أخيراً، أبدى القادة اللبنانيون ما يشبه الموقف الموحَّد -في العلن على الأقل- من ملف ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. وهو موقف أقلّ تشدداً من الإصرار على خط الجيش المعروف بالخط 29، والذي أدت المطالبة به إلى توقف المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل، لكنه أكثر تشددا من الموقف الذي أدى إلى التفريط بمساحات واسعة من “أراضي” لبنان البحرية والمتمثلة بالخط 23.
قبل ذلك، كانت رئاسة الجمهورية اللبنانية -التي فوّضتها جميع الأطراف ملف الترسيم- قد قرنت إعلانها موقف لبنان وهو “الالتزام بالخط 23، ولكن مقابل حرفه قليلاً ليشمل حقل قانا كاملاً، مقابل التخلي عن المطالبة بحقل كاريش كاملاً”، بدعوة المفاوض الأميركي عاموس هوكشتاين إلى العودة لاستئناف مهمته، الشيء الذي حصل منتصف حزيران/يونيو الماضي. حيث زار الأخير بيروت وتسلم من رئاسة الجمهورية، شفاهياً، موقف لبنان، ثم نقله عبر اجتماع فيديو إلى الفريق الإسرائيلي المفاوض. إثر ذلك أصدرت الخارجية الأميركية بيانا أكّدت فيه أن هذه المحادثات كانت “مثمرة” وقد أدت إلى “تضييق الخلافات بين الجانبين”، كما أبدى البيان “استعداد الولايات المتحدة للاستمرار في العمل مع الأطراف المعنية الأيام والأسابيع المقبلة”.
سفينة مشبوهة
ولكن ما الذي حصل حتى يتخلّى لبنان عن الخط 29 ولو كان تفاوضياً؟ وما هي المستجدات التي دفعت الفريقين لاستئناف المفاوضات برعاية أميركية؟ وكيف توصّل الزعماء اللبنانيون إلى موقف موحَّد بعد سنوات من الخلاف حول هذا الملف؟
يكمن الجواب في ثلاث كلمات: “أنرجيان”-الغاز-حزب الله. ففي الثالث من حزيران/يونيو استفاق اللبنانيون على خبر وصول سفينة وحدة إنتاج الغاز الطبيعي المسال “أنرجيان”، والتي تمركزت بمحاذاة حقل كاريش المتنازع عليه بين لبنان وإسرائيل، للبدء بالعمل.
وقع الخبر كالصاعقة على رؤوس المسؤولين اللبنانيين، مع أنه كان متوقَّعا أن تعمد إسرائيل إلى تصرّف كهذا في ظل السباق العالمي الشرس والمستميت على حيازة مصادر طاقة جديدة تعوّض الغاز الروسي من جهة، وحال الانهيار الاقتصادي والاجتماعي للبنان وتشرذم مسؤوليه من جهة أخرى، وأن تنتهز هذه الفرصة لجس نبض حزب الله، اللاعب الذي كان لا يزال محتفظاً بوجه لاعب البوكر الخالي من التعبير حتى تلك اللحظة بما يخص هذا الملف الفائق الأهمية. فقد حرص الحزب منذ بداية المسألة على نوع من اللاموقف، مردّداً أنه سيكون خلف الدولة اللبنانية في قراراتها بشأن هذا الملف مهما كانت، مشيراً بذلك إلى النقاش الذي كان دائراً حول حدود لبنان البحرية بين الخط 29 والخط 23. إلا أن وصول السفينة بما تحمله من دلالات استفزازية كان من شأنه دفع حزب الله إلى الخروج عن صمته.
بُعَيد الإعلان عن وصول سفينة “إنرجيان” -التي قيل بداية أنها يونانية- وتموضعها بالقرب من الخط 29 مستهل حزيران/يونيو، تضاربت الأخبار عن نشاطها: هل بدأت بالتنقيب في منطقة متنازع عليها هي الخط 29 الذي يمرّ منتصف حقل كاريش؟ أم أنها بعيدة عنه؟ استدعى رئيس الجمهورية ميشال عون خبراء الجيش للاستفسار عن موقع السفينة الفعلي، فأكدوا له أنها راسية بالقرب من الخط 29 لكنها لم تخترقه. ولم يطل الأمر قبل أن تعلن إسرائيل نفسها ان سفينة التنقيب تموضعت على مسافة من الخط 29 ولم تتجاوزه، ولو أنها لم تنف المباشرة بالعمل في حقل كاريش.
