كانت العلاقة بين دمشق والحركة الفلسطينية قويّة طيلة سنوات عديدة، حيث كانت العاصمة السورية “ملاذًا آمناً” لقيادة حماس منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي. فإلى جانب البعد السياسي والعسكري والأمني لوجودها في سوريا، فإنّ علاقة شخصية “وثيقةً جدّاً” جمعت بين الرئيس السوري والرئيس السابق للمكتب السياسي للحركة والذي كان يقيم في دمشق. ويشير الباحث الفلسطيني صقر أبو فخر أنّ “أوساط خالد مشعل تقول إنّ الأخير كان يلتقي مع الأسد في حفلات شواء”.
وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، فإنّ أكثر من نصف مليون لاجئ فلسطيني يقيمون في سوريا وخصوصاً في مخيّم اليرموك في دمشق، الذي شهد معارك ضارية بدءاً من أواخر العام 2012. ويشير أبو فخر إلى أنّ “حماس” انخرطت في القتال داخل المخيّم عبر مجموعة يطلق عليها اسم “أنفال بيت المقدس”، بقيادة أحد مساعدي مشعل، وقد سيطرت على جزئه الجنوبي ثمّ سمحت بوصول الجماعات المتطرفة، قبل أن يحسم النظام والموالون له المعركة لصالحهم.
أمّا سياسياً فقد جاءت أبرز مواقف حماس المعارضة للأسد على لسان اثنين من أهمّ قادتها السياسيين، هما إسماعيل هنية الذي قال خلال صلاة الجمعة في جامع الأزهر بالقاهرة في فبراير/شباط 2012: “أحيي كل دول الربيع العربي، وأحيي شعب سوريا البطل الذي يناضل من أجل الحرية والديمقراطية والإصلاح”، وخالد مشعل الذي رفع علم الثورة السورية في مهرجان حاشد في غزّة بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس الحركة في ديسمبر/كانون الأول 2012، قائلاً: “لا نؤيد سياسة أي دولة أو أي نظام يخوض معركة دموية مع شعبه”. وقد جاءت هذه التصريحات بعد خروج قيادات حماس من دمشق وانتقالهم إلى قطر.
تجاذب بين الجناح السياسي والعسكري
يشير أبو فخر إلى أنّ “موقف حماس ضدّ النظام السوري كان انعكاساً للموقف العام لتيار الإخوان المسلمين المؤيد لثورات الربيع العربي، بعد أن ظنّ هؤلاء أنّهم في طريقهم إلى الحكم، لاسيما بعد وصولهم إلى السلطة في مصر وتونس”. ويلفت إلى أنّه كان هناك اتجاهان داخل حماس وقتئذ، الأول يقول بوجوب البقاء على حياد في أحداث الربيع العربي، والثاني بوجوب تبني الموقف العام للإخوان في المنطقة، علماً أنّ الجماعة المصريّة تُعدّ التيار الأم للحركة الفلسطينية. لكن وفق الباحثة في المعهد الألماني للدراسات العالمية والمناطقية مارين كوس، فإن كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحماس، قد أبدت استياءها بشكل خاص من مغادرة الحركة لسوريا، لما تسببت فيه هذه الخطورة من انخفاض شديد في الدعم المالي والعسكري الإيراني.
على الرغم من خروجها من سوريا، إلّا أنّ حماس لم تخرج كلياً من مدار إيران، كما ذكّر بذلك تشارلز ليستر من معهد الشرق الأوسط على قناة الجزيرة القطرية1، وإن كانت العلاقة بين الجانبين قد تراجعت إثر اندلاع ثورات الربيع العربي وحتى العدوان الإسرائيلي على غزة في صيف 2014، وفق الكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر. ففي مارس/آذار 2015، التقى خالد مشعل - الذي كان يشغل منصب رئيس المكتب السياسي لحماس - بعلي لاريجاني، رئيس مجلس الشورى الإيراني آنذاك. واعتبر باسم نعيم، نائب رئيس الدائرة السياسية في حماس هذا اللقاء مؤشرّاً على “مزيد من الدفء في العلاقة الوثيقة بين الحركة وطهران”. وكان لاريجاني قد قال في تصريح له خلال زيارة قام بها إلى لبنان في ديسمبر/كانون الأول 2014 إنّ "حماس والجهاد الإسلامي حركتا مقاومة فاعلتان.
