه (حوالي 640 مليون دولار أمريكي)، كل ذلك خلال لقاء عام مذاع على الهواء وجه خلاله السيسي كلمة لعسكر قال فيها: “أنت مسؤول أمامي وأمام المصريين عن تنمية سيناء أيضًا، وليسمع الجميع أننا ذاهبون للتعمير والبناء قبل البحث عن الثأر وقتل المجرمين”.

تحت الأضواء

قبل ذلك اليوم، كان عسكر يشغل منصب قائد الجيش الثالث الميداني، وهو القطاع العسكري المسؤول عن جنوب سيناء، متضمناً القطاع الجنوبي من قناة السويس والأمن الداخلي للمجرى الملاحي بالقناة، التي تُعد أهم مصادر الدخل القومي المصري بعد الضرائب، ومصدر هام للنفوذ المصري إقليميا وعالمياً. وقد شغل هذا المنصب خلفاً لقائده المباشر الفريق أول صدقي صبحي وزير الدفاع السابق، والذي كان يحتل منصب رئيس الأركان وثاني أهم الشخصيات التي تصدرت المشهد في مصر -بعد السيسي- عند عزل الرئيس الراحل التابع للإخوان المسلمين محمد مرسي، عام 2013. وقد عُرف عن الفريق عسكر السمعة في منطقة عمله الشائكة أنه طيب السمعة وذو معاملة حسنة خلال فترة خدمته الطويلة والصعبة جداً، والتي شهدت اضطرابات عنيفة بداية من ثورة يناير/كانون الثاني 2011، مروراً بفترة الاضطراب التي لحقتها، حتى تولي مرسي رئاسة الجمهورية ثم الاضطرابات الشديدة التي تزامنت وتعاقبت على عزله، بما فيها مرحلة العنف والمواجهات المسلحة بين الدولة والفصائل الإرهابية. وهو ما حرص خلاله عسكر على مساحة من التقارب بين قواته وسكان المنطقة الخاضعة لسلطته، وخاصة أبناء محافظة السويس وقبائل جنوب سيناء الذين قاموا طواعية بتسليمه بعض الأسلحة غير المرخصة خلال فترة الاضطراب الأمني عامي 2013 و2014.

إلا أنه ومنذ منتصف عام 2017، بدأ اسمه يقترن بعدد كبير من الشائعات، خاصة بعد إعفائه من منصبه العسكري الهام بنهاية عام 2016، وقبل أن يكمل عامين فيه، ليتم تسميته مساعداً للقائد العام للقوات المسلحة لشؤون تنمية سيناء، وهو المنصب الذي اعتبره الكثيرون منصبا مكتبيا -أو إداريا- قد نُفي إليه. وسرت شائعات حول تحقيقات تُجرى معه بخصوص أمور مالية، وهي الشائعات التي رددتها قنوات تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، ليتم تكذيبها بعد ذلك بشكل غير مباشر عبر قنوات إعلامية عسكرية وأمنية، من خلال نشر صور عسكر أثناء حضوره مناورات “النجم الساطع” العسكرية1. وقد تكررت الشائعة مرة أخرى في مايو/أيار 2018 عبر مصادر أخرى، مُضافًا إليها بعض التفاصيل الخاصة بأسرته وذمته المالية، لتعود المؤسسة بنفي الشائعة سريعاً بشكل غير مباشر هذه المرة أيضاً، وذلك بنشر صوره هو وأسرته أثناء سفرهم إلى المملكة العربية السعودية لتأدية مناسك العُمرة.

تبرئة ذمة

“البلاغات الكيدية بالنسبة له حقيقية، حتى يتسنى التأكد منها”. بهذه الكلمات وصف موقع “مصراوي” أسامة عسكر حينما تمت ترقيته لرتبة الفريق، وربما يكون هذا ما حدث معه شخصياً في فترة التوترات تلك. فمع عدم التأكيد أو النفي الرسمي المباشر للشائعات التي ارتبطت به، فلربما قد خضع بالفعل للتحقيق في بلاغات قدمت ضده بسبب آراء سياسية خاصة، وأن ذلك تزامن مع فترات اضطراب سياسي وأمني وعسكري شديد وأحداث مفصلية هامة في تاريخ مصر، مثل أزمة تنازل النظام عن جزيرتي تيران وصنافير (2016) للملكة العربية السعودية وما أحدثه ذلك من سخط وغضب شعبي، مروراً بإعلان رئيس الوزراء الأسبق وقائد القوات الجوية الأسبق الفريق أحمد شفيق ترشحه لرئاسة الجمهورية في مواجهة السيسي (2018)، ثم إعلان الفريق سامي عنان، رئيس الأركان الأسبق، للأمر نفسه، ووصولاً باعتقال الأخير من قبل الجيش. وهي الأحداث التي خُشي من أن تؤدي إلى اضطرابات داخل المؤسسة العسكرية ظُن أن عسكر كان أحد أطرافها. بينما يرجَح بأن ما حدث مع الفريق عسكر من تحقيقات كان ذا علاقة بأمور مالية خاصة وأن المنطقة التي كانت تحت سيطرته تضمن منشآت اقتصادية ضخمة من مصانع وشركات ومناجم وغيرها. وعلى كل حال، فقد تم استبعاده من منصبه مؤقتاً حتى تنتهي تلك التحقيقات، وهي الطريقة المعروفة داخل المؤسسة في مثل تلك الحالات، كما يتضح بأن هذه التحقيقات قد أبرأت ذمته، على خلاف آخرين تتردد أسماؤهم.

