تخطيط عمراني

في الخليج، ينخفض صوت محرّكات السيارات أمام التحدي المناخي

تحاول مدن الخليج التي تنتصر لعقيدة السيارة الفردية، التوفيق بين البنى التحتية الحالية وأنماط تنقّل أكثر استدامة. معادلة ذات تكلفة باهظة تفرضها حالة الطوارئ المناخية والضرورات الاقتصادية.

“نحن بحاجة إلى تحويل مفهوم المدينة التقليدية إلى مدينة مستقبلية”. بهذه الكلمات اختار ولي عهد المملكة العربية السعودية محمد بن سلمان الإعلان عن “ثورة حضارية” خلال عرض تقديمي مقتبس من تقنية “الكلمات المفاتيح” التي اشتهر بها الرئيس الراحل لشركة “آبل” التجارية، ستيف جوبز. وفي مقطع ترويجي تتأرجح نبرته بين مشاهد أفلام الخيال العلمي وإعلانات شركة ناشئة في كاليفورنيا أمام جمهور من المستثمرين، تقول المعلّقة بالإنكليزية: “ماذا لو تخلّصنا من استخدام السيارات؟ ماذا لو تجاوزنا منطق الجادات والشوارع؟ ماذا لو ابتكرنا المساحات العامة بطريقة جديدة وبنينا حول الطبيعة بدلا من أن نبني فوقها؟”

يَعد مشروع “ذا لاين” (The Line) أو الخط، وهو مشروع مدينة مستقبلية على شكل خطّ، ببيئة حضرية تتجاوز منطق الاعتماد الكلي على السيارات لصالح مواصلات عمومية عالية السرعة تحت الأرض، تربط أحياء تكاد تكون على شكل جزر، سيتم إنشاؤها على خط مستقيم يبلغ طوله 170 كيلومترا.

بناء أنظمة بيئية خالية من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون انطلاقا من لا شيئ، في عصر مكافحة التغير المناخي، هو الاتجاه الذي اختاره القائد الفعلي للمملكة، التي لا تزال اليوم أكبر مصدر للنفط الخام في العالم والدولة الخليجية الوحيدة -إلى جانب الإمارات العربية المتحدة التي التزمت بتحقيق الحياد الكربوني.

“السؤال الأساسي هو: هل نستثمر في التنقل الحضري فقط للقيام بعملية دعائية، أم حقًا لإعادة ابتكار الطريقة التي نتحرك بها في مدن الخليج الحديثة؟”. سؤال يطرحه مسؤول ينتمي إلى دوائر صنع القرار للتخطيط العمراني في إحدى دول الخليج، طلب عدم الكشف عن هويته. ويضيف: “الخطابات العامة في الخليج مليئة بوعود التنقل المستدام، ولكن كيف يتم تنفيذ ذلك على أرض الواقع؟ هناك هوّة مذهلة بين الطموحات والأطر الاستراتيجية الحقيقية”.

نفس الريبة تحوم حول مشروع المركّبات الجوية ذاتية القيادة في الإمارات العربية المتحدة بسبب تكلفته الطاقية، حتى وإن كان كهربائيًا. وبعد بضعة أشهر فقط من التقديم الذي قام به محمد بن سلمان، يبدو أن وعد “ذا لاين” قد تغيّر. وقد صرّحت مصادر تعمل على هذا المشروع لوكالة “بلومبرغ” أن الهدف الآن بات بناء “توأم من ناطحتي سحاب بارتفاع حوالي 500 متر، يمتد أفقيًا على عشرات الكيلومترات”.

مدن ذات كثافة سكانية منخفضة جدا

تتخبط مدن الخليج الفعلية من جهتها في خطيئتها الأصلية. فبعد الصادرات الأولى من الذهب الأسود في منتصف القرن العشرين، تخلى سكان الخليج العربي تدريجياً عن صيد الأسماك وتربية الماشية، وهاجروا نحو المدن، بوصفها المراكز الاقتصادية لعصر النفط. وفي مواجهة هذا التدفق السكاني، خرجت من الأرض مدن مستلهمة من الحلم الأمريكي في الخمسينيات من القرن الماضي.