إلّا أنّ التحوّل الكبير في مسار استعادة “دفء” العلاقات بين حماس وطهران جدّ في العام 2017، وتحديداً بعد الانتخابات الداخلية للحركة والتي أسفرت عن سيطرة ممثلّي الجناح العسكري على مؤسساتها في قطاع غزّة، حيث يعدّ قائد حماس الجديد في القطاع يحيى السنوار ومعظم أعضاء المكتب السياسي في غزّة من قادة كتائب القسّام أو المرتبطين بها.
الساحة اللبنانية
سرعان ما انعكس تحسّن العلاقات بين طهران وحماس إيجاباً على العلاقات بين الحركة الفلسطينية وحزب الله اللبناني، الحليف الوثيق لإيران. فلطالما كان الحزب والحركة حليفَين مقرّبين قبل الانتفاضات العربية لعام 2011، إذ كان بينهما تعاونٌ سياسي وعسكري، واصطفافٌ وثيق إلى جانب إيران وسوريا في إطار ما يسمى محور المقاومة أو الممانعة. وتشير كوس إلى أنّ حزب الله كان تاريخياً صاحب اليد العليا في الشراكة بين الطرفين، إذ كان يؤمّن التدريب العسكري لمقاتلي حماس، ويُقدّم لها توصيات سياسية، ويشجّع المنابر الإعلامية التابعة له على دعمها. كما أنّ العديد من كبار المسؤولين في الحركة يقيمون في ضاحية بيروت الجنوبية، معقل حزب الله. وكان تأثير الحزب على حماس نابعاً بشكل أساسي من علاقته الأوثق مع إيران، وقدرته على أن يشكّل رابطاً مهماً بين الحركة الفلسطينية وطهران.
لكن بعد اندلاع الحرب السورية ودعم حماس لفصائل معارِضة، بينما أرسل حزب الله مقاتليه للدفاع عن نظام الأسد، تراجع التعاون بينهما إلى الدرك الأدنى. وفي حين استمرت الاتصالات بينهما على مستوى منخفض، كما تقول كوس، تبادل الطرفان الانتقادات في العلن. وقد شدّد أعضاء في المجلس التشريعي الفلسطيني ينتمون إلى حماس على أنّ الدعم العسكري الذي يقدّمه الحزب لنظام الأسد ليست له أي علاقة بالمقاومة. في المقابل، اتّهم حزب الله الحركة الفلسطينية بخيانة قضية المقاومة ضد إسرائيل، والتقرّب كثيراً من الإخوان المسلمين في مصر.
على الرغم من كل ذلك، عادت الروابط بين حزب الله وحماس لتتحسّن بحلول النصف الأول من العام 2017. ويُذكر أنّ محمد الضيف، القائد العام لكتائب عزّ الدين القسّام، كان قد أرسل في مايو/أيار 2015 رسالة إلى نصرالله يدعو فيها إلى تقاطع النيران بين الحركة والحزب في مواجهة إسرائيل. وتجدّدت الاجتماعات بين مسؤولين كبار من الجانبين، وكان أبرزها اجتماع عُقد في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2017 ببيروت بين الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، ونائب رئيس المكتب السياسي في حماس صالح العاروري. وفي اليوم التالي، شارك هنية في المؤتمر العالمي الثاني لدعم المقاومة الذي أقيم في بيروت وحضره ما يزيد عن مئتَي شخص عن أكثر من ثمانين بلداً، بينهم نصر الله ونائبه نعيم قاسم.
