تحليل

تركيا. أردوغان يرجئ “رؤية 2023” إلى أجل غير مسمّى

بمناسبة الاحتفال السنة القادمة بمئوية الجمهورية التركية، كان الرئيس رجب طيب أردوغان قد حدّد في 2011 أهدافًا طموحة لسنة 2023 لتنمية بلاده. لم يتحقّق سوى جزء ضئيل من هذه الأهداف. لكن حزب أردوغان يحاول إدراج أكثر من مبادرة ضمن هذا البرنامج، وتمديد “رؤية 2023” لبضعة عقود أخرى.

رجب طيب أردوغان يحيي النواب خلال اجتماع مجموعة حزب العدالة التنمية في الجمعية الوطنية الكبرى التركية في أنقرة، في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2022.
Adem Altan/AFP

ينتظر الكثيرون بفارغ الصبر حلول يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 2023، الذي سيُحتفل فيه بمئوية الجمهورية التركية، حيث يُفترض أن تقوم السلطات بتقييم إنجازات برنامج “رؤية 2023”. ويحتوي الأخير عن سلسلة من الأهداف الطموحة التي تم وضعها في 2011 من قبل حزاب العدالة والتنمية الذي يقوده الرئيس رجب طيب أردوغان، والذي يسعى إلى أن يجعل من تركيا – بعد قرن من إنشائها – بلدًا متطوّرًا وأساسيًّا على الساحة الدولية.

أهداف طموحة وموحدة

في 23 يناير/كانون الثاني، وأمام 3000 شخص اجتمعوا في العاصمة التركية بمناسبة حدث بعنوان “تركيا تسير نحو 2023، حزب العدالة والتنمية يجتمع في أنقرة”، تحدّث أردوغان – الذي كان وقتئذ وزيرًا أوّلاً –للمرة الأولى بصفة رسميّة عن “رؤية 2023”، والتي كان يُفترض أن تمكّن تركيا من التحوّل من فاعل دولي من درجة ثانية، إلى قوة لا يمكن تجاهلها.

كان عدد الأهداف في البداية ستة وعشرين، حتى تكون “رؤية 2023” طموحة وموحدة في آن واحد. من بين هذه الأهداف بناء 15 ألف كم من الطرقات، وإطلاق مشاريع تنمية حضرية وزراعية واسعة النطاق في جنوب شرق الأناضول وشرق الأناضول. كان الهدف من هذه البرامج إخراج هذه المناطق من عزلتها، والدفع بتركيا لتصير قوة زراعية ومائية رئيسية، لا سيما بفضل بناء السدود على نهري دجلة والفرات.

أما الجانب الاجتماعي لرؤية 2023، فنجد من بين أهدافه ألا يتجاوز معدل البطالة نسبة 5٪، وتحقيق نسبة تمدرس 100٪ في التعليم الثانوي، وإنشاء نظام تأمين صحي شامل. وكان من المفروض مثلا أن تقوم وزارة التربية الوطنية بنشر قائمة أهداف تحت عنوان “رؤية 2023 للتعليم: أطفال سعداء وتركيا قوية”.

تبدو أغلب هذه الأهداف دقيقة ومحدّدة بالأرقام، لكن عددًا آخر منها كان يبدو ضبابيّا، على الأقل في طريقة تطبيقها وفي دقة مرماها. فمثلا، وعد أردوغان بـ“مواصلة طريق الديمقراطية” وبـ“تطوير الحريات” داخل البلاد، ما أضفى على “رؤية 2023” طابعًا إيديولوجيا أكثر منه تقنيا. وقد سهّل بقاء حزب العدالة والتنمية في السلطة دون انقطاع منذ 2011 تبنّي هذه الأهداف. لكن انتقادات المعارضة تفاقمت مع اقتراب سنة 2023 وثبوت الفشل الشامل لهذا المشروع، والتي تُعزى إلى كل من الوضع الجيوسياسي خلال العقد الماضي والأخطاء السياسية والاقتصادية للائتلاف الحاكم.

نجاحات في أكثر من مجال

صحيح أن سياسات استباقية مكنت من تحقيق نجاحات واضحة في عدة قطاعات. فقد كانت تركيا تأمل أن تصبح خامس أكبر وجهة سياحية في العالم عام 2023، وها هي قد صعدت إلى المركز الرابع بحلول عام 2021، متجاوزة إيطاليا والولايات المتحدة. كما شهد قطاع النقل تطوّرًا ملحوظًا، حيث تم بناء 28650 كيلومترًا من الطرق بين عامي 2011 و2022، أي ضعف الهدف المحدد لعام 2023.

تشهد بنى تحتية هائلة – وإن انتُقدت بشدة من طرف المعارضة – عن التنمية التكنولوجية واللوجستية التركية، مثل مطار إسطنبول، وهو الأول في العالم من حيث السعة، وقد تم تدشينه عام 2018، أي بعد عامين من افتتاح “أوراسيا” - أول نفق طريق تحت البوسفور -، وقبل أربع سنوات من تدشين جسر جناق قلعة 1915، أطول جسر معلّق في العالم والذي يمتدّ فوق مضيق الدردنيل. كما يندرج مشروع “قناة إسطنبول” الذي تم إرساله السنة الماضية في سياق هذه “المشاريع المجنونة”، وفق تعبير الرئاسة التركية.

