الحرب على أوكرانيا

لِم تُساير إسرائيل روسيا إلى هذا الحد؟

لا ينسجم صوت إسرائيل مع باقي الأصوات “الغربية” حول الأزمة الأوكرانية، حيث يرفض قادتها مواجهة فلاديمير بوتين الذي تربطهم معه مصالح استراتيجية واقتصادية، حتى لو كلّفهم ذلك إغضاب الحليف الأمريكي.

رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت والرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائهما في سوتشي في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
Yevgueni Biyatov/Sputnik/AFP

منذ بداية الاجتياح الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط، تبنّت إسرائيل موقفا سياسيا فريدا من نوعه وسط ما يُسمى عادة بالـ“معسكر الغربي”. صحيح أنها صوّتت (بعد تلكّؤ) في الثاني من مارس/آذار على القرار الذي اعتمدته 141 دولة خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة، لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا ومطالبة موسكو بسحب قواتها، لكنها رفضت تبني العقوبات الاقتصادية ضد موسكو وعدد من قادتها، كما رفضت مدّ كييف بمعدات عسكرية حتى وإن كانت “دفاعية”. بل لم تكن إسرائيل مستعدة حتى الآن لتزويد كييف بنظام الدفاع الجوي المسمى بـ“القبة الحديدية”، والذي تستخدمه ضد الصواريخ التي تستهدفها من قطاع غزة أو جنوب لبنان، ولم تقترح على الأوكرانيين سوى إرسال ملابس أو مستشفى ميداني. أخيرًا، رفضت إسرائيل منذ بداية الحرب دخول اللاجئين الأوكرانيين إلى أراضيها.

بالموازاة مع ذلك، تسعى إسرائيل إلى أن تقدّم نفسها على الساحة الدولية كوسيط بين موسكو وكييف. وكان رئيس الوزيراء نفتالي بينيت من الشخصيات الدولية النادرة التي استقبلها فلاديمير بوتين مطوّلا في موسكو، في الخامس من مارس/آذار. ووفق جريدة “فايننشال تايمز” في عددها ليوم 16 مارس/آذار، فقد قدمت إسرائيل لكل من الروس والأوكرانيين “خطة” بـ15 نقطة لوضع حد لهذه الحرب1.

غارات جوية على سوريا

لا شك أن موقف إسرائيل متأثّر جدًا بالمكانة التي تحظى بها روسيا في الشرق الأوسط منذ 2015. فقد سبق وصرّح وزير الخارجية (والذي سيصبح وفق اتفاق ائتلافي رئيسًا للوزراء) يائير لابيد، أن “لإسرائيل حدودًا مشتركة مع روسيا” منذ تدخل موسكو العسكري والقوي في الصراع الداخلي السوري، ما يفرض على إسرائيل عدم تجاهل هذه القوة السياسية. وعليه فقد تفاوضت إسرائيل على اتفاق تنسيق ضمني مع موسكو، يسمح لها بقصف مواقع عسكرية إيرانية في سوريا، ومواكب نقل أسلحة إيرانية إلى حزب الله في لبنان. لا يزال هذا الاتفاق قائم الذات إلى اليوم، رغم بعض العوائق الطفيفة، مما سمح لإسرائيل بالقيام بمئات الغارات الجوية في سوريا على مدار السنوات الخمس الماضية، ومؤخرًا، بتدمير مئات طائرات بدون طيار إيرانية في سوريا.

هذا هو بالأساس الاتفاق الذي تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى الحفاظ عليه من خلال رفض تبنّي العقوبات الدولية ضد موسكو. إذ يقول جيورا إيلاند، وهو لواء سابق ومدير سابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي إنه “إذا قرر الروس قطع خط الهاتف الأحمر، فيجب أن نفكّر في إمكانية مواصلة ضرباتنا في سوريا من عدمها”2. قد يكون للخلاف مع موسكو عواقب وخيمة إذا قررت روسيا على سبيل المثال وردّاً على ذلك التشويش على إشارات الملاحة المخصصة للنقل العسكري، بل والأسوأ من ذلك، على تلك الخاصة بالنقل المدني. كما تخشى الدوائر الأمنية الإسرائيلية أن تؤدي استحالة استمرار إسرائيل في غاراتها الجوية على إيران في سوريا إلى “انتصار حزب الله” اللبناني، والذي ستصل إمداداته من الأسلحة الإيرانية في تلك الحالة إلى مستوى لم نشهده حتى الآن. باختصار، لا يُمكن لإسرائيل أن تخاطر بإغضاب الدب الروسي أكثر من اللزوم.