إلا أن ما حدث مع الفريق عسكر لاحقاً من رد للاعتبار -وفق ما يحدث عادة داخل المؤسسة- كان أكبر من عملية تبرئة لساحته، فقد تخطى كل التوقعات والسوابق. ربما كان ذلك بسبب الضجة الإعلامية التي طالته، أو لضلوع مؤسسات أخرى في قضيته، وهي تفاصيل بالغة الحساسية داخل المؤسسة العسكرية، أو لأن الاتهامات المالية المتكررة لقيادة الجيش قد أحدثت غضباً بين ضباطه، رفضاً لوصمهم بهذه الاتهامات في الوقت الذي يقومون فيه بتضحيات كبيرة خلال المواجهات مع التنظيمات المسلحة في سيناء وفق رؤيتهم. وقد تم إعادة الفريق عسكر إلى الواجهة من جديد عبر أحد مقاعد القيادة العسكرية عام 2020 بتوليته منصب رئيس هيئة العمليات بالقوات المسلحة.

التغيير الدوري للأشخاص

يُقال دائماً بأن وزير الدفاع والقائد الأسبق للقوات المسلحة، المشير الراحل محمد حسين طنطاوي، كان ذكيًا بالقدر الذي مكنه من الحفاظ على منصبه وزيراً للدفاع لأكثر من 20 عاما (1991-2012)، ليكون صاحب أطول فترة في تاريخ المنصب. وقد تعلم الدرس جيداً من مشهد الاستغناء عن سلفه المشير عبد الحليم أبو غزالة بسبب شعبيته الجارفة وتخوف مبارك من تلك الشعبية على عرشه، فحافظ طنطاوي على الخفوت الإعلامي وعدم إظهار أية شعبية داخل الجيش أو خارجه. ومن الواضح بأن تلميذ طنطاوي وابنه الروحي، الرئيس عبد الفتاح السيسي، قد تعلم هو الآخر دروساً كثيرة من سلفه مبارك، من أبرزها عدم ترك أصحاب المناصب في مناصبهم لفترات طويلة، وتغيير القيادات وخاصة العسكرية بسرعة شديدة مقارنة بأسلافه منذ تأسيس الجمهورية، ربما لتلافي ظهور مراكز قوى، أو لتفادي “حالة الترهل” التي كانت توصف بها المؤسسات خلال عهد مبارك، نتيجة تعمير القيادات في مناصبهم لسنوات طوال، أو لتقليل مساحات التوتر بين المؤسسة الأهم والأقوى في مصر -الجيش- والمؤسسات الأخرى المعاونة للرئيس مثل المخابرات العامة والرقابة الإدارية، فضلاً عن مؤسسة الرئاسة نفسها. حيث أن التغيير الدوري للأشخاص في نفس المناصب عادة ما يقلل من مساحات الخصومات الشخصية المتراكمة، وهو ما خبره السيسي جيداً نتيجة تدرجه وعمله الطويل داخل المؤسسة العسكرية وداخل جهاز المخابرات الحربية، الذي يمتد ويتنوع عمله بين الأعمال الاستخباراتية والعسكرية والسياسية والإدارية داخل الجيش. وهو ما يبدو جلياً الآن، حيث تكاد تختفي كل الأسماء التي لمعت أو ظهرت منذ بداية حكم السيسي عدا اللواء عباس كامل، رئيس جهاز المخابرات العامة، الذي يعتبره الكثيرون ذراع السيسي اليُمنى.

