“الاشي لمنيح ببرلين انو إذا بتحس بالغربة، ممكن تلاقي كمان إسرائيلية تتناقر معهن، وهيك بتحس إنك بالبلد”، يقول محمد بدارنة مازحاً قبل أن يقضم في سندويتش شاورما. استقرّ هذا المصوّر الفوتوغرافي الفلسطيني – من حيفا – في برلين منذ 11 سنة، حيث تمكّن من التفرّغ تماماً للتصوير، ليصبح نشاطه الأساسي. ويضيف: “يوجد ببرلين نشاط ثقافي عربي أكثر من أي مدينة عربية”.
افتتح محمد ذلك اليوم معرض صور له في فضاء بشارع “زونن آلي” (Sonnenallee) الذي أعيدت تسميته بـ “شارع العرب”، والذي كان جزؤه الجنوبي في الماضي نقطة مرور بين برلين الشرقية والغربية. وفعلاً، كل شيء في هذا الشارع يذكّرك بالشام، أو القدس، أو بغداد، أو القاهرة، من المتاجر إلى المقاهي فالمطاعم، مروراً بالملصقات التي تذكّر بالسجناء السياسيين الفلسطينيين أو بإضراب علاء عبد الفتاح عن الطعام..
يعبر هذا الشارع الطويل الجزء الجنوبي من منطقة “نيوكولن”، التي استقبلت تاريخياً الهجرة السورية واللبنانية، وكذلك الفلسطينية. يعود وجود هؤلاء إلى النصف الثاني من السبعينيات، أي بعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، وقد ساعد على ذلك التقارب بين اليسار الفلسطيني وأقصى اليسار الألماني. وقد كانت عمليّة عنتيبي من أبرز مظاهر هذا التقارب، عندما اختطفت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والخلايا الثورية الألمانية في يونيو/حزيران 1976 طائرة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية كانت تقوم برحلة تل أبيب - باريس.
من الصعب تقييم العدد الدقيق للفلسطينيين الذين يعيشون في برلين، خاصة وأن من بينهم أشخاصاً بدون أوراق رسمية، ناهيك عن الأوضاع الرسمية المعقدة والخاصة بكلّ مجموعة (مثل فلسطينيي القدس، أو فلسطينيي مخيمات اللاجئين، أو الداخل). لكن يتفق الجميع على كون برلين تحتضن اليوم أكبر جالية فلسطينية في أوروبا.
“برلين ليست ألمانيا”
كثيرة هي المواعيد الثقافية العربيّة خلال هذه الفترة من النصف الثاني لشهر أكتوبر/تشرين الأول. وهذا النشاط ليس غريباً على المدينة التي تتميّز بحيوية فنية وثقافية منذ توحيدها. “برلين ماهيش ألمانيا”، تؤكّد الفنانة التشكيلية إيناس لعماري، التي وُلدت في مدينة شتوتغارت من أب وأم تونسيين. تغتنم إيناس فرصة طقس يكاد يكون ربيعيًّا لتأتي إلى “تمبلهوفر فيلد” – وهو مطار قديم أصبح منتزهاً منذ 2010 – وتتمتع بمشهد غروب الشمس برفقة أصدقائها. المكان مليء بالدراجات والمتزلّجين والموسيقى المنبعثة من مكبّرات الصوت.. وسجائر الحشيش تمرّ من يد إلى أخرى في جو احتفالي بسيط، حيث يلتقي الأصدقاء دون تحديد موعد. يقول أحمد عيد، وهو موسيقي ومنتج من رام الله: “لو لم تكن هناك برلين في ألمانيا، ما كنت لأعيش في أوروبا”.
أحمد كان حاضراً في مهرجان “آل برلين” الذي تم تنظيمه قبل ثلاثة أيام، والذي يبدو أنه كان ملتقى كل الشباب العربي في برلين. تم تنظيم الحفلة في قاعة “فستسال”، حيث تدخل بعد ساعة من الانتظار بسبب طول الطوابير. يعدّ المكان ثلاثة مسارح ببرامج موسيقية متزامنة، بينما يعرض عدد من المصممين العرب ملابس ومجوهرات وإكسسوارات في الفناء الخارجي. أما برنامج السهرة، فيضم أسماء مهمة من المشهد الموسيقي العربي البديل - مع اختيار نسائي 100٪: رشا نحاس (فلسطينية من حيفا ومستقرة في برلين)، عزيزة إبراهيم (صحراوية)، مريم صالح (مصر)، أم (المغرب)، ناهيك عن فنانات امتهنّ الموسيقى الإلكترونية مثل ماكي مكّوك، وتاكسي كباب، وسما عبد الهادي الملقّبة بـ“ملكة التكنو الفلسطينية”. وقد أصبحت العاصمة الألمانية محطّة إلزامية للفنانين العرب الذي يقومون بجولة أوروبية، كما سيكون الحال في نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني بالنسبة لمجموعة كايروكي المصرية.
انطلقت السهرة على حدود الساعة السابعة مساءً لتتواصل حتى الساعة السادسة صباحاً، كما تقتضيه الأعراف البرلينية. الجمهور من كل لون وشكل - بأتم معنى الكلمة -، فترى الكويريين والكويريات إلى جانب المحجّبات. صحيح أن أغلب الجمهور عربي، لكن المكان يستقطب كذلك جمهوراً ألمانيا جاء لاكتشاف لون جديد من الموسيقى. هذا الاختلاط فريد من نوعه مقارنة بباريس، فرغم أن الجالية العربية في برلين قد تنظم تظاهرات حصريّة للعرب، فإن الجو العام بعيد عن التقوقع الذي تعرفه العاصمة الفرنسية. فالاختلاط موجود حتى في الأحياء الشعبية، وليس من النادر أن ترى نساء محجّبات حتى في أكثر الأحياء “الهبسترز”، مثل “برنتسلاور برغ” و“ميته”.
دعم عمومي
استفادت الجالية الفنية العربية من بيئة رسمية مواتية للإنتاج الثقافي، أولاً من خلال سياسة تصاريح الإقامة، وهي أكثر مرونة مما هو الحال عليه عند الجيران الأوروبيين. يشهد عبد الله الخطيب، مخرج الفيلم الوثائقي “فلسطين الصغرى” الذي يروي حصار مخيم اليرموك في 2013، على ذلك. فبعد أن تم ترحيلهم هو وعائلته وأصدقائه من المخيّم نحو شمال سوريا، ومن ثمة إلى تركيا، حاولوا الرحيل إلى أوروبا: “اغتنمت امتيازي كمخرج لإدراج مطالبهم معي في نفس الملف”. تقدموا في البداية بالطلب للقنصلية الفرنسية والبريطانية، فرفضت كلاهما وقبلت برلين، حيث يعيش عبد الله اليوم مع أهله منذ 2019.
تساند المدينة كذلك الفنانين العرب في مشاريعهم من خلال سياستها الثقافية، إما من خلال التمويل، أو من خلال توفير المباني العامة لهم. وهو الحال بالنسبة لمركز “عيون”، الذي يقدّم مشاريع فنية من خلال وجهات نظر ديكلونيالية وكويرية ونسوية ومهاجرة. في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2022، يستضيف الفضاء معرض “مجاهدات. نساء، مقاومة، تحالف كويري” بمناسبة الذكرى الستين لاستقلال الجزائر، بالإضافة إلى تنظيم ورش عمل غير مختلطة، مثل تلك المخصصة للمسلمين/ـات الكويريين/ـات.