ثِقل الأوليغارشية الروسية

لكن هناك سبب آخر قد يفسّر هذا التهاون الإسرائيلي تجاه موسكو. فبين 8 و11 مارس/آذار، حلّقت في سماء إسرائيل ما لا يقل عن 14 طائرة خاصة قبل أن تحطّ الرحال في مطار بن غوريون، قرب تل أبيب. وقد كان على متن هذه الطائرات عدد من الأثرياء الروس الذين ينتمون إلى الأقلية الحاكمة، برفقة عائلاتهم وأقاربهم، ولا شك أنهم كانوا يحملون في أمتعتهم أصولا مالية نجحوا في أخذها معهم. نجد من بين هؤلاء رومان أبراموفيتش، مالك نادي تشيلسي الإنكليزي، والذي نجح قُبيل رحيله في الحصول على الجنسية البرتغالية، ليصبح بذلك أوروبيا، على أمل ألا تطاله العقوبات الأمريكية والأوروبية. في الأثناء، قرّر أبراموفيتش توخي الحذر وترك القارة الأوروبية للجوء إلى بيته في إسرائيل، علمًا وأنه تم فتح تحقيق ضده في البرتغال حول طريقة حصوله على جنسية هذا البلد من خلال شهادة زور.

يعود استقبال هذه الأقلية الثرية -والتي تعدّ الكثيرين من مقرّبي بوتين- إلى سببين، أوّلهما هو كون هؤلاء الأثرياء يهودًا، على عكس معظم عناصر الأوليغارشية الروسية، ما يجعلهم يستفيدون من “قانون العودة” الذي ينص على أن أي يهودي يحصل على الجنسية الإسرائيلية على الفور، بمجرد استقراره في البلد. أما السبب الثاني، فهو بكل بساطة كون إسرائيل هي إحدى الدول “الغربية” القليلة التي لم تتبنّ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة والقرارات الأمريكية والأوروبية بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا ذات بُعد غير مسبوق حتى الآن، ولا العقوبات الموجهة بشكل خاص إلى الأوليغارشية الروسية.

روابط سياسية

بيد أنه من غير الصعب تفهم دوافع القادة الإسرائيليين لحماية هؤلاء الأثرياء اليهود. فقد استقرّ بعضهم في إسرائيل بينما واصلوا امتلاك أصول مهمة في روسيا وحولها (في حين أن غيرهم يحمل الجنسية الإسرائيلية فقط ولديه استثمارات في إسرائيل لكن دون الإقامة فيها بشكل منتظم، مثل أبراموفيتش)، وقد جاؤوا بشكل أساسي من موسكو أو لينينغراد، ولكن أيضًا من كييف وطشقند وأماكن أخرى بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. بلغ عدد هؤلاء العشرات، وقد دخلوا في علاقات تجارية مع العديد من السياسيين الإسرائيليين لِما رأوا في ذلك من حماية إضافية، بينما وجد الإسرائيليون في هذه العلاقة صداقةً مدفوعة الأجر -وبسخاء. فلو أخذنا مثلاً زعيم اليمين الاستعماري العلماني المتطرف في إسرائيل ووزير المالية الحالي ووزير الدفاع السابق أفيغدور ليبرمان، فهو معروف بعلاقاته الكثيرة مع العديد من عناصر الأوليغارشية الروسية. نفس الشيء بالنسبة إلى وزير الإسكان الحالي زئيف إلكين. كما استفاد رئيس الأركان السابق بيني غانتس من مساعدة رجل الأعمال الروسي فيكتور فيكسيلبيرغ لإطلاق شركته الأمنية الناشئة “البعد الخامس”.

