بيئة

تلوّث الهواء في جنوب العراق. ميسان تختنق

أدى رفع الحصار المفروض على العراق سنة 2003 إلى انتعاش نسبي في السوق المحلية وانتشار غير مدروس للعديد من المعامل الخاصة واطئة الكلفة، والتي تشتغل من خلال حرق النفط الأسود في الهواء الطلق مثل معامل الطابوق. ويتركز وجود هذه المعامل في مناطق جنوب العراق بسبب قلة المراقبة الحكومية وازدياد نفوذ المليشيات والعشائر المسلحة، ما له تداعيات كارثية على البيئة وكذلك على الوضع الصحي للسكان.

فبراير/شباط 2021. مداخن معامل الطابوق في منطقة الطيب، محافظة ميسان.
حسين فالح/وكالة فرانس برس.

يُعتبر جنوب العراق موطناً للميليشيات المسلحة الشيعية التي تأسست بعد سنة 2003، جرّاء حالة عدم الاستقرار بعد الغزو الأمريكي للعراق. وتقع محافظة ميسان اليوم، المعروفة بصبغتها العشائرية، ضحية هذا الوضع. فقد مكّنت الأعراف الفضفاضة التي يفسّرها شيوخ هذه العشائر من بسط سلطة رمزية ومادية في كل أرجاء المحافظة، ما أدى إلى انفلات أمني وفساد إداري، وتفاقم ظاهرة الإفلات من العقاب التي اعتادت عوائل بعض شيوخ هذه العشائر عليها.

ابتزاز عشائري

تُوزّع مناطق محافظة ميسان جنوب العراق ديموغرافيا -خصوصا خارج مركز المحافظة- وفق الانتماء العشائري. وتبسط تلك العشائر نفوذاً مهيمناً بصورة كبيرة على الرقعة التي تشغلها، ونجد من بينها بني لام، والبهادل، وبني كعب، والساعدي، والزيداوي، والبومحمد… وغيرها من التي تتمتع بقوة على المستويين المادي والبشري. وقد نجح بعضها في إيصال أفرادها المخلصين لمجلس النواب، ما أتاح لأبنائها إنشاء معامل واطئة الكلفة وعالية الإنتاج في الرقعة الجغرافية التي تبسط نفوذها عليها.

استثمرت الميليشيات الناشئة المرتبطة بهذه العشائر بكثرة في مشاريع البناء ابتداءً من سنة 2009، وفق ضابط في الأمن الوطني رفض الكشف عن اسمه، وقد أشار المصدر إلى تعرّض عناصره للتهديد بشكل مستمر. إذ تواجه القوات الأمنية في المحافظة ملاحقة عشائرية أشبه بتلك التي نشاهدها في أفلام المافيا، حيث تتعرّض للابتزاز، وفي بعض الأحيان للنزوح داخليا تحت تهديد السلاح. ويعتبر المصدر اختيار وزير الداخلية مفتاح هذه الأزمة، على اعتبار أن الوزارة “كانت دائماً حصّة ميليشيا”منظمة بدر“التي كانت ترعى ولادة الميليشيات المحلية الأخرى، بحكم قدم تجربة أفرادها التي تمتد إلى بداية الحرب العراقية الإيرانية” سنة 1981.

تسيطر ميليشيات “عصائب أهل الحق” و “كتائب حزب الله” على معظم هذه المشاريع في محافظة ميسان، وقد تدربت في إيران ولبنان وسوريا واليمن على إنشاء مشاريع اقتصادية ضخمة للمحافظة على زخم عملياتها. ووفق ضابط رفيع المستوى في جهاز المخابرات العراقي لم يرغب هو الآخر في الكشف عن هويته، “يتجاوز حجم تجارة هذه الميليشيات مع الشركات الأجنبية في المشاريع النفطية المليار دولار بحسب تقارير داخلية تستخدم في تمويل أنشطة تخريبية في المنطقة”.

اعتمدت الدولة التراخيص النفطية كاستراتيجية لرفع الإنتاج النفطي، ما رفع الطلب على مواد البناء الأولية وأهمها الطابوق، لتطوير الحقول النفطية في جنوب العراق من قبل شركات عالمية، بعقود خدمة طويلة الأمد. ونتيجة لذلك من جهة، واتساع رقعة مشاريع الشركات الأجنبية من جهة أخرى، ازدادت مخلفات المعامل الخاصة والشركات النفطية. حيث تطلق هذه المؤسسات العديد من الأبخرة المحملة بالمكونات والمركبات المسرطنة التي جعلت الهواء الجوي في محيط هذه المعامل والشركات غير قابل للتنفس.

قرى منكوبة

يقدم أهالي القرى المحاذية لمواقع عمل المؤسسات المخالفة العديد من الشكاوى إلى السلطات المحلية لكن من دون جدوى. قرية “أم شين” هي إحدى القرى الميسانية المنكوبة، وقد اعتكف باسم جمعة، أحد سكانها البالغ من العمر 38 عاما، على تقديم العديد من المناشدات على صفحات التواصل الاجتماعي ليوصل صوت قريته إلى أسماع الحكومة من أجل إنصافها. ابتُليت “أم شين” كغيرها من القرى المجاورة بكثرة الإصابات السرطانية الناتجة عن الانبعاثات الملوثة للهواء الجوي. ويؤكد باسم جمعة: “نسمع بشكل يومي ذات الأخبار عن إصابات جديدة بالأمراض السرطانية بسبب الدخان الكثيف الذي تُفرزه معامل الطابوق والإسفلت المنتشرة في منطقتنا”. ينظر باسم إلى الأرض ويتنهد قليلا ليقول: “فقدنا أخي الأكبر بعد إصابته بالسرطان، وتوفي عن عمر يناهز 40 عاماً”.

تتبع “أم شين” إداريا مدينة العمارة التي تقع جنوب شرق العاصمة العراقية بغداد بحوالي 320 كم، وهي ليست المنطقة الوحيدة التي تشكو إصابات سرطانية، ولكنها واحدة من المناطق التي أحصيت فيها أكثر نسب للإصابات في المحافظة. يعيش في قرية “أم شين” وفي كلّ قرية من القرى المجاورة لها مايقارب 400 شخصاً، تُوفي منهم في السنوات الأخيرة 61 شخصاً بسبب الأمراض السرطانية. وتُعد ميسان ثاني أكبر محافظة نفطية بعد البصرة إنتاجاً.

هذا وقد ضم مجموعة من أبناء قرية “الابيجع” المنضوية لمنطقة فدك الزهراء، أصواتهم إلى صوت باسم في إطلاق مناشدتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي لكشف الكم الهائل من التلوث الهوائي في المنطقة.

تحذير متكرر

تلوث الهواء الجوي في الجنوب العراقي حالة مشخصة من قبل المعنيين والمهتمين بالجانب البيئي على المستوى الحكومي الرسمي. وقد وضّح لنا سمير عبود، مدير بيئة ميسان، الوضع قائلا:

الاعتبارات القياسية المعتمدة نتيجة زيادة المعامل الأهلية للطابوق والإسفلت والقير المؤكسد والمؤسسات النفطية أدت بمجموعها إلى تلوث الهواء المؤثر على الصحة العامة سواء داخل المدينة أو خارجها. ازدادت أعداد معامل الطابوق في ميسان لتصل إلى ألف معمل من دون أدنى تخطيط لقيامها. إنها تحيط بالمدن، ويعمل أغلبها بمخالفات بيئية عن طريق استخدام النفط الأسود، ثم تنقل الرياح دخانها إلى المناطق السكنية.

فعلا، بدأت التأثيرات السلبية على الواقع البيئي خصوصا في جنوب العراق منذ سنة 2008. حيث نقلت جريدة المدى في عددها الصادر بتاريخ 23 سبتمبر/أيلول 2011، تحذير مسؤول لجنة الصحة في مجلس محافظة ميسان السابق ميثم الفرطوسي من كارثة بيئية، في حال لم يُتدارك تردي الواقع البيئي في المحافظة، مبيّنا أن “ثاني الملوثات خطورة هي الغازات السامة والأدخنة المتصاعدة من معامل الطابوق التقليدية”. هذه التحذيرات تكررت على مراحل مختلفة في السنوات اللاحقة، وفق مديريات البيئة والصحة في محافظة ميسان.

الرقابة التي تفرضها مديرية البيئة في المحافظة لا تتعدى الأساليب التقليدية في الحد من ظاهرة تلوث الهواء، كونها مؤسسة حكومية ولا تمتلك آليات علمية للحد من ارتفاع نسب التلوث. يشرح عبود:

وصلت إجراءات مديريتنا القانونية إلى حد فرض الغرامات على المؤسسات النفطية المخالفة، لكن ليس لدينا إجراء قانوني آخر، إذ تفتقد مديرية البيئة في ميسان لوجود طريقة علمية وعملية لقياس ملوثات الهواء لكل نشاط. لذا يصعب قياس الانبعاثات الكربونية أو المحددات الملوثة في الهواء المحيط.