أتاح حزب الله لحماس منذ العام 2017، وبشكل تدريجي تبعاً للتطوّرات الإقليمية، توسيع حضورها السياسي والعسكري والأمني في لبنان. فبعد الأزمة الخليجية بين دولة قطر - أحد أبرز الداعمين الإقليميين لحماس -والمملكة العربية السعودية في تلك السنة، لجأ العاروري، إلى بيروت، إذ لم تعد الدوحة قادرة على استضافة قادة حماس النشطين، لأنها كانت تحاول صدّ الاتهامات التي طالتها بدعم التنظيمات الإرهابية.
كما أنّ زيارة هنيّة إلى بيروت في سبتمبر/أيلول 2020 أظهرت التحوّل النوعي في حضور حماس على الساحة اللبنانية، حيث التقى رئيس المكتب السياسي للحركة بنصر الله كما تخلّل، الزيارة انتشار عسكري ظاهر وكثيف لعناصر حماس في مخيّم عين الحلوة، وهو أمر ما كان ليحصل لولا التقارب المستجد بين الحركة وحزب الله. ويُذكر أنّ زيارة هنيّة لبيروت حصلت بعد وقت قليل على توقيع اتفاقية التطبيع بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل في 13 أغسطس/آب 2020، ما أعطاها معنى سياسياً واضحاً لناحية استعداد “محور المقاومة” لتوطيد أواصره، ردّاً على مسار التطبيع بين دول عربية وإسرائيل. كما كشف محمد السنوار، عضو هيئة أركان كتائب القسام، عن وجود غرفة عمليات مشتركة بين الحزب والحركة2، ساندت الأخيرة في معركة “سيف القدس” في مايو/أيار 2021، وضمّت ضباطاً من حزب الله ومن الحرس الثوري الإيراني، ومقرّها لبنان. وكان انفجار مستودعٍ للأسلحة تابع للحركة في مخيم البرج الشمالي بالقرب من مدينة صور الجنوبية في 12 ديسمبر/كانون الأول 2021، والذي أسفر عن مقتل حمزة شاهين، دليلاً آخر على الحضور الأمني والعسكري المتزايد لحماس في لبنان.
على المستوى السياسي، عملت حماس على إجراء مصالحة بين الحزب والجماعة الإسلامية في لبنان، ثمّ ساهمت في إيصال الجناح القريب منها إلى سدّة القرار في الجماعة، ويعدّ هذا الجناح أشخاصاً هم على جداول رواتب حماس بوصفهم موظفين متفرغين، وفق الصحافي صهيب جوهر، الباحث في ملف حركات الإسلام السياسي.
هزائم مفصلية، من حلب إلى القاهرة
توطّد علاقة حماس بكلّ من إيران و“حزب الله كان لا بدّ أنّ يؤدي في نهاية المطاف إلى المصالحة بين الحركة الفلسطينية والنظام السوري، خصوصاً أنّ إيران والحزب كانا طيلة السنوات الماضية يسعيان إلى إعادة بناء دوائر”محور المقاومة“. أظهرت حماس تدريجيًّا رغبة بـ”العودة" إلى سوريا، خصوصاً بعد إعادة إنتاج هيكليتها الداخلية في العام 2017. وقد بدأت أصداء هذه الرغبة تُسمع في أروقة حماس بعد العدوان الإسرائيلي على غزّة في صيف عام 2014، حيث ارتفع أكثر، وفق أبو فخر، صوت التيّار الذي كان يدعو للوقوف إلى الحياد في الحرب السورية، فإذا به يدعو إلى شكر إيران وسوريا معاً، خصوصاً أنّ إيران كانت ترسل الأسلحة إلى الحركة عبر سوريا إلى السودان ومنها إلى مصر برّاً ثمّ سيناء وصولاً إلى غزّة.
يشير مصدر إعلامي فلسطيني في بيروت رفض الكشف عن اسمه إلى أنّ الحديث عن المصالحة بين الحركة والنظام السوري بدأ يتردّد أكثر في أوساط حماس بعد حسم نظام الأسد وحلفائه معركة حلب في صيف العام 2016. وهي معركة اعتبرت مفصلية في مسار الحرب السورية، باعتبار أنّ استعادة النظام السوري للعاصمة الاقتصادية حلب بدعم من روسيا وإيران، عزّز الاعتقاد بعدم قدرة المعارضة السورية على إسقاط النظام. بالتالي فإنّ رهان حماس على وصول الإخوان المسلمين إلى سدّة الحكم في سوريا أصبح بعيد المنال، خاصة بعدما سقط حكمهم في مصر في 2013.