على غرار فيكسيلبيرغ، استثمر أغلب عناصر الأوليغارشية الروسية الذين أصبحوا إسرائيليين في شركات محلية. لكنهم أدرّوا على العديد من السياسيين الإسرائيليين من كرمهم، إما من خلال تنصيب هؤلاء في مجالس إدارة شركاتهم، أو من خلال تمويل حملاتهم الانتخابية، أو كليهما. لكنهم اليوم -كما يشرح محامي الأعمال الإسرائيلي رام غاملئيل- يعيشون في “مناخ من الذعر”3، وليس شركاؤهم بمنأى عن خسائر كبيرة. فحسب التقديرات، بلغ وزن هؤلاء الأثرياء الروس خلال الثلاثين سنة الأخيرة ما بين 5 و10٪ من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي، ما يدفع بإسرائيل بالفعل إلى الحد قدر الإمكان من آثار العقوبات التي يتعرضون لها. فقبل يومين فقط من هجوم بوتين على أوكرانيا، منح أبراموفيتش مبلغ ثلاثة ملايين دولار لمتحف إسرائيل للهولوكوست ياد فاشيم، وهو “توقيت من الصعب أن يكون مجرّد صدفة”، كما كتب الصحفي الإسرائيلي أنشل بفيفر4. حتى أن إدارة المتحف تواصلت في بادئ الأمر مع المسؤولين الأمريكيين لمطالبتهم باستبعاد هذا الرجل المفيد للغاية للذاكرة اليهودية من العقوبات، قبل أن تغيّر رأيها في النهاية وترفض التبرع الذي قدمه أبراموفيتش.

“عمى أخلاقي وتاريخي”

لم يُسفر موقف الحكومة من قضية العقوبات سوى على ردود فعل قليلة في إسرائيل. وقد علّق نفس الصحفي أنشل بفيفر على ذلك بغضب: “إن الموقف المخزي للقادة الإسرائيليين أمام ما قام به ديكتاتور من غزو لدولة مستقلة، والطريقة التي تجنب بها بينيت ذكر كلمة”روسيا“في خطاباته، والإدانات الضعيفة لوزير الخارجية يائير لابيد، جميع هذه المواقف تترجم عن عمى أخلاقي تاريخي”5. وقد تجسّد هذا الموقف المخزي وهذا العمى الأخلاقي أكثر من خلال موقف وزيرة الداخلية أييليت شاكيد (تابعة لليمين المتطرف العلماني)، والتي رفضت باستمرار قبول اللاجئين الأوكرانيين، خاصة أولئك الذين لا يستجيبون لمعايير اليهودية الأكثر صرامة. ثم غيّرت الوزيرة رأيها، واقترحت قبول اللاجئين غير اليهود، شرط أن تدفع عائلة إسرائيلية مضيِّفة مبلغ 10 آلاف شيكل (حوالى 3100 دولار) كضمان في حالة عدم مغادرتهم قبل انقضاء فترة ثلاثة أشهر. كما حرمت شاكيد اللاجئين من الحصول على الرعاية الصحية، باستثناء “حالات الطوارئ”. ومع بداية موجة استنكار أمام هذه التدابير -إذ وصف وزير الصحة نيتسان هورويتز (تابع لليسار الصهيوني) هذه القرارات بـ“المخجلة”-، تم أخيرًا استقبال حوالي 12 ألف و600 لاجئ أوكراني، ثلثاهم من غير اليهود، بينما رُفض ألف آخرون.

انتقد عدد قليل فقط من الشخصيات السياسية موقف الحكومة التصالحي تجاه بوتين، وظل الجدل السياسي في إسرائيل متواضعًا للغاية. فقد اعتبر وزير الدفاع السابق موشيه يعلون (التابع لحزب الليكود) أن الحكومة بالغت في حجم المخاطر التي ستنجرّ عن إظهار الدعم لأوكرانيا، وأن إسرائيل تتمتع بوسائل عدة لتجاوز الدعم الروسي في سوريا وتنفيذ ضرباتها هناك. كما أنكرت وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني على الموقف الرسمي تقديمه للوضع على أنه خيار صعب تواجهه إسرائيل بين “مصالحها الأمنية” و “قيمها الديمقراطية”، وقالت: “يجب أن نكون من الجانب الصحيح من التاريخ، وهو ليس جانبَ بوتين”. لكن أمام انقسام المعارضة، لم يكن لهذه التصريحات سوى صدًى قليل على المستوى السياسي.