“خلل مؤسساتي”

كذلك، فإن انعدام وجود قاعدة بيانات لمعرفة نسب المكونات الطبيعية والمحددات الملوثة للهواء الجوي في المحافظات الجنوبية، كانت ولا تزال إحدى معوقات البحوث العلمية الهادفة إلى إقصاء هذه المعضلة. تحدثنا إلى الدكتور صالح حسن، أستاذ التلوث البيئي في كلية العلوم بجامعة ميسان، حول ندرة الدراسات والبحوث في مجال تلوث الهواء، بسبب افتقار الجامعة والمؤسسات الأخرى للأجهزة الحديثة، ناهيك عن قلة الإمكانيات المادية وانعدام الدعم. ويؤكّد الدكتور حسن أن “غالبية الغازات الناتجة عن عمليات احتراق النفط والغاز تسبّب السرطان”.

يعزى سبب عدم وجود قاعدة البيانات السليمة إلى “خلل مؤسساتي”، وفق أحد المدراء السابقين لمركز معالجة السرطان في محافظة البصرة. وأكّد أن السلطات عملت -وعلى مراحل مختلفة منذ اكتشاف النفط في العراق- على تدمير كل ما يمكن أن يعيق تدفق الذهب الأسود. فقد خطت الأنظمة المتتالية مجموعة من القوانين ضيقت على الباحثين والصحفيين الوصول إلى المعلومة، “لأن وصولها إلى عامة الناس يعني إغلاقا تاما وتعويضات لا تحصى قد تمتد إلى أجيال” اضاف المصدر.

ويتعرض الصحفيون والعاملون في الإعلام للمساءلة في حال نشر معلومة تخصّ مؤسسة حكومية، ويضطرون أحيانا إلى تجنب مواضيع مهمة أو طرح معلومات حساسة بسبب عدم دعمها بأدلة امتنعت الجهات ذات العلاقة عن مدهم بها، وفق وسائل إعلام.

لا توجد كذلك تعبئة ميدانية لملأ الفراغ الذي تركته المؤسسات الحكومية. وقد أكّدت المنظمات المجتمعية العاملة في محافظة ميسان والفرق التطوعية والناشطين عدم وجود منظمة أو فريق يعنى بالجانب البيئي ويعمل على الاهتمام بظاهرة التلوث في المحافظة. كما تحدث إلينا أحمد صالح نعمة، وهو أخصائي في التوثيق وناشط بيئي، عن افتقار محافظة ميسان لمنظمة بيئية لتشخيص الواقع، مشيرا إلى “أن المنظمات البيئية في العراق قليلة جدا”.

تداعيات على النظام البيئي

بسبب عدم وجود الاهتمام الكافي من قبل الحكومة المركزية، سعت مديرية بيئة ميسان لجمع بيانات علمية عن واقع التلوث بصورة عامة، بالتعاون مع جامعة ميسان، من أجل تشخيص أسباب التلوث وإيجاد حلول واقعية. حيث أعلنت كلية العلوم في جامعة ميسان في منتصف شهر يوليو/تموز من عام 2021 عن توقيع مذكرة تفاهم بينها وبين مديرية بيئة المحافظة تضمنت أطر التعاون في المجال البحثي التي تخص الطرفين، والاستفادة من خبرة الباحثين والأساتذة لحل المشكلة التي تواجه المحافظة.

وعلى الرغم من ندرة البحوث العلمية الخاصة بموضوع تلوث الهواء الجوي في الجنوب، استطعنا بعد البحث والتقصي المستمرين العثور على واحدة من أندر البحوث التي أجريت حول الموضوع. حيث قدمت الباحثة هدى عادل البطاط عام 2013 بحثاً علميا بعنوان “تقدير ملوثات الهواء المنبعثة عن صناعة الطابوق جنوب محافظة ميسان”. وكشف البحث عن وجود كميات كبيرة من الكربون الأسود في هواء قرية “الطبر” في ميسان، والذي ينتج من الحرق غير التام للنفط الأسود في معامل الطابوق المنتشرة في المنطقة. بالإضافة إلى وجود تراكيز عالية من ملوثات الهواء الغازية (Co, NOx, So2, H2S) والهيدروكربونات والمركبات العضوية الضارة في هواء المنطقة، بالمقارنة مع المستويات المتفق عليها عالميا في اتفاقية باريس للمناخ، والتي وقّع عليها العراق سنة 2015.