من الجانب الاجتماعي، يسجّل القطاع الطبي بدوره نجاحات باهرة، إذ وصل معدّل الأطباء بالنسبة لألف ساكن إلى 2,05 سنة 20211، وارتفعت نسبة الكثافة الطبيّة بـ 18,5% منذ 2011، ما سيسمح لأنقرة بتحقيق هدف 2,10 لألف ساكن المنصوص عليه في إطار “رؤية 2023”، علاوة على تمتع السكان بنظام تأمين صحي شامل. صحيح أن الوصول إلى الإنترنت عالي السرعة لن يشمل الشعب التركي بأكمله في عام 2023، خلافًا لما وعد به أردوغان، لكن هذا الهدف تحقّق عمليًّا، إذ يستفيد 92٪ من السكان من هذه الخدمة، حسب أرقام شهر أغسطس/آب 2022. ويمثل هذا النجاح إنجازًا عظيمًا بالنظر إلى أن 43,1٪ فقط من السكان كان لديهم إمكانية الوصول إلى الإنترنت في عام 2011.

استثمر كذلك حزب العدالة والتنمية في عدد من نجاحاته في مجال الأسلحة، لا سيما في مجال صناعة الطائرات المسيّرة. فخلال عشر سنوات، وبفضل المهندس سلجوق بيرقدار - وهو صهر الرئيس أردوغان -، نجحت تركيا في أن تفرض نفسها كنموذج في مجال المسيّرات المسلّحة. واعتبارًا من أوّل أغسطس/آب 2022، اقتنت 14 دولة مسيّرات من صنف Bayraktar TB2، كما أبدت 16 دولة أخرى اهتمامها بطلب محتمل. وبفضل الجهود التي تبذلها السلطات، أصبحت صناعة الأسلحة التركية اليوم مستقلة بنسبة 70٪ عن المساعدات الخارجية، مقارنة بـ 52٪ في عام 2011 و25٪ في عام 2003.

بيد أن صناعة الأسلحة لم تنجح في التغلب على عقبات رئيسية في مجالات حسّاسة، مثل المكننة المحلية لمعداتها، حيث أثبتت عدم قدرتها على إنتاجها بشكل مستقل تمامًا - على غرار المروحيات ATAK-II أو المسيّرات Kızılelma -، أو الاستمرار في تصميمها -كما هو الحال بالنسبة للطائرات المقاتلة TAI TF-X أو دبابة T1 Altay. تحاول السلطات التركية إخفاء هذا الفشل، فتؤكّد مثلاً على إنتاجها لمحركات ATAK-II الأوكرانية، أو بأن TAI TF-X ستجري أول رحلة تجريبية لها في عام 2023.

تراجع واضح للناتج المحلّي الإجمالي وارتفاع في نسب البطالة

تبدو أهداف أخرى لبرنامج “رؤية 2023” صعبة التحقيق. فمثلا، كانت تركيا تطمح إلى أن تكون من بين أكبر عشر قوى عالمية من حيث الناتج المحلي الإجمالي، لكن مرتبتها لم تتجاوز العشرين في عام 2021. أما بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي للفرد، فقد بلغ 9327 دولارًا فقط في عام 2021، أي أنه سجّل انخفاضًا قدره 1903 دولارًا في عشر سنوات، بعيدًا عن مبلغ 25 ألف دولار الذي توقعته “رؤية 2023”. أما نسبة البطالة – وقد كان الهدف ألا تتجاوز 5٪ في عام -2023، فقد ارتفعت إلى أكثر من الضعف في عام 2021 (10,6٪). كذلك، لم تتجاوز ذروة حجم الصادرات 225,4 مليار دولار في عام 2021، وهو رقم بعيد جدًا عن مبلغ 500 مليار دولار المأمول لعام 2023. كما لا يوجد أي ميناء تركي من بين أهم عشرة موانئ للحاويات في العالم، على الرغم من وعود السلطات. ولا يحتلّ ميناء أمبارلي بالقرب من إسطنبول سوى المرتبة 56.

في مجال الموارد الطبيعية والطاقية، يُفترض أن محطة أكويو للطاقة النووية هي الوحيدة التي ستدخل حيّز العمل في عام 2023، من بين الثلاثة التي وعدت بها الرئاسة التركية. وقد ارتفع استهلاك الطاقة بنسبة 49,6٪ تقريبًا، بينما كان من المقرر أن ينخفض بنسبة 20٪ بين عامي 2011 و2023. أخيرًا، لا تتجاوز نسبة الأراضي الزراعية القابلة للري 13,8٪، ما يمثّل زيادة قدرها 0,2 نقطة فقط منذ عام 2011. في حين أن الهدف كان 100٪ للعام 2023..