هكذا لم يعد الموقف المؤيد لإعادة العلاقات مع النظام السوري داخل حماس يقتصر على جناحها العسكري والأمني، فقد حرص إسماعيل هنّية بعد انتخابه رئيساً للمكتب السياسي للحركة على تعديل خطابه، والاقتراب أكثر من سوريا وإيران. وقد أعلن في يونيو/حزيران 2018 أن ما نُسب إليه من كلام حول دعم الثورة السورية غير دقيق، وأنّ حماس لم تكن يوماً في حالة عداء مع النظام السوري.
لكن لماذا تأخرّعقد المصالحة بين الحركة الفلسطينية ودمشق طيلة هذه السنوات؟ هل هذا التأخير مردّه إلى تحفّظ النظام السوري على عودة الحركة إلى سوريا وحسب، أم أنّ مصالح كلّ الأطراف المعنية بهذه المصالحة لم تكن قد اتضحّت بعد بما فيه الكفاية؟
في الواقع، يصعب الاعتقاد أنّ تحفظّ دمشق على حماس، أو “كرهها” لها وفق تعبير أبو فخر، هو ما أخّر عقد المصالحة. ففي ظلّ موازين القوى الحالية ضمن “محور المقاومة” التي تقوده إيران، لا يمكن لنظام الأسد أن يرفض طلباً لإيران تعتبره الأخيرة مصلحة حيوية لها. أما التفاصيل الشكلية لزيارة ممثلّ حماس خليل الحية إلى دمشق ولقائه الأسد في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2022 ضمن وفد فصائلي فلسطيني، فهي لا تؤشّر إلى حرص النظام السوري على تبيان موقفه المتحفّظ من حماس والحذر من تسريع وتيرة العلاقات معها، بقدر ما تؤشّر إلى سعي الأسد إلى إظهار مكانته ضمن “محور المقاومة”.
شروط دمشق
وضعت دمشق شروطاً لاستئناف علاقاتها مع حماس، منها - وفق جريدة “الشرق الأوسط” السعودية - استبعاد قياديين في الحركة من دخول أراضيها، وأبرزهم خالد مشعل3، حيث ميّزت دمشق بين “الجناح المقاوم” و“الجناح الإخواني” للحركة، وفق صحيفة “الوطن” السورية الموالية للنظام، علماً وأن الإعلام الموالي له تعامل بتحفظّ شديد مع موضوع إعادة العلاقات مع حماس. كما ذكرت صحيفة “الوطن” في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2022 أنّه “وقع الاختيار على الحيّة ليترأس وفد حماس إلى سوريا”، ما يعكس رغبة النظام الواضحة في إظهار أنّه هو من حدّد تفاصيل اللقاء، شكلاً ومضموناً.
ووفق مصادر إعلامية متقاطعة، اشترطت دمشق أنّ تقدّم حماس اعتذاراً عن موقفها من الحرب في سوريا، وهو ما رفضته الحركة “رفضاً قاطعاً”، لكنها أصدرت عوض ذلك بياناً في 15 سبتمبر/أيلول 2022 أكّدت فيه قرارها استئناف العلاقات مع دمشق و“سعيها إلى بناء وتطوير علاقات راسخة معها”. وكان الحيّة قد أكّد في تصريح لجريدة “الأخبار” اللبنانية والقريبة من حزب الله منذ 22 يونيو/حزيران 2022 أنه تمّ اتخاذ قرار بـ “إعادة العلاقة مع دمشق”. كما أشارت الحركة في بيانها إلى أن هذا القرار يصب في “خدمة الأمة وقضاياها العادلة، وفي القلب منها قضية فلسطين، لا سيما في ظل التطورات الإقليمية والدولية المتسارعة”، وأدانت تعرّض مواقع في سوريا للقصف الإسرائيلي.