تشهد المدن الساحلية -مثل الدوحة ودبي ومسقط- التي بُنيت حول ميناء، بوصفه المركز الحيوي في ذلك الوقت، تحوّلًا سريعًا على خلفية تدفّق دولارات النفط. اكتسبت الضواحي السكنية والتنقل عبر السيارة الفردية شعبيتها، ما تسبب في تمدد حضري بات ضارّاً اليوم، بالإضافة إلى تقسيم المناطق لتصبح ذات استخدام وحيد، وهي استراتيجية للتهيئة الحضرية تتمثل في تجميع المساكن في منطقة والمتاجر في منطقة أخرى، والأنشطة الصناعية في منطقة أخرى، إلخ.

يعلّق المصدر المذكور آنفا: “أشعر بالقشعريرة عندما أرى أن بعض قواعد التخطيط التي تستثني البيع بالتجزئة أو الاستعمال المختلط في المناطق السكنية لا تزال قائمة هنا. إذا أردنا تطوير التنقل المستدام، علينا أن نوفّر أماكن ذات استعمال متعدّد توفر خيارات للحياة والعمل والترفيه”. تغيّر العصر، وهو أمر سبق وأن وصفه الأكاديمي محمد رياض سنة 1981، عندما أستاذا للجغرافيا بجامعة قطر: “قوّضت الاكتشافات النفطية بفُجائِيَّة لا مثيل لها جذور نظام بيئي كان يعكس تكيّفا مثاليّا مع بيئة قديمة قدم أجيال عديدة”.

بعد بضعة عقود، تعود هذه الخيارات الاستراتيجية -التي تمت الإشادة بها في فترة ما- لتطارد المخطّطين العمرانيين في القرن 21، حيث تحتل مسألة الاستدامة البيئية مكانة متزايدة في سياسات التخطيط العمراني العمومية. يقول كريم الجندي، وهو مستشار في الاستدامة الحضرية مقيم بلندن ومؤسس مبادرة “كاربون” لتعزيز الاستدامة في مدن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: “تم تصميم المدن في الخليج بناء على تخطيط منخفض الكثافة، وهذا لا يجعل النقل العمومي مجديا من الناحية المالية، لأن عدد المستخدمين منخفض جدا، تماما كما هو الحال في العديد من المدن الأمريكية”.

تعود صعوبة توفير النقل العمومي إلى حد كبير إلى الرغبة في التوسع الحضري. إذ تقلّ الكثافة السكانية في العاصمة السعودية الرياض -15 ألف نسمة لكل كلم²- ثلاث مرات عن توصيات برنامج الأمم المتحدة للإسكان البشري من أجل تخطيط عمراني مستدام. والأسوأ من ذلك هو انخفاض الكثافة السكانية في المراكز الحضرية في الوقت الذي يعد فيه ولي العهد ببناء مدن جديدة، مما يزيد في مشكلة التمدد الحضري. ففي مكة، تراجعت الكثافة في الكيلومتر المربّع إلى النصف بين عامي 1983 و2010.

“أصوات بدأت ترتفع”

أمام ضغط دولي متنام بخصوص القضايا البيئية، تجد دول الخليج -المصنّفة من بين البلدان الأكثر تمدّنا في العالم- نفسها أمام مفترق طرق في تاريخها الحديث: إما التمسك بأي ثمن بالاستعمال الكلّي للسيارات، أو مراجعة ممارساتها من حيث التنقل الحضري، وبالتالي تخطيطها العمراني. القضية هنا هي أيضا قضية صحة عمومية، إذ يسجل الكويت، وبعده الإمارات العربية المتحدة، أعلى نسب في العالم لربو الأطفال المرتبط بتلوث الطرقات. في دبي التي تمثّل مركزاً تجارياً سبّاقاً في تغيير الاتجاهات في المنطقة منذ عقود، يشير كميل عمون، الذي كان مستشاراً في التنمية الحضرية المستدامة لدى حكومة الإمارة من 2007 إلى 2018، إلى وجود “تطوّر في النهج، مع إدراك بأنه بات من غير الممكن تجنّب مسألة التغير المناخي”.

لاحظ كميل عمون خلال العقد الذي أمضاه في دبي “تطوّر وعي البعض”، كما “بدأت أصوات ترتفع ضمن المؤسسات الحكومية وبعض المناطق الحرة لتقول بضرورة تطوير بدائل للسيارة. وأصبحت هذه الأصوات مسموعة أكثر فأكثر”. وفي 2009، دشّنت المدينة أول شبكة مترو في الخليج (وقد حذت الدوحة حذوها في 2019 في إطار التحضيرات لكأس العالم لكرة القدم لسنة 2022)، تمرّ أساساً على طول طريق الشيخ زايد السريع، وهو عبارة عن لوح خرساني يعدّ 14 ممرّاً ويعبر المدينة من طرف إلى آخر. وقد ألغى مترو دبي، الذي استقله 151 مليون مستخدم سنة 2021، مليار رحلة بالسيارة بين عامي 2009 و2020، حسب تقديرات هيئة الطرق والمواصلات. وبناءً على هذا النجاح، تخطط المدينة للمستقبل. ويلاحظ كريم الجندي، الذي استشارته مؤخرا حكومة دبي، “اهتماما كبيرا” من طرف السلطات بتنقل وتخطيط حضري يتماشى مع الرهانات الحالية.

تعدّ المسألة اقتصادية بامتياز بالنسبة لدبي التي تجذب المواهب ورؤوس الأموال الدولية بهدف التموقع كمركز عالمي رائد قادر على منافسة سنغافورة، لندن أو نيويورك أيضا. فعلى المستوى الاتحادي -تتشكل الإمارات العربية المتحدة من سبع إمارات بما فيها دبي-، تندرج ورقة التنقل المستدام ضمن سياق سياسي يتمثل في تنظيم البلاد مؤتمر المناخ الدولي (28 COP) سنة 2023.

وفق السلطات، يهدف المخطط العمراني الحضري “دبي 2040” -وهو السابع منذ 1960 ويتمحور حول فكرة تحسين جودة الحياة- إلى “تشجيع استعمال وسائل النقل العمومي والمشي وركوب الدراجات واستعمال وسائل النقل المرنة”. لكن على هذا الطموح بوجود تنقّل ناعم في الخليج أن يأخذ بعين الاعتبار الحقائق المناخية القاسية لإحدى أكثر المناطق حرارة في العالم، حيث تتجاوز درجة الحرارة 50 درجة خلال موسم الصيف، على خلفية رطوبة عالية. صحيح أن مدناً مثل مونتريال وهونغ كونغ أثبتت أن المناخات القاسية لا تتناقض بالضرورة مع إمكانية استعمال وسائل النقل العمومي، لكن قدرتها على جذب السكان تعتمد على وجود بنية تحتية مناسبة، مثل محطات حافلات مكيفة.

ومع ذلك، فإن جميع بلدان الخليج لا تُجمع على مبدأ إعادة تحديد طبيعة التنقل الحضري. يقول كريم الجندي: “لا أعتقد أن هناك اهتماما كبيرا للنقل العمومي في الكويت حاليا. ولا توجد أعمال كثيرة على الأرض. كما لا يوجد تحرّك كبير في عُمان في هذا الشأن”. في الكويت، حيث قفز عدد السيارات بنسبة 65% بين 2006 و2019، يلاحظ بمرارة جاسم العوضي، مؤسس مبادرة “كويت كوميوت” التي تم إطلاقها سنة 2018 بهدف توعية السكان حول وسائل النقل العام، بأن “السيارات استحوذت على حياتنا”.