بسحر ساحر، أدى هذا التطور الميداني الذي وقع بعيد انتهاء الانتخابات النيابية التي أسفرت عن ثبات السلطة التقليدية في مكانها ولو بنسبة برلمانية أقل، إلى الاتفاق بين مختلف القوى اللبنانية على دعوة المفاوض الأميركي عاموس هوكشتاين إلى العودة لاستئناف المفاوضات بين لبنان وإسرائيل. وكانت هذه المفاوضات قد توقفت في 2 مارس/آذار 2022 بعد رفض لبنان لاقتراح المفاوض الأميركي بخط 23 متعرج، يحرم لبنان من معظم ثروته البحرية لصالح إسرائيل. اقتراح دفع لبنان -ردّاً على هذا الطرح المتحيّز لصالح إسرائيل- إلى المطالبة بالخط 29، ما أغضب إسرائيل ودفعها إلى المطالبة بالانطلاق من الخط 310 -وهو خطّ لا يمكن لإسرائيل المطالبة به إلا كتعبير عن الغضب، كونه يبدأ من مدينة صيدا تقريباً، أي من منتصف الشواطئ اللبنانية المعترف بها دولياً.
كما راسل لبنان الأمم المتحدة منتصف حزيران/يونيو مؤكّداً أن “النزاع لا يزال قائما والتفاوض متوقّفا، وبالتالي لا يحق لأي طرف المباشرة بأعمال حفر وتنقيب في المناطق المتنازع عليها والواقعة جنوب الخط 23 حتى آخر نقطة تأثير”، وأن “لجوء إسرائيل إلى خطوات عملانية قد يقود إلى مواجهة”.
حزب الله يخرج عن صمته
في هذه الأثناء، قرّر حزب الله أن يخرج عن صمته ليعلن في 9 يونيو/حزيران على لسان أمينه العام السيد حسن نصر الله أن الحفاظ على حقوق لبنان بثروته البحرية “مهمة توازي بأهميتها مهمة تحرير الأرض”، محذراً “العدو والمتعاونين معه من شركات أجنبية من مخاطر تجاوز حقوق لبنان أو الاعتداء عليها”، وواصفا استخراج النفط من حقل كاريش المتنازع عليه بأنه “عدوان”، لأنه “حقل واحد مشترك” بين لبنان وإسرائيل. كما أكّد أن “المقاومة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولة نهب الثروة الوطنية وكل الخيارات مفتوحة” كما حذر “أصحاب وإدارة السفينة اليونانية” من أنهم “شركاء في العدوان”، داعياِ إياهم بوضوح إلى الانسحاب.
وفي كلمته المتلفزة تلك، استعرض نصر الله سلسلة أحداث وصفها على أنها “منع دولي وأميركي غير معلن للبنان من استخراج نفطه وغازه حتى في البلوكات الواقعة في منطقته الاقتصادية الخالصة”، ملاقيا بذلك رئيس الجمهورية الذي أشار في أحد لقاءاته الى ضغوطات مورست على الشركة التي منحت ترخيص التنقيب (توتال الفرنسية لكنه لم يسمها) لعدم البدء بالتنقيب في بلوكات لبنان الخالصة“. ولذا ربط السماح لإسرائيل بالتنقيب بـ”تثبيت حق لبنان بالتنقيب".
بعيد خطاب نصر الله، استدعت الخارجية اليونانية القائمة بالأعمال في السفارة اللبنانية في أثينا، وابلغتها -حسب تصريح لوزير الخارجية اللبناني عبد الله بو حبيب- أن “سفينة الاستخراج في المتوسط ليست ملكا للحكومة اليونانية”. وبعد التدقيق، تبيّن أن السفينة مسجلة في بريطانيا، وهي تتبع شركة “إنرجيان” التي كانت على حافة الإفلاس قبل أن تستحوذ إسرائيل على جزء من رأسمالها، وأن مديرها التنفيذي ماثيو راغاس هو يوناني إسرائيلي.
أما هوكشتاين، فقد استجاب لدعوة لبنان لاستئناف زياراته المكوكية1 بين بيروت وتل أبيب. وقد استفسر من عون جدية التهديدات التي أطلقها نصر الله بما يتعلق بسفينة التنقيب، وأبلغه رداً على ذلك ان الحرب التي ستنشب في حال ضرب حزب الله السفينة البريطانية ستكون “حربا ضد جهات أوروبية”، حسب ما أفادت مصادر متابعة للملف لـ“أوريان 21”، يعني بذلك الجهات التي ستستفيد من الغاز المستخرج من حقل كاريش.
تداعيات الأزمة الأوكرانية
ولقد اتضحت المعاني التي أشار اليها هوكشتاين نهاية حزيران/يونيو المنصرم، حيث كشفت مصادر في اليونيفيل وصول بوارج أميركية حربية قبالة الحقل المتنازع عليه، وباشرت إجراءات لتوفير حماية للمنصة العائمة. ولقد أكّدت مصادر أمنية تلك المعلومات، كما أضافت إلى ذلك “قيام سرب من طائرات التجسس البريطانية وأخرى تابعة لحلف شمال الأطلسي بمسح كل المنطقة البحرية التي تلامس الحدود اللبنانية”.