في الطابق الأرضي لمركز “عيون”، حطّ مقهى بلبل الرحال، وهو عنوانه الثالث منذ أن رأى النور في برلين. يحمل المقهى اسم مؤسسه نضال بلبل، وهو فلسطيني من غزة، يشرف على المقهى مع زوجته نيار، وهي فلسطينية من القدس. هنا أيضا، زبائن مختلطون، لكن أبيات محمود درويش - “أحنّ إلى خبز أمي.. وقهوة أمي” – واضحة للزائر بمجرّد دخوله المقهى. وعلى الجدار، علُّقت لوحة تحمل علم فلسطين وخريطتها ورسما لمسجد قبة الصخرة، رمز مدينة القدس. هنا وهناك، فوانيس عربية تضيء هذا المكان الدافئ، حيث يمكن للوافد أن يستلقي على الأرائك المريحة أو أن يجلس على الكراسي المستقيمة - لمن هم أكثر جدية -، لتناول وجبة مع الأصدقاء أو احتساء قهوة أثناء العمل.
فقاعة آمنة
تدخل إلى مقهى بلبل كدخولك لعش دافئ. تأنس للموسيقى، إن كانت لمشروع ليلى أو سعاد ماسي أو زياد الرحباني أو بيغ سام. كل العاملين بالمقهى فلسطينيون أو سوريون، حتى أنك تكاد تنسى أنك ببرلين. يجلس نضال على الأريكة قبل أن تقفز كلبته “سمراء” بين ذراعيه، ساقه اليمنى مستقيمة أمامه، أو بالأحرى طرفه الصناعي الأيمن، بعد أن فقد هذا الصحفي السابق الذي كان يعمل مع وكالة رويترز رجله جرّاء قصف إسرائيلي، خلال عمليّة “الرصاص المصبوب” في 2008.
بفضل عمله مع وكالة دولية، نُقل نضال إلى مستشفى في القدس. بعدها، تمكّن من الحصول على تأشيرة لألمانيا من خلال برنامج يستهدف الصحفيين الفلسطينيين. يقول نضال: “بالذات برلين كانت إمكانية بالنسبة لإلي.. يمكن فيه رابط صغير مع جدار الفصل العنصري..”، في إشارة إلى الجدار الإسرائيلي. لكن مراسل الحرب السابق سئم بعد بضع سنوات من رتابة العمل بألمانيا، وقرّر في عام 2016 إطلاق مشروعه الخاص به “مقهى بلبل”. مقهى تخيّله نضال مساحة “زي صالة البيت الي بتجمع”، أو فقاعة آمنة لعرب برلين حيث يلتقي “ميكس عربي” وحيث يسهل أن تشرع في الحديث مع الشخص الذي يجلس في طاولة مجاورة، دون أن تفكّر في الأمر مرتين.
كان هذا هو الحال بالنسبة لرهام المسلماني، وهي مصممة غرافيك سورية انطلقت منذ فترة قصيرة في تنظيم الأحداث العربية ببرلين من خلال مشروع “ايفنتات برلين”. انتقلت رهام من حلب إلى برلين في 2014، واكتشفت المقهى بعد فترة أولى أمضتها في برلين بين دروس اللغة الألمانية وعملها في مقهى: “أول ما جيت لهون كان صعب لإلي، كان لازم بلّش من تحت الصفر، لأنو كان لازم بلّش اتعلم احكي أساساً. كل شي متعلمتو، كل شي عملتو راح عالفاضي”. تتحدث رهام عن بلدها والدموع في عينيها، لكن اكتشافها لمقهى بلبل غيّر حياتها في برلين: “أول مرة رحت لهونيك، حسيت انو وأخيراً أنا بمكان فيني احكي عربي، وما فيه داعي اقعد أفكّر انو أنا كيف لازم نصيغ الجملة، ووين بدي أحط الفعل بالجملة. بتحسي حالك أخذتِ نفس”. تتذكّر رهام جيّدا الأمسيات التي قضتها هناك: “قضيناها سنة هونيك، نخلّص الشغل ونطلع كلّياتنا كل يوم عالبسكلاتات، وكنا تقريباً نسكّر المحل مع نضال. كإننا مجموعين ببيت كبير ونقعد سوى ناكل ونضحك ونمزح ونشرب.. وبعدين نسكّر الكافيه وكل واحد يروح عبيتو”.