أرجع العديد من المحلّلين عودة العلاقات بين دمشق و“حماس” إلى رغبة إيران في إعادة ترميم “محور المقاومة”، كردّ على مسار التطبيع بين دول عربية وإسرائيل في العام 2020، ومؤخّرا مع تركيا. وفي هذا السياق يقول باسم نعيم: “بما أن بعض الدول العربية اختارت تطبيع العلاقات مع إسرائيل، فمن المنطقي أن تقف حماس إلى جانب أولئك الذين يختارون المقاومة ضد العدو الصهيوني”4، في إشارة إلى إيران وحزب الله. لكن أبو فخر لا يرى ارتباطاً مباشراً، من حيث التوقيت، بين إعادة العلاقات بين دمشق وحماس وبين موجة التطبيع، “فسعي إيران وحزب الله لعقد المصالحة بين الجانبين بدأت منذ نحو أربع سنوات أي قبل بدأ مسار التطبيع، لكنّ ظروف هذه المصالحة نضُجت الآن”. في جميع الأحوال، من الواضح أنّ هذه المصالحة جاءت كتعبير عن التقاء مصالح أطرافها جميعاً في إتمامها، سواء طرفيها الرئيسيين أي النظام السوري وحماس، أو الأطراف التي دفعت باتجاه حصولها، أي إيران وحزب الله، اللذان بذلا “جهوداً مضنية” لإعادة العلاقات بين دمشق وحماس وبتدخّل شخصي من نصر الله وحتّى من القائد السابق للحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني، وفق مصادر فلسطينية. كما يذكر مصدر إعلامي فلسطيني في بيروت أنّ روسيا دفعت باتجاه تحقيق هذه المصالحة، لافتاً إلى أنّ حماس تلقّت مساعدات مالية من موسكو مؤخراً.
بعيداً عن الدوحة وإسطنبول
يشير الكاتب في موقع “أساس ميديا” اللبناني محمد قوّاص إلى أنّ:
تركيا تسعى إلى استعادة شعار تصفير المشاكل مع جيرانها، فيما فرضت المصالحة الخليجية [التي تمّت في مدينة العلا بالمملكة العربيّة السعودية في 4 يناير/كانون الثاني 2021] تموضعاً جديداً لقطر في العلاقة مع الجوار الخليجي والدائرتين العربية والدولية، وهذا ما أفقد حماس العمقين القطري والتركي5.
وقد دفع التقارب المستجدّ بين تركيا وإسرائيل بالأولى إلى تخفيف وجود حماس على أراضيها، ما أدّى إلى “طرد” عشرة نشطاء من الحركة من تركيا. ويشير أبو فخر إلى أنّ “المصالحة بين دمشق وحماس لم تسبّب مشكلة للأخيرة مع قطر، إذ تم التفاهم على أنّ الحركة مضّطرة لتطبيع علاقاتها مع الأسد، وليس للقطريين مشكلة مع الإيرانيين الذين يريدون هذه المصالحة”. وبينما يلفت أبو فخر إلى أنّ تركيا لم تستسغ عودة العلاقات بين دمشق وحماس، يشير جوهر إلى أنّ الأتراك شجعّوا الحركة الفلسطينية على تطبيع علاقاتها مع نظام الأسد، ولاسيّما أنّ تركيا تعتمد سياسات جديدة في التعامل مع الملف السوري، وقد تمّ الإعلان عن حصول لقاءات بين مسؤولين أمنيين من الجانبين.