ووفق بحث البطاط، تتسبب حركة الرياح وسرعتها في تشتت الملوثات ونقلها إلى مسافات بعيدة عن مصادرها، وبالتالي اتساع رقعة التلوث. ولا تؤثر هذه الملوثات في الهواء الجوي فقط، بل تنتقل كذلك إلى المحاصيل الزراعية والحيوانات الداجنة، ما يرسّخ المواد السامة في أعضاء مختلفة من جسم الإنسان من خلال استهلاكه لهذه المنتجات. وقد بيّن لنا الأخصائي في التغذية د. حسن فيصل أن الملوثات التي تصل إلى الجهاز الهضمي تؤثر على أي خلية مهما كان موقعها في جسم الإنسان “لتحولها من خلايا طبيعية إلى خلايا مسرطنة”. كما بينت دراستها احتواء تربة ونباتات المنطقة المدروسة تراكيز عالية من الهيدروكربونات، وتأثر محتوى الكلوروفيل في الأوراق النباتية بزيادة حالة التلوث.

لم تكن البطاط بمعزل عن المتاعب والمشاكل خلال عملها على إنجاز هذا البحث، فقد تعرضت للتهديد من قبل بعض أصحاب معامل الطابوق والشركات الخاصة، وصلت حدّ التهديد بالتصفية الجسدية من قبل عناصر ادعوا انتماءهم إلى ميليشيا “عصائب أهل الحق”. وقد تم فعلاً دفن سيارتها الخاصة بواسطة جرّافة، واضطرت البطاط لاصطحاب أحد إخوتها في المرات اللاحقة لإنهاء البحث. هذه الحوادث رسّخت مفاهيم العنف ضد العلم والخوف من نتائج البحث والتقصي، حيث تبقى العلامة الوحيدة على انتشار التلوث هي انتشار السرطان والموت.

طيف الطاقة المستدامة

لم يقتصر تأثير التلوث الهوائي على أبناء المحافظة، بل تعدّاه ليصل إلى أهوار ميسان والحويزة الشرقية التي تعاني “من كثرة إطلاق المواد الكربونية والغازات السامة المنبعثة من محطات عزل الغاز التابعة لشركة بترو جاينا الصينية العاملة في حقل الحلفاية النفطي في ناحية المشرح وقضاء الكحلاء”، وفق أحمد صالح نعمة الذي يضيف: “يُضرّ هذا كثيرا التنوع الإحيائي ويتسبب في موت الكثير من الحشرات التي تُعدّ جزءاً من التوازن الطبيعي في منطقة الأهوار المدرجة على لائحة التراث العالمي”.

ناشدت مجموعة من أهالي ميسان المفوضية العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في المحافظة بشأن تأثر أبنائها بدخان المعامل القريبة، وإصابة العديد منهم بالأمراض السرطانية ووفاتهم جرّاء ذلك، مطالبين بتدخل مباشر لإنهاء تلك المعاناة، وفق مصدر من داخل المفوضية تحدّث إلينا شريطة عدم الكشف عن اسمه.

العراق من بين الدول الموقعة على اتفاقية باريس للحد من انبعاثات الكربون لسنة 2015، وقد قامت الحكومة بالفعل بالتعاقد مع شركة توتال الفرنسية لإنشاء محطات طاقة توليد الكهرباء بالطاقة المستدامة والغاز الطبيعي في منطقة الجنوب. إلا أن مختصين رجحوا فشل هذه المشاريع بحل مشكلة تلوث الهواء في ميسان بسبب “انعدام البنى التحتية اللازمة لإقامة هذه المشاريع، واعتماد الشركات الأجنبية على الشركات المحلية لتوريد بعض مواد البناء مما يعيد الأزمة إلى المربع الأول”، وفق مهندس بيئي في شركة نفط ميسان، تحدث لنا شرط عدم الكشف عن هويته.

كانت ولاتزال منطقة جنوب العراق مسرحا مهما للأحداث التي غيرت تاريخ البلاد، ابتداء من الاستعمار البريطاني للعراق سنة 1917، حين ركّزت القوات البريطانية تواجدها في جنوب العراق بسبب المقاومة المستمرة، وصولا إلى حروب الخليج الثلاثة. هذه العمليات العسكرية تسببت بطحن تام لكافة البنى التحتية على مدى 40 سنة. كما أدى انعدام الاستقرار إلى الاستخفاف بالحياة البشرية ومعها البيئة الحاضنة. فقد أكد لنا المصدر في جهاز المخابرات العراقية في نهاية حديثه أن “كل أنواع الاستقرار، من بينها الحالة البيئية، هي رهن الاستقرار الأمني”.