إثر بيان الخارجية الأميركية، جرى اتصال بين هوكشتاين ونائب رئيس المجلس النيابي المكلف بالتواصل مع الأميركيين في هذا الملف إلياس بو صعب (التيار الوطني الحر)، الذي وصف بيان الخارجية الأميركية بالإيجابي متمنيا ان يترجم ذلك بالعودة إلى المفاوضات غير المباشرة بين لبنان وإسرائيل، لا عبر الزيارات المكوكية لهوكشتاين.
وقد كتبت صحيفة “الأخبار” اللبنانية القريبة من حزب الله في 30 يونيو/حزيران 2022 أن “لبنان الرسمي سمع نصائح أوروبية غير مباشرة من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، بعدم التصعيد”، لأن “ما تقوم به إسرائيل هو استخراج الطاقة للتعويض عن النقص بالغاز الروسي، وبالتالي فهي تحظى بغطاء دولي وأميركي وتهديدات حزب الله لن تفيد بشيء”.
لكن يوم السبت 2 يوليو/تموز، أعلنت إسرائيل اعتراضها ثلاث طائرات مسيّرة أطلقها حزب الله فوق منطقة حقل كاريش المتنازع عليه، والتي بدأت إسرائيل بالعمل فيها بالرغم من ذلك تحت ما بدا أنه مظلة حماية أمنية أوروبية أميركية.
وقد أكّد الحزب في بيان له إطلاقه تلك الطائرات “غير المسلَّحة” في مهمة “استطلاعية وقد أنجزت مهمتها وأوصلت الرسالة”، في تأكيد عملاني لما كان قد أعلنه الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في وقت سابق من أنه يهدف إلى “منع العدو من المباشرة بنشاط استخراج النفط والغاز من حقل كاريش قبل انتهاء المفاوضات”، التي يجب أن تتضمن بند “السماح للشركات العالمية بالعمل في كل الحقول اللبنانية حتى الحدود مع سوريا”. ولقد أثارت هذه المواجهة غضب الأميركيين الذين اعتبروا عبر سفارتهم في بيروت أن هذا التدخل من حزب الله قد يهدّد المفاوضات، وطلبوا من لبنان الرسمي إدانته، وهو ما حصل في الرابع من تموز/يوليو الجاري، حيث أصدر رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي بيانا رأى فيه أن “أي عمل خارج الدولة اللبنانية غير مقبول”، مشيراً إلى أن المفاوضات الجارية مع هوكشتين “بلغت مراحل متقدمة”. ويبدو أن بيان ميقاتي أثار “انزعاج رئيس الجمهورية”، الذي سرّبت أوساطه أنه ممتعض من عدم استشارة رئيس الحكومة له قبل إصدار البيان، بالرغم من أنه المكلَّف بالملف.
أما إسرائيل، فقد حذّرت على لسان وزير الأمن من أن إرسال الطائرات المسيَّرة “يقوّض المفاوضات والاتفاق الذي يتبلور”. وهو اتفاق اعتبرته صحف مقرَّبة من حزب الله “في غير مصلحة لبنان، وتسعى جهات دولية لفرضه عليه مستفيدة من حال الانهيار التي يعيشها”.
في هذه الأثناء، كان لافتاً الإعلان في تل أبيب عن صفقة باع بموجبها المدير التنفيذي لشركة “إنرجيان” مالكة حقوق الإنتاج من حقل كاريش المتنازع عليه مع لبنان، ما مجموعه 2,8 بالمئة من أصل 11,3 بالمئة من أسهمه لمؤسسات مالية إسرائيلية، لم يجر الإفصاح عنها حسب موقع غلوباس الإسرائيلي.
ويُذكر أن “إنرجيان” الأم والمسجّلة في بريطانيا حصلت على عقود كثيرة في مجال التنقيب عن الغاز والنفط في اليونان وقبرص ومصر، كما أن لها شركة “شقيقة” هي “أنرجيان إسرائيل”. وقد يكون السبب في هذه الصفقة، وفق المحللين، رغبة الشركة بالتحوّل مستقبلا إلى شركة إسرائيلية بالكامل، حيث سيتيح لها ذلك المزيد من الامتيازات، عشية الدورة الرابعة للتراخيص التي أعلنت تل أبيب عن افتتاحها قريباً. كما أن هذا البيع يحررها من أعباء التكلفة الضريبية التي تُفرض على الشركات الأجنبية العاملة في إسرائيل.
1وهي طريقة ديبلوماسية تستعيض عن المفاوضات وفد لوفد بزيارات الوسيط بين الطرفين موضوع الاتفاق.