تعود جذور مقاومة العزوف عن الاستعمال الكلي للسيارات أيضا إلى المكانة الاجتماعية التي غالبا ما يمنحها امتلاك سيارة، وأيضا إلى تصور السكان المحليين بأن النقل العمومي مرتبط بالعمال الأجانب. تفسر هذه الديناميكية جزئيا اهتمام دبي والدوحة بالنقل العمومي، حيث إن 90% تقريبا من سكانها هم من العمال الأجانب، خاصة الآسيويين والأفارقة. في الكويت، يقول جاسم العوضي إن مشروع المترو -الذي لا يزال في حالة جنينية- “تحوّل إلى ’نكتة سمجة’، إذ لا تطوّر يُذكر على الأرض”. كما تدهورت شبكة النقل الوحيدة الموجودة في البلاد -شبكة الحافلات- بشكل لا رجعة فيه. ومنذ سنة 1980، هوت نسبة السكان التي تستعمل الحافلات يوميا بـ 86%. ومع عزوف الجمهور عن خطوط الشبكة، قام مشغلو الحافلات بإلغاء خطوط، وركّزوا على تلك التي تغطي المناطق ذات الكثافة السكانية الكبيرة والتي يسكنها غالبا عمال أجانب من ذوي الدخل المنخفض. وهو ما يعزز الفكرة السائدة بين المواطنين الكويتيين بأن الحافلات مخصصة للعمال الأجانب فقط.

سكوتر إلكتروني؟

يشير سيد مناور، المختص في مسائل التخطيط العمراني بالخطة الوطنية القطرية التي تحدد استراتيجية التنمية المكانية للبلاد: “في السنوات الأخيرة، فرضت الدراجات والسكوترات الكهربائية نفسها كحل شعبي للتنقل، خاصة في دبي”. ويرى مناور في إنشاء ممرات مخصصة للسكوترات الكهربائية ووسائل النقل النشطة الأخرى، مثل الدراجة، عنصرا أساسيا للتنقل المستدام، مما يسمح، بمعية شبكة المترو والحافلات، بتقديم حل للتنقل من نقطة الانطلاق إلى نقطة الوصول مماثل لذلك الذي توفره السيارة.

يرى المحللون الذين تمت استشارتهم بأن الحل في الخليج يكمن في تطوير محطات نقل مشتركة، يتمكن فيها الركاب من تغيير وسائل النقل في بيئة مكيفة، أي مثلا الانتقال من الميترو إلى الحافلة أو إلى الترامواي، أو حتى إلى حل التنقل القصير مثل السكوتر الكهربائي.

يجب زيادة الكثافة السكانية حول هذه المحطات من خلال مشاريع تجديد حضري، كما هو الحال مثلا في الدوحة، حيث أدّت إعادة إعمار حي وسط المدينة الذي يُدعى “مشيرب” إلى زيادة الكثافة السكانية حول محطة المترو الرئيسية بالدوحة. يقول المصدر الذي طلب عدم ذكر اسمه: “علينا أن نغيّر طريقتنا في التخطيط لمدن الخليج”. وهو رهان جريء حسب كريم الجندي: “هناك صعوبة لا تُصدّق في ترميم المدن. يتطلب ذلك استثمارات ضخمة”.

فضلا عن المجهودات السارية لتقديم بديل للمركبات التي تسير بالوقود، يتوقع المحللون أن التنقل في الخليج سيُبنى أساسا في المستقبل على السيارة الكهربائية، ومن المرجح في شكلها الذاتي القيادة. تُخطط دبي لوضع أول سيارة أجرة بلا سائق في الخليج في الخدمة سنة 2023. وتسعى هذه الاستراتيجية إلى الحفاظ على البنى التحتية الموجودة، والتي تركز على السيارة الفردية، وهي ترتبط في الغالب بمصالح العديد من الشركات العائلية المؤثرة، بدءا من مستوردي السيارات وشركات البناء. ويعلّق كميل عمون: “لا تزال السيارة الفردية هي الملكة في الذهنيات [...] فقد بُنيت دبي للسيارات، حتى أكثر من بعض المدن الأمريكية مثل لوس أنجلس”. ويضيف سيد مناور: “لم تكن هناك أبدا لدى صناع القرار في الخليج فكرة إلغاء السيارات من المعادلة، ولا أعتقد أنه تم التفكير فيها حتى، أو تصورها إلى الآن”.