تستقطب برلين الشتات فيسهل ظهور المشاريع العربيّة الجامعة لأكثر من جنسية. يرى أيهم مجيد آغا، وهو مخرج مسرحي سوري أصيل مدينة دير الزور، أن هذه البيئة هي فرصة ذهبية في أوروبا. استقرّ أيهم ببرلين في 2014، وفي 2017، أسّس مشروع “مجموعة المنفى” (Exil Ensemble) في مسرح ماكسيم غوركي، والذي جمع فيه ممثّلين وممثّلات من سوريا وفلسطين وأفغانستان. أما اليوم، فهو في إقامة فنية في أستوديوهات السينما البرلينية الـ“بوفا” (Berliner Union Film Ateliers – BUFA)، حيث أقام الدورة الأولى من مهرجان The Hanging Gardens of Oberlandstrasse (حدائق أوبرلندشتراس المعلّقة)، والتي تدور حول مفهوم “البيت”. أقيم المهرجان من 4 إلى 12 نوفمبر/تشرين الثاني على مساحة 2500 متر مربّع: “أنا كنت حتى لـ2020 مخرج مسرحي، وبكتب للمسرح. كان آخر مشروع عملتو (قبل الانتقال إلى الـ”بوفا“) هو Exil Ensemble، ففكرت انو بعد هاي السنين ببرلين، انو هذا بيتي صار. عندي ولاد، عندي بيت، بقيت مستقرّ، ما عاد منفى”. لكنه اختار من أجل المهرجان أن يستمد إلهامه من تاريخ منطقته التي تقع على ضفاف نهر الفرات:
أنا من بلاد الرافدين، وبحكي سرياني وبقراه. فرجعت لأساطير ما بين النهرين، ولحدائق بابل المعلّقة. الحكاية قصتها بسيطة: مرتو لملك بابل من فارس، فاشتاقت لبيتها الي بتشوف منو الفصول الأربعة والحيوانات. فالملك قرّر انو يعمللها حدائق بابل المعلّقة كبديل عن بيتها، وجاب كل الحيوانات والأشجار الي ممكن يجمعها، والي عملت حدائق بابل. فهذا الي بلّشت منو، انو الفنانين يجيبو قطعة – مادة – فنية من بيتهم.
صور، لوحات خط عربي، فيديوهات، حفلات موسيقية.. شارك أيهم أولا الفكرة مع الفنانين من أصدقائه، “الي عندي لحظات معهم، وبعرف بيوتهم”، ثم قام هؤلاء بدورهم بتقديمه إلى آخرين. فنانة واحدة من بين المشاركين هي ألمانية، أما الباقي فهم أجانب يعيشون في برلين: “برلين سهلت علي هاي المهمة، لو أنا بباريس ما فيني اشتغل هالمشروع. لأنو أغلب الفنانين عايشين هون والتسهيلات أكثر”.
أبناء الثورات المنفيون
فعلاً، يُظهر هذا النوع من المشاريع الإمكانية التي تمنحها برلين للقاء بين مواطنين عرب كانوا إلى حد الآن سجناء جوازات أسفارهم، وهو ما يؤكّده نضال قائلاً: “نحن الآن نتواصل مع أشخاص لطالما منعتنا السياسة الاستعمارية والحدود من الاختلاط بهم”. قد تلخّص هذه الفكرة ظروف ولادة مكتبة “خان الجنوب” التي أسّسها كلّ من فادي عبد النور – فلسطيني من رام الله -، ورشا حلوة – فلسطينية من عكّا وهي اليوم تعيش في أمستردام -، والكاتب المصري محمد ربيع.
“الفكرة جات مالقلّة”، يقول فادي بكلّ بساطة، وهو يعيش في ألمانيا منذ قرابة 20 سنة وأحد مؤسّسي مهرجان الفيلم العربي ببرلين. هذا المشروع هو الذي أتى به في 2009 من لايبزيغ للعاصمة الألمانية، ولكنه تفرّغ أكثر لنشاط المكتبة انطلاقاً من 2020، والتي تعدّ اليوم أكثر من أربعة آلاف عنوان على رفوفها. رغم أنها لا تطلّ على الشارع، إلا أنها نجحت في التعريف بنفسها واستقطاب جمهور القرّاء. مساء سبت، نظمت المكتبة لقاءً مع الباحث والمؤرخ المصري خالد فهمي. أكثر من 70 شخصا حضروا اللقاء في ساحة المبنى الذي تقع فيه المكتبة – بسبب صغر مساحة الفضاء - رغم البرد، يستمعون للمحاضرة في خشوع قبل الخوض معه في مناقشة مطولة. كان صالح دباح، وهو صيدلي من عكا وناقد سينمائي في أوقات فراغه، من بين الحضور. يقول: “جئت إلى برلين لألتقي بالعالم العربي”. نتجاذب أطراف الحديث مع ميسون، وهي فلسطينية أردنية تعمل في المكتبة، فنكتشف أصدقاء مشتركين في حيفا وبيروت وباريس وتونس. تبتسم ميسون وتقول: “بالاسم احنا من جنسيات مختلفة!”
هل هي مجرّد صدفة سعيدة يعيشها أولئك الذين ينتمون لفئة معيّنة من العالم العربي؟ ليس هذا فحسب. فالأمر يتجاوز هنا المساحة الجغرافية المشتركة، بل هي ثقافة سياسية وفنية مشتركة حقيقية يتقاسمها هذا الجيل، تعود جذورها إلى لحظة 2011 الحاسمة، لحظة الانتفاضات العربية. تشخّص “شبكة فبراير” هذا الرابط، وهي تجمع منذ 2020 أربع وسائل إعلام مستقلة من العالم العربي – مدى مصر، ميغافون (لبنان)، الجمهورية (سوريون متواجدون ببرلين)، صوت (الأردن) – وأصدقاءَهم. يفكّر هؤلاء معاً حول اللحظة الآنية التي تعيشها المنطقة وحول إنتاجها الصحفي والمعرفي.
تقول ياسمين ضاهر، مديرة المؤسسة - وهي فلسطينية من الناصرة: “كان فيه شعور بالوحدة، وبدك تشوفي التانين شو عم بعملو وكيف بدن يكملو الشغل بهيك أجواء سياسية واقتصادية صعبة”. تشيد ياسمين بالبعد التقدّمي واليساري للشبكة التي تساند مؤسسات ومبادرات في العالم العربي، سيما من خلال ورشات تدريب على الإنترنت.
دافعت ياسمين عن أطروحة في الفلسفة السياسية في مونتريال قبل أن تستقر في برلين، وتوضّح سبب هذا الخيار الاستراتيجي قائلة: “فيه هون شتات جديد، فيه موجة جديدة اجت بعد الثورات، وفيه توتّر بالمعنى الإيجابي في العلاقة بين الوطن والشتات”. هي بدورها جزء من مجموعة “Palästina Spricht” (فلسطين تتكلّم)، وهي قضيّة يصعب الدفاع عنها في ألمانيا. تذكر ياسمين الضغوطات التي تعرّضت إليها المجموعة من قبل السلطات المحلّية بسبب تنظيمها خيمة تضامنية بمناسبة أسبوع النكبة، الذي تزامن مع اغتيال الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة: “ممكن تنتقدي الدولة الألمانية لكن مش إسرائيل!”. يقول محمد الجبالي أحد مؤسسي بار “آل برلين” ساخراً: “مرات هون أصعب من تل أبيب!”
من خلال استحضار هذه المشاريع الجماعية - شبكة فبراير، خان الجنوب -، تؤكّد سلمى مصطفى خليل – وهي عالمة أنثروبولوجيا من مصر تعيش في لندن وتُجري بحثًا حول البرلين العربي، على الرابط القوي الذي يحافظ عليه هؤلاء الفاعلون مع العالم العربي، على الرغم من المسافة الجغرافية:
كلهم يكتبوا عن العالم العربي النهاردة. جغرافيًّا هوما في برلين بس هوما متجذرين في اللحظة العربية ولحظة 2011، اللحظة الي شفنا فيها بعض. فجأة ما بقيناش الحكومات، وبقى فيه بني آدمين كتير مؤمنين وبينادو بنفس الحاجة الي أنا بنادي بيها. بقينا فجأة شايفين بعض وبنكلّم بعض. وبرلين خلاتهم يلتقو.
2015، اللحظة الحاسمة
تضيف سلمى: “دي ناس خرجت من بلادها أصلا بسبب اللحظة دي، وبوعي سياسي ماكانش موجود قبل اللحظة دي”، متحدّثة عن موجة اللاجئين السوريين. كانت السياسة الألمانية تجاه المهاجرين السوريين - والتي لقّبت بسببها أنغيلا ميركل بلقب “موتي” (ماما بالألمانية) – مختلفة جدا عن سياسة الجارة الفرنسية. “فير شافن داس!” – “سننجح في ذلك!”، هكذا أعلنت المستشارة في عام 2015. وكانت النتيجة أن منحت ألمانيا الإقامة إلى 790 ألف سوري بين عامي 2013 و2019، في حين لم يحصل سوى 10 آلاف سوري على أوراق لجوء في فرنسا بين عامي 2011 و2016. وقد أصبحت صورة أيلان، ذلك الطفل الكردي السوري البالغ من العمر ثلاث سنوات والذي عُثر عليه غارقًا على أحد الشواطئ التركية، صورة الضحية البريئة بامتياز. يذكر مهنّد، أحد مؤسّسي مكتبة “بيناتنا” التي تزود القراء بالكتب العربية تلك الفترة:
بالأوّل كان “ترند” (موضة)، انو فيه موجة لاجئين وهيك. رفضنا ندخل تحت هذا التصنيف، لأننا لسنا مجرّد لاجئين، ولا كلنا لاجئين، واحنا من مختلف الجنسيات أصلاً. كان فيه سطحية وسخافة في التعامل مع الموضوع. والغريب انك انت بتحكي للناس انك جاي من بلد الحرب وقنابل، عادي، بس بس تقوليلهن انك جيتي بالبحر، بيبلّش التعاطف.
ساهمت هذه السياسة في ظهور جمهور حقيقي للأنشطة الثقافية العربية، الأمر الذي يؤكّده فادي: “قبل عشر سنين، كان خيال فكرة واحد يفتح مكتبة ببرلين، لأنو ما كانش فيه جمهور”. لكن سلمى تنسّب صورة البلد المستقبل للاجئين: “لما تفكري فيها من ناحية الهجرة، بالنسبة للدولة المضيفة، المهاجرين دول هم أولا وقبل كل شيء أجساد تعمل. برلين إنتاجها هو إنتاج ثقافي ودول منتجين، حيجيبولنا سياحة وحيجيبولنا فلوس والناس حتيجي من كل حتة في أوروبا تشوفهم وتشوف شغلهم.”
يسعى البعض مثل محمد بدارنة إلى النأي بنفسه عن هذا المنطق من خلال العمل بشكل مستقل. صحيح أنه كمصوّر يعدّ كتابًا عن الشوارع العربية في أوروبا، وفيه ذكر لشارع “زونن آلي”. لكنه يرفض أن يتم اختزاله في هويته وانتمائه، كما يتضح من معرضه الأخير “The Forgotten Team” (الفريق المنسي) المخصص للعمال النيباليين في مواقع البناء الخاصة بكأس العالم في قطر. يرى محمد أنه من المهم أن يكون مصوّر فلسطيني - عربي – صاحب هذا المشروع، لإظهار التضامن بين مواطني الجنوب العالمي.