ويقول ليستر لقناة “الجزيرة”: “يبدو أن الديناميكية الأكثر إثارة للاهتمام في إطار هذه المصالحة، هي علاقة حماس بقطر التي تظلّ الحكومة الإقليمية الأكثر تصميماً على الاستمرار في مقاومة أي تطبيع مع نظام الأسد”، ويعتبر أنّ “الوقت سيحدّد ما إذا كان بإمكان الدوحة الاستمرار في التوفيق بين هاتين الدائرتين المتناقضتين”، أي بين علاقتها الوطيدة بحماس، وبين تطبيع الأخيرة لعلاقاتها مع نظام الأسد الذي تعارضه قطر، مع العلم أنّ الإعلام القطري لم يتعامل بإيجابية مع هذه المصالحة. وكان خليل الحيّة قد أشار في مؤتمره الصحافي في أعقاب لقائه مع الأسد أنّ “حماس قد اتخذت قرار العودة إلى دمشق بمفردها لكنّها أعلمت الدول التي هي على علاقة بها بقرارها”، نافياً اعتراض أي منها على هذا القرار “بما في ذلك قطر وتركيا”. لكنّه عاد بعد ذلك وأصدر بياناً في 23 أكتوبر/تشرين الأول يشير فيه إلى أنّ الدوحة لم تبارك هذه المصالحة.
طموحات حماس العسكرية
لكنّ الأكيد أنّ حماس اتخذت قرارها بالمصالحة مع الأسد بناءً على تقدير مصالحها المباشرة قبل مصلحة أي من الأطراف الإقليمية الداعمة لها، أو بصيغة أخرى فهي وجدت أن “خسائرها” من جرّاء هذه المصالحة أقلّ من أرباحها منها. ويشير المحللّ السوري كرم شعار إلى أنّ “عزلة حماس السياسيّة في المنطقة دفعتها للبقاء على مقربة من إيران”. علماً أنّ الحيّة كان أشار من دمشق أنّ “حماس اتخذت قرارها بالعودة إلى دمشق بالإجماع”، بينما أشارت مصادر إعلامية إلى أنّ “عضواً واحداً فقط داخل المكتب السياسي لحماس اعترض على القرار”. لكنّ هذا “الإجماع” داخل حماس يؤشّر إلى أن خيارها لتطبيع العلاقات مع الأسد هو خيار الضرورة في اللحظة الراهنة.
يقول شعّار:
تحرّكت حماس لتطبيع العلاقات مع سوريا بضغط من إيران التي تجعل دعمها للحركة الفلسطنينية مشروطاً بإعادة العلاقات مع الأسد. هذه الخطوة ستزيد بالتالي من دعم إيران لحماس، لأنّها تعيد تنظيم الحركة تحت الجناح الإيراني.
ويتفّق أبو فخر مع شّعار إذ يعتبر أن تطبيع حماس لعلاقاتها مع الأسد تعني أنّ الحركة أخذت خيارها النهائي إلى جانب “محور المقاومة”. بينما يشير ليستر إلى أنّ “وجود حماس محدَّد بمقاومتها لإسرائيل، وللحفاظ على ذلك، فهي لا تحتاج فقط إلى الدعم الاستراتيجي الإيراني، بل تحتاج إلى سوريا أيضاً”.
في هذا السياق فإنّ عودة حماس للانضواء تحت جناح “محور المقاومة” ليست سياسية فحسب، بل عسكرية وأمنية أيضاً، إذ يشير أبو فخر إلى أنّ “الحربين الأخيرتين بين قطاع غزّة وإسرائيل أثبتتا أنّ أسلحة المقاومة الفلسطينية تحتاج إلى الكثير من التطوير. فمنذ العام 2021، بدأت داخل حماس مناقشة جدوى الصواريخ التي تطلقها الحركة، فهي مهمّة معنوياً لكن أهميّتها العسكرية محدودة”. وبما أنّ إيران هي من يطوّر البنية التحتية العسكرية لحماس، فإنّ الحركة وجدت أنّه لا بدّ من تحسين العلاقة معها إلى أقصى حدّ. في وقت أنّ دمشق كانت تلعب دوراً مهماً في عملية تسليح الحركة الفلسطينية، سواء في كونها كانت تشكّل حلقة من الحلقات الجغرافية لإيصال السلاح، أو لأن الحركة كانت تقيم على أراضيها مقرّات للتدريب وتطوير الأسلحة.