بثّ سرديّة الضحية

تحاول السلطات التركية الإشادة بنجاحاتها حتى في المجالات التي يطغى عليها الإخفاق، لكن بعض الخيبات أكثر صعوبة في الإخفاء من غيرها، لا سيما على المستوى الاقتصادي. فبسبب الأزمة الاقتصادية الحادة والانخفاض التاريخي في قيمة الليرة التركية، يواجه السكان منذ عدة سنوات بلا حول ولا قوة انخفاضًا تدريجيًا لقوتهم الشرائية وقلقًا متفاقمًا حول مستقبل الشباب المهني. وقد بات هؤلاء يغادرون البلاد أكثر فأكثر، خاصة المؤهلين منهم تأهيلاً عالياً. فخلال الأشهر الأحد عشر الأولى من عام 2021، غادر 1361 طبيبًا البلاد متوجّهًا نحو أوروبا أو الولايات المتحدة. ووفق صحيفة Sözcü اليومية، يستخدم عدد متزايد من الطلاب برنامج التبادل الجامعي “إيراسموس” للرحيل من تركيا وطلب اللجوء في أوروبا.

أمام هذا الفشل الذريع، اختار حزب العدالة والتنمية أن يتبنى سردية الضحية. فوفق جماعة أردوغان، لا يعود فشل “رؤية 2023” إلى عدم كفاءة السلطات، بل للظروف الجيوسياسية غير المواتية، وخاصة لتدخّل القوى الأجنبية. وفعلاً، فرضت تركيا نفسها خلال السنوات الأخيرة كمملكة الهوس بالمؤامرات، فمثلا في 2017، نشر رئيس بلدية أنقرة مليح غوكجيك عدّة تغريدات يتهم فيها حركة غولن بالرغبة في تركيع الاقتصاد التركي بمساعدة قوى أجنبية، وذلك من خلال إحداث زلازل اصطناعية في إسطنبول على سبيل المثال.

ليست نظريات المؤامرة حكرًا على بعض الفاعلين السياسيين، بل يتم تغذيتها من طرف الرئاسة التركية نفسها. إذ يدعم أردوغان فكرة وجود “عقل” أو “فكر متفوّق” (“üst akıl”)، هدفه إيذاء تركيا، وهو ينسّق الهجمات التي نفذها خلال السنوات الأخيرة كل من حزب العمال الكردستاني وحركة غولن - ومنها محاولة الانقلاب في 15 يوليو/تموز 2016 - أو تنظيم الدولة الإسلامية على الأراضي التركية.

قد تؤكد الأحداث الأخيرة في نظر الرأي العام هذه القناعة بأن قوى أجنبية تسعى إلى منع تركيا من التطور. فالعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على تركيا في عام 2018 في سياق احتجاز القس برونسون تزامنت بالفعل مع أزمة نقدية كبيرة، وصفها حزب العدالة والتنمية وحلفاؤه بأنها مناورة عدوانية تنظمها قوى أجنبية. وقد أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد أنقرة Metropoll Araştırma في أبريل/نيسان 2018 أن 59٪ من ناخبي حزب العدالة والتنمية نسبوا هذه الأزمة إلى التدخل الأجنبي2.

في العام الموالي، في أكتوبر/تشرين الأول 2019، ساهمت عمليات الحظر العديدة على المعدات والتقنيات العسكرية، والتي أعلنتها دول أوروبية مختلفة وأمريكا الشمالية ضد أنقرة في أعقاب إطلاق عملية “نبع السلام” في روج آفا، ساهمت في تأجيج سردية المؤامرة الدولية التي تهدف إلى إلحاق الأذى بتركيا. وقد أثّر هذا الحظر بالفعل على قدرة تركيا لإنتاج وصيانة العديد من المواد الأساسية لقواتها، لا سيما المسيرات المسلّحة.

ومع ذلك، وحرصًا على ترويج صورة أن الوضع تحت السيطرة، وإدراج رؤية أردوغان على المدى الطويل، صار حزب العدالة والتنمية يتحدّث عن عامي 2053 و2071 بدل 2023. تستشهد الرئاسة التركية بهذين التاريخين بانتظام، وهما يتوافقان على التوالي مع ذكرى الـ600 عام عن غزو العثمانيين للقسطنطينية (1453)، وذكرى الألف عام لانتصار السلاجقة على القوات البيزنطية خلال معركة ملاذكرد (1071) التي فتحت أبواب الأناضول أمام الأتراك، والتي يعتبرها حزب العدالة والتنمية والمقرّبون منه تاريخ تأسيس تركيا3. يفضل إذن الرئيس التركي وحلفاؤه التخطيط للنصف الثاني من القرن الحادي والعشرين. ويؤكد أردوغان بنفس الحيوية التي قدّم بها “رؤية 2023”: “سنعطي شكل العامين 2053 و2071 اللذان سيكونان بإذن الله نقطة تحوّل [...] في تاريخنا”.

1توصي منظمة الصحة العالمية بمعدّل 2,3 لألف ساكن.

2“Forty-two percent of Turks say lira’s drop is foreign plot”، أحوال، 18 مايو/أيار 2018.

3كدلالة على أهمية هذا التاريخ، فإن طول صوامع مسجد تشامليجا الذي تم تدشينه سنة 2019 يبلغ 107,1 متر.