يحلم الجميع بخلق عالم عربي لا وجود له في أي مكان آخر. عالم يحاولون إعادة بنائه من خلال استعادة موروثهم الثقافي، مثل رهام التي تجد في الغناء العربي بعض السلوان. لم تزر حلب منذ 2017، ولم تعد مستعدة لمواجهة ذلك الكم الهائل من الحزن والبؤس، بعد أن غيّرتها برلين، كما تقول. آخرون أيضا قد لا يرون بلدهم مرة أخرى، مثل نضال بلبل الذي قد تمنعه السلطات الإسرائيلية في كل مرة من العودة إلى غزة، على الرغم من حصوله على الجنسية الألمانية.
رغم هذه المسافة غير القابلة للضغط، يحاول البعض التركيز على ما تقدمه لهم برلين. تؤكّد هبة عبيد، وهي فلسطينية من سوريا تعمل اليوم مع الإذاعة الثقافية الألمانية وتساهم في موقع “رصيف 22”: “بالنسبة الي، ما فيني كون هالقد مرتاحة بالكتابة كيف كنت بسوريا. برلين أعطتني هالأريحية، انو أكتب بهاللهجة، بهالخطاب، خصوصاً نسوي، والكتير متحرّر من قيم كتيرة بالمجتمع”.
تحاول كذلك مكتبة “خان الجنوب” استغلال هذا الهامش من الحرية، وشرعت هذا العام بنشر كتب وفق مبدأ بسيط: أن تنشر في برلين ما لا يمكن نشره في العالم العربي، لأسباب سياسية أو مجتمعية أو دينية. إلى متى يمكن أن تستمر هذه الوفرة الثقافية؟ يمثل الاستطباق المستمر للعاصمة الألمانية وتراجع هالة الثورات العربية تهديدًا لهذه الحياة الفنية. تتوقّع سلمى أن “السوريين موضة، والموضة هتعدّي”. بالفعل، انخفض منذ عام 2017 عدد الوافدين الجدد إلى ألمانيا بشكل كبير، وأصبحت قوانين اللجوء أكثر صرامة. كما تحذّر الباحثة المصرية من اعتماد العديد من هذه المشاريع على المانحين وافتقارهم إلى الاستقلالية. ويمكن أن يؤثر أسلوب التمويل هذا أو أن يحدّ من المواضيع التي يرغب الفنانون العرب في التطرق إليها، فيشجّع المشاريع المتعلقة بالحريات الفردية أو اللاجئين، بدلاً من مواضيع سياسية، مختزلين الفنانين في هويّة الضحية. وقد أصبح التهديد أكثر إلحاحًا مع الحرب في أوكرانيا وتدفق اللاجئين الجدد، الأمر الذي قد ينعكس سلباً على التمويل الثقافي.
في مقهى بلبل، بينما كان بعض الزبائن يتجاذبون أطراف الحديث والبعض الآخر يعمل على أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم، جلس رجل على آلة البيانو وبدأ في عزف أغنية “أهواك” لعبد الحليم حافظ. التفتُّ إلى نيار، زوجة نضال، بنظرة تساؤل فأجابتني: “إنه شادي، فلسطيني من اليرموك. له ورشة هنا في مركز”عيون“ويأتي بانتظام إلى المقهى، بحثا عن بعض الأنس. لقد شكّلت الحرب صدمة كبيرة بالنسبة له”. يواصل شادي العزف، ويبتسم لمن تعرّف على موسيقى “حبّيتك بالصيف” لفيروز التي شرع في عزفها. يسأل بشغف: “مين بدّك؟ شيرين؟ ماجدة؟ بتسمعي لجورج وسوف؟”. بمجرّد أن تتعرّف على الأغنية، يلمع بريق في عينيه، كمن وجد في صوت محاوره، هنا في برلين، صدى أرضه.