“خطة للسلام” أو استسلام

سمح هذا الوضع لرئيس الوزراء بإحراز تقدم واقتراح “خطة للسلام” في 16 مارس/آذار. دون الخوض في التفاصيل، من شأن هذه الخطة أن تضمن تخلي أوكرانيا عن انضمامها إلى الناتو وعن تواجد أي قاعدة عسكرية أو قوة تابعة لحلف شمال الأطلسي على أراضيها، في مقابل أن تحظى بحماية دول حليفة مثل الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو تركيا، وهي كلها دول أعضاء في الناتو. إن طبيعة الضمانات التي قدمتها هذه الخطة لأوكرانيا ليست واضحة، كما لم تتطرق إلى مستقبل الأراضي الأوكرانية التي ضمتها موسكو سابقًا (القرم ودومباس). من جهتها، استقبلت روسيا هذه “الخطة” إيجابيا لكن دون أي حماس. بيد أن أحد المقربين من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي صرّح لصحيفة “فاينانشال تايمز” أنه لن يتم توقيع أي اتفاق دون الإجلاء الكامل للقوات الروسية من الأراضي الأوكرانية. قبلها بأيام قليلة، كان نفتالي بينيت قد اقترح على الرئيس الأوكراني قبول اقتراح وقف إطلاق النار الروسي. لكن الأوكرانيين رأوا فيه “مطالبة بالاستسلام”6، وأبلغوا الإسرائيليين بأنهم يعتبرون وساطتهم غير مجدية ابتداءً من ذلك اليوم.

من جهتها، عبّرت واشنطن عن امتعاضها بل حتى عن سخطها أمام المسافة التي وضعتها “حليفتها المفضلة” في الملف الأوكراني. وقد راسل ثُلّة من نواب الحزب الديمقراطي -وهم ستيف كوهين وماريا إلفيرا سالازار وتوم مالينوفسكي- البيت الأبيض، قائلين إن “معاقبة أبراموفيتش بات أمرا مستعجلاً” وإنه وجب “تكريس جميع الوسائل” للاستيلاء على الأموال التي يضعها رجل الأعمال الروسي في خدمة مصالح بوتين، حتى “يتم استعمالها في الدفاع عن أوكرانيا، وفي إعادة المهاجرين إلى أوطانهم، وفي إعادة بناء البلد”. وقد جاء أكثر نقد لاذع على لسان فيكتوريا نولاند، وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية، إذ صرّحت في حوار لها على القناة الإسرائيلية رقم 12: “يجب علينا أن نضغط على نظام بوتين، وأن نحول بينه وبين جميع العائدات التي يحتاجها، وأن نضغط على الأثرياء المقرّبين منه”، مضيفة أنه من المؤكد أن إسرائيل “لا تريد أن تصبح آخر ملجأ للمال القذر الذي يغذي حروب بوتين”. وختمت نولاند حديثها قائلة إن التزام إسرائيل بالعقوبات الدولية هو أهم بالنسبة لواشنطن من جهود الوساطة التي يقوم بها رئيس وزرائها. ووفق آرون ديفيد ميلر، أحد العناصر البارزة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، فإن هذه التصريحات تمثّل “أقسى هجوم من طرف واشنطن على السياسة الإسرائيلية منذ وقت طويل جدًا”7.

1« Ukraine and Russia explore neutrality plan in peace talks »، “فايننشال تايمز”، 16 مارس/آذار 2022.

2« Should Israel arm Ukraine ? Israeli generals speak out »، هآرتس، 16 مارس/آذار 2022.

3« The great Jewish oligarchs escape : « The ground is trembling. They will steam into Israel »، هآرتس، 11 مارس/آذار 2022.

4« Nothing excuses Israel’s moral failure on Putin and his war in Ukraine »، هآرتس، 4 مارس/آذار 2022.

5« Nothing excuses Israel’s moral failure on Putin and his war in Ukraine »، هآرتس، 4 مارس/آذار 2022.

6« ’Bennett wants Ukraine to surrender’ : Ukraine senior official says Israel’s mediation is useless »، هآرتس، 11 مارس.آذار 2022.

7« U. S. growing alarmed over Israel’s safe harbor for Russian oligarchs »، هآرتس، 13 مارس/آذار 2022.