العراق. من الطائفية إلى المحاور الإقليمية

منذ الغزو الأمريكي للعراق في 2003، عاشت البلاد على وقع المواجهة الطائفية بين الشيعة والسنة، والتي زاد من حدتها الوجود الأمريكي والجوار الإيراني. لكن التحالفات الجديدة التي ظهرت غداة الانتخابات التشريعية تبرز تغيّر المعادلات السياسية، خاصة مع دخول فاعلين إقليميين على الخط، كقطر وتركيا والإمارات العربية المتحدة.

في الثلاثين من آذار/مارس 2022 كتب زعيم التيار الصدري في العراق مقتدى الصدر على حسابه في تويتر أنه يفضّل “الانسداد السياسي” على “حكومة توافقية محاصصتية”، في إشارة إلى قِوى “الإطار التنسيقي”، وهو تكتل سياسي يضم قوى سياسية شيعية معترضة على نتائج الانتخابات، قبل أن تصادق عليها المحكمة الاتحادية العليا موفى ديسمبر/كانون الأول 2021.

موقف الصدر هذا جاء بعد فشل ثانٍ لتحالف “إنقاذ وطن” الذي يضم “الكتلة الصدرية” بزعامته و“الحزب الديمقراطي الكردستاني” بزعامة مسعود بارزاني، وتحالف “السيادة” بزعامة رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي من عقد جلسة التصويت على اختيار رئيس الجمهورية. ولم يتمكن الصدر حتى اللحظة رغم مرور نحو 6 أشهر على إعلان نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 2021 من تشكيل حكومة “الأغلبية الوطنية” التي يدعو إليها، بسبب حاجة تحالفه إلى 25 نائباً على الأقل. هذا التحالف الذي شكّله الصدر (73 مقعدًا من مجموع 329) مع الحلبوسي (37 مقعدًا) وبارزاني (37 مقعدًا) هو الأول من نوعه في العراق الذي يضم قِوى شيعية وسُنية وكردية، لكن خصوم الصدر الشيعة يعتبرونه “تحالفاً إقصائياً” لتشكيل حكومة يكون فيها الصدر الممثل الوحيد للقِوى الشيعية.

يشعر الصدر الآن بحالة من الانكسار رغم قوته السياسية والشعبية وكذلك المسلحة، فخصومه الشيعة تمكنوا في يومي 26 و30 من آذار/مارس 2022 من كسر نصاب جلسة مجلس النواب (220 نائبًا) لمنع اختيار ريبر أحمد خالد من الوصول لرئاسة الجمهورية، على اعتباره مرشح حزب الحزب الديمقراطي الكردستاني للمنصب1. والحال أنه لا يمكن الذهاب لتشكيل الحكومة ما لم يُحسم ملف اختيار رئيس الجمهورية، فالأخير هو الذي سيكلف -في غضون أسبوعين بعد انتخابه- مرشح “الكتلة الأكبر” لتشكيل الحكومة العراقية. لكن لم يتمكن التحالف حتى الآن سوى من التجديد لمحمد الحلبوسي رئيساً لمجلس النواب.

دخل العراق في الأشهر الأخيرة حالة من الانسداد السياسي بسبب الخلافات الكردية-الكردية على مرشح رئاسة الجمهورية، أي الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة بافل طالباني نجل الرئيس العراقي الأسبق. إذ يصر حزب بارزاني على أن يدفع بأحد مرشحيه للمنصب ويزاحم حزب عائلة طالباني التي استحوذت على المنصب منذ عام 2005.

هذا الخلاف ليس بجديد، فهو جزء من صراع المحاور الإقليمية. إذ يُتهم الحزب الديمقراطي بالقرب من الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في المنطقة ومن ضمنهم إسرائيل، بينما يُتهم الاتحاد الوطني بالقرب من إيران وحلفائها في بغداد. لذا فإن الصراع على منصب رئيس الجمهورية ليس داخلياً فحسب، فإيران ترفض أن يذهب المنصب لصالح حزب بارزاني، لذا تستمر هي وحلفائها في بغداد بدعم الرئيس الحالي برهم صالح والمنتمي للاتحاد الوطني الكردستاني.

يقول عضو في الاتحاد الوطني الكردستاني لموقع “أوريان 21”: “لا يمكن منح منصب رئيس الجمهورية لحزب بارزاني. هذا يعني أنه سيستحوذ على هذا المنصب علاوة على استحواذه حاليا على منصب رئيس إقليم كردستان (الذي يشغله حاليا مسعود بارزاني)، وكذلك منصب رئيس حكومة إقليم كردستان (الذي يشغله حاليا مسرور بارزاني، وهو نجل مسعود)”. أما مسعود بارزاني، فهو يعتبر هذا الصراع عائليا، لا بين حزبين، ذلك أنه لم يُقدم للمنصب أي شخصية من غير عائلته. فالمرشح السابق هو وزير المالية السابق هوشيار زيباري الذي رفضت المحكمة الاتحادية ترشيحه، وهو خاله. أما المرشح الجديد ريبر أحمد خالد، فهو فهو كذلك من عائلة البارزاني.

أنقرة، موحّدة الأحزاب السنية

تغير الوضع السياسي في العراق منذ أن اندلعت احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019، عندما تظاهر عشرات آلاف العراقيين لنحو عام ضد الفساد والسلاح وسوء الإدارة. اعتبر البعض تلك الاحتجاجات لحظة فاصلة بالنسبة للنظام السياسي الذي شكلته ودعمته الولايات المتحدة الأميركية بعد أبريل/نيسان 2003. لم يشهد تاريخ العراق الحديث احتجاجات مثل تلك التي شهدها في عام 2019، وأسهمت بدعم من مرجعية رجل الدين الشيعي علي السيستاني من دفع حكومة عادل عبد المهدي المدعوم من إيران إلى الاستقالة، والمجيئ بحكومة مصطفى الكاظمي المحسوب على العلمانيين.

يعتبر البعض أن عراق ما قبل احتجاجات 2019 ليس هو عراق ما بعدها، في إشارة إلى أن المعادلة السياسية تغيرت. فمن 2004 إلى 2018، تشكلت الحكومات على أساس توافقي توزع حقائبها بين المكونات الثلاث الأكبر: الشيعة – السُنة – الأكراد، حيث كانت كل مجموعة تدخل في تحالف لوحدها. لكن المعادلة تغيرت ولم تبق مثلما كانت عليه في السابق. ورغم أن الإطار العام وفقاً للعُرف السياسي بتوزيع الرئاسات الثلاث ما زال باقياً، إلا أن آليات الوصول إليه تغيّرت مع تغير معادلة التحالفات.

لقد ظهرت خلال العامين الأخيرين تأثيرات جديدة في السياسة العراقية، فلم تعد التأثيرات أميركية وإيرانية وسعودية فحسب. إذ نجد اليوم تأثيرات جديدة تتمثل بالتحالف القطري التركي، ودخول الإمارات بقوة إلى الملف العراقي وإدارته بدلاً عن السعودية. مقابل هذا كله، نجد تراجعاً إيرانياً على المستوى السياسي بعد خسارة حلفائها في الانتخابات الأخيرة. تمكنت تركيا التي ركزت كثيراً على الملف العراقي في العامين الأخيرين من خلال رئيس جهاز مخابراتها هاكان فيدان، من جمع الأحزاب السُنية التي عاشت سنوات تشتت وخلافات كبيرة، في تحالف واحد اسمه “تحالف السيادة”. كما نجحت أنقرة في تهيئة الساحة أمام الناخبين السُنة قبيل الانتخابات، حيث استقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان القائدين السنيين الرئيسيين محمد الحلبوسي وخميس الخنجر كلا على حدة في يوم واحد. وهكذا قبل الانتخابات التشريعية بأسبوع، تمكن أردوغان من الصلح بينهما بعد فترة توتر وخلافات كبيرة، وبذلك توحيد الأحزاب السُنية لأول مرة. ووفقاً لمصادر تواصلنا معها، اقترح أردوغان على الزعيمين السُنيين آنذاك أن يكون محمد الحلبوسي رئيساً لمجلس النواب وخميس الخنجر نائباً لرئيس الجمهورية. ويبدو أن هذا الاقتراح يسير وفق ما خُطّط له حتى الآن.

تراجع إيراني

لعب التقارب الإماراتي التركي دوراً كبيراً في تغيّر المعادلة السياسية في العراق، فالسُنة الذين كانوا منقسمين بين الذهاب باتجاه محور قطر-تركيا أو السعودية-الإمارات توحّدوا الآن، أو وحّدهم التقارب الإماراتي التركي، على الرغم من بقاء بعض قيادات الحزب الإسلامي (جناح الإخوان المسلمين في العراق) قريباً، بل حليفاً لإيران.

ورغم أن إيران تمكنت في العقد الماضي من شق الصف السياسي السُني وكسب بعض أطرافه، إلا أنها اصطدمت اليوم بتوحيده من قبل تركيا، وهي ضربة وجهت لإيران بالإضافة إلى الضربة التي تلقتها عندما هُزم حلفاؤها في الانتخابات، علاوة على الانقسامات التي جدت داخل البيت السياسي الشيعي.

لم تعد طهران -وهي أبرز الداعمين للأحزاب السياسية الشيعية وجماعاتها المسلحة- قادرة على أن تُدير البيت الشيعي في تحالف واحد. فبعد فوز الصدر وتحالفه مع بارزاني والحلبوسي، شعرت الجمهورية الإسلامية بخطر كبير، لذا بعثت برسائل تهديد إلى زعماء الأكراد والسُنة بضرورة ألا يذهبوا مع زعيم التيار الصدري لوحده دون بقية الأحزاب الشيعية.

تواجه إيران اليوم خطر انقسام الأحزاب الشيعية واقتراب بعضها من دول الخليج والولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن اختلافها بشأن التشكيلة الحكومية الجديدة. وكردّ على ذلك، لم يفتأ حلفاء إيران في العراق يتهمون “التحالف الثلاثي” بأنه مدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية والإمارات وإسرائيل.

هذا التغيّر أعاد الصراع من جديد بين رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي وعدوه اللدود مقتدى الصدر، إذ عاد الأول للواجهة بعد حصوله على 34 مقعداً نيابياً، مقابل 25 مقعداً في انتخابات 2018. هذا الفوز أعاد التوازن داخل البيت السياسي الشيعي الذي يحاول الصدر أن يُسيطر على قراره وأن يكون زعيماً سياسياً أوحداً له -أو على الأقل الزعيم الأعلى- وهذا ما لا تقبل به الفصائل الشيعية المسلحة، وكذلك بقية الأحزاب، بضمنهم المالكي وعمار الحكيم زعيم تيار “الحكمة” الوطني.

1وفق توافق عرفي، يتم انتخاب رئيس جمهورية كردي، بينما يعود منصب رئيس الوزراء للشيعة ومنصب رئيس البرلمان للسنة.