عودة “شكلية”
ما كان قبل “الثورة السورية” بالنسبة لحضور حماس في سوريا لن يكون هو نفسه بعد المصالحة. صحيح أن الحيّة وصف اللقاء مع الأسد بـ“الدافئ” - وهو ما أثار انتقادات واسعة في أوساط قريبة من الحركة -، لكن لا يُتوقع أن تعود قيادتها للإقامة في سوريا، بسبب الوضع الأمني الناتج عن القصف الإسرائيلي، وانعدام الاستقرار في مناطق مختلفة من سوريا. وهو ما جاء على لسان مصدر من الحركة في مقال لموقع “ميدل إيست آي” البريطاني: “لم تعد سوريا كما كانت من قبل، ووضعها الأمني صعب، والقيادة لن تعود للإقامة فيها، وإعادة العلاقات قرار سياسي ولوجستي لتعزيز التحالفات في المنطقة”.6.
من جهتها، أشارت مصادر سورية لجريدة “الأخبار” اللبنانية إلى أنّ “عودة تمثيل الحركة في دمشق وعودة جزء من نشاطها فيها يحتاج إلى مزيد من الوقت، في ظلّ التعقيدات التي كانت تشوب العلاقات بين الطرفين”7.
ويلفت أبو فخر إلى أنّ “العلاقة المستجدة بين حماس والأسد هي الآن في مرحلة اختبار، وستقبل سوريا بممثل لحماس دائم الإقامة في دمشق يرجّح أن يكون علي بركة، مسؤول حماس في لبنان سابقاً، الذي يعمل كمساعد لأسامة حمدان مسؤول العلاقات الخارجية في الحركة”. في وقت يرجّح مصدر إعلامي فلسطيني في بيروت أن يكون حضور حماس في سوريا “في كنف حزب الله والحرس الثوري الإيراني”.
إذا كانت المصالحة بين حماس والأسد قد فتحت، بالنسبة للمصدر نفسه، نافذة عربية للحركة بعد فشلها في تحسين علاقاتها العربية سواء مع الإمارات العربية المتحدة أو مصر أو الجزائر، حيث حاولت أن تفتح تمثيلية لها هناك لكن السلطة الفلسطينية ضغطت على السلطات الجزائرية لمنع ذلك، فإنّ تجديد العلاقات مع حماس يشكّل بالنسبة إلى سوريا - التي لم تستطع استثمار علاقاتها العربية للعودة إلى جامعة الدول العربية - نوعاً من جائزة ترضية، يسمح لها بـ“تجديد مكانتها وصورتها كدولة عربية داعمة للقضية الفلسطينية”. أما المستفيد الرئيسي من هذه المصالحة فهي طهران، التي تستعيد حلقة مفقودة في شبكة تحالفاتها في الشرق الأوسط، أو بعبارة أخرى فهي تعيد إنتاج “محور المقاومة” ضدّ إسرائيل في وقت تواجه العديد من التحدّيات الداخلية والخارجية، وهو ما يجعلها أكثر حاجة إلى تمتين تحالفاتها الإقليمية والدولية.
1“Iranian support vital for Hamas after ties restored with Syria”، موقع الجزيرة بالإنكليزية، 25 سبتمبر/أيلول 2022.
2قناة الجزيرة، 28 مايو/أيار 2022.
3“’حماس’ تعلن من دمشق ’طي صفحة الماضي’”، الشرق الأوسط، 20 أكتوبر/تشرين الأول 2022.
4“Iranian support vital for Hamas after ties restored with Syria”، موقع الجزيرة بالإنكليزية، 25 سبتمبر/أيلول 2022.
5“طهران-بيروت.. هل بات خيار”حماس“الإيرانيّ نهائيّاً؟”، أساس ميديا، 25 أكتوبر/تشرين الأول 2022.
6«Hamas decision to restore ties with Syrian government sparks controversy»، ميدل إيست آي، 18 سبتمبر/أيلول 2022.
7“عهد جديد يبدأ: المقاومة مستفيداً أوّل”، الأخبار، 20 أكتوبر/تشرين الأول 2022.