تلك الخبرة مكنت السيسي من حفظ التوازن وتحقيق المعادلة بين رد الاعتبار للفريق عسكر وتهدئة الأجواء بين الرئاسة والجيش، وفي نفس الوقت الاحتفاظ بزمام الأمور ومسك كل مراكز القوى والنفوذ بيده. فبعد أسابيع قليلة من رفع سن المعاش لرتبة فريق، والتي استفاد منها أسامة عسكر على الفور، وقبل أسابيع أخرى من تعيينه رئيساً للأركان، قام السيسي بالتصديق على تعديل قانون آخر تقدمت به حكومته أيضاً ووافق البرلمان عليه سريعاً هو الآخر، ألا وهو تعديل قانون “القيادة والسيطرة على شؤون الدفاع عن الدولة وعلى القوات المسلحة”، وهو القانون الخاص بالشؤون التنظيمية للقيادات العُليا للجيش المصري، حيث قام بتقليص مدة بقاء هذه القيادات -ومن بينها منصب رئيس الأركان- من أربع سنوات لسنتين فقط، ليكون التمديد بعد هاتين السنتين بيد رئيس الجمهورية، الذي يستطيع أن يتركه يخرج بالقانون بعد مدته القصيرة هذه أو أن يبقيه كما يشاء، وهو ما سيُطبق فوراً على أسامة عسكر كأول شخص أيضاً.

هذه الخطوات الشطرنجية تعبر بجلاء عن مدى خبرة وفهم السيسي للكيفية التي تسير بها الأمور داخل الجيش، المؤسسة التي قضى فيها معظم سنوات عمره، وكذلك كيفية تنظيم العلاقة بين هذه المؤسسة والمؤسسات الأخرى، وعلى رأسها مؤسسة الرئاسة التي يشغلها. فهو يعرف كيف يُحافظ على علاقة الود والرضا بينه وبين المؤسسة دون أن تنفلت منه الأمور. وإذا حدث ما يُعكر صفو هذه العلاقة -وهي الأهم بالنسبة إليه-، فهو يعرف كيف يضبطها، مثلما حدث مع اعتقال رئيس الأركان الأسبق أو التحقيق مع رتب وقيادات كبيرة. حيث ينظر السيسي إلى تلك المؤسسة على أنها عماد حكمه واستقرار واستمرار بقائه في منصبه، فضلاً عن حفظ استقرار وبقاء وتنمية الدولة نفسها، وذلك بالاعتماد عليها وعلى أفرادها في الغالبية العُظمى من الأعمال الاقتصادية والسياسية، الداخلية والخارجية. فعلى سبيل المثال، اختار السيسي رئيس الأركان المنتهية ولايته الشهر الماضي، الفريق محمد فريد حجازي، ليكون مستشاره المسؤول عن مبادرة “حياة كريمة”، وهي البرنامج التنموي المسؤول عن رفع كفاءة المناطق العشوائية والريفية المصرية، والتي تتضمن بناء مساكن بديلة للعشوائيات وإصلاح البعض الآخر، وكذلك تقديم خدمات طبية وصحية وتعليمية وتدريبية واجتماعية، بجانب مشروعات إنشائية كبيرة، مثل المشروع الضخم لتبطين الترع والمصارف والممرات المائية في أنحاء مصر.

وكما يتضح، فإن جميع المهام الجديدة لرئيس الأركان السابق عبارة عن أعمال مدنية بحتة، لا تمت لوظيفيته السابقة بصلة سوى قناعة الرئيس -مثله مثل باقي أقرانه العسكريين- بقدرة أبناء تلك المؤسسة على إنجاز أي وكل شيء بسبب طبيعتهم وتربيتهم العسكريتين المنضبطة. وهو ما ينسحب على باقي الملفات الداخلية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وكذلك الخارجية. وذلك إما بتولية عسكريين سابقين لهذه المهام، أو بإسنادها مباشرة لإدارات أو جهات أو مؤسسات تابعة للمؤسسة العسكرية، أو ذات طبيعة عسكرية، مثل جهاز المخابرات العامة الذي يديره الآن اللواء ورئيس مكتب السيسي سابقاً لسنوات طويلة عباس كامل. وقد أصبح الأخير اللاعب الأهم والأكثر حضوراً في ملفات العلاقات الخارجية، كما أصبح حضور مصر في أي ملف خارجي مرتبطاً بحضوره الشخصي، من غزة إلى طرابلس ومن بغداد إلى الخرطوم وغيرها، بينما أصبح حضور وزير الخارجية حضوراً دبلوماسياً، وهو ما يشبه حضور أغلب المسؤولين المدنيين في مصر. وفي نفس الوقت، فإن عمليات إعادة التوظيف للعسكريين المنتهية ولايتهم هي جزء أصيل من تراث كسب الولاء للنظام الحاكم ولرئيس الدولة، والذي يتبارى الجميع فيه للحصول على بداية جديدة ومهمة بعد تقاعده من الجيش.

1ملاحظة من هيئة التحرير: هي مناورات يقوم بها كل عامين وبطريقة مشتركة الجيش المصري والجيش الأمريكي معا.