تقرير

القاهرة. سهرة على متن سفن النيل

في مدينة تمزقها الانقسامات الاجتماعية وتجتاحها الكآبة، تُعد نزهات مساء الخميس على نهر النيل، على متن إحدى السفن الشعبية، إحدى الفرص القليلة للاستمتاع بمبلغ معتدل. طبعاً، ليس “النهر الخالد” بمنطقة خارجة عن السيطرة، لكن المتعة هناك بلا حساب.

lokha/Flickr

الخميس 8 ديسمبر/كانون الأول 2022، بُعيد الساعة العاشرة ليلاً. تقف فاطمة* بثبات على حافة الجدار الحاجز المؤدي إلى أحد السفن الثلاث التي تمتلكها. تتحدث مع إحدى قريباتها، التي يلعب أطفالها على الجدار الحجري الصغير وهم ينتعلون صنادل. على الرصيف، يوجد بالفعل على متن سفينة ثابتة عشرات الأشخاص، معظمهم جالسون على مقاعد محيطة بأطراف القارب يحتسون “ستيلا”، البيرة الشائعة في مصر. تشير فاطمة بارتخاء للمتأخرين أن القارب لم يغادر بعد. تأخير بساعة ونصف ليس استثنائياً في الحقيقة.

في مساء الخميس، يختار بعض سكان القاهرة القيام برحلة على سفينة للاحتفال بأول سهرة من عطلة نهاية الأسبوع، لكن ليس أي سفينة. قارب ذو محرك صاخب، تمتزج فيه رائحة المازوت مع ارتجاج الزورق الذي، كون سعته تصل إلى مائة وعشرين شخصًا، يثير مخاوف الانقلاب مع كل موجة مرتدة.

مكان نادر للاختلاط الاجتماعي

انطلاقاً من الزمالك، الحي الشمالي للجزيرة وهي أفخم منطقة في القاهرة، تحجز مجموعة مكانها على السفينة مباشرة لدى فاطمة، قصد استيعاب عدد كبير من الأشخاص. عادة ما يتكفل ممدوح بالأمر، بمزاجه المرح وإقباله على الاحتفال، فهو يجد “في هذه الأمسيات جوًا ولهوا نادرًا ما يتوفر”. فضلا عن تلقي عمولة محتملة، فإن هذا يعزز من مكانته الاجتماعية ويعطيه دورًا محوريا في المجموعة.

يتم مشاركة الخبر أيضًا عبر شبكات التواصل الاجتماعي، حتى يلتقي الأصدقاء، ولكن ليس حصراً. صحيح أن المعتادين يشكلون غالبية المحتفلين، لكن يبقى المكان فعليًّا أحد الأماكن الليلية النادرة حيث لا يزال التقاء الأنواع والطبقات والأنماط ممكنًا. تكلفة الرحلة 30 جنيهًا مصريًا للساعة الواحدة (حوالي دولار)، وهو مبلغ ليس في متناول الجميع، ولكنه ميسور لجزء من الشباب المصري. ويبقى على كل حال أقل بكثير من كلفة البواخر- المراقص بالزمالك، والتي تستقبل زبائن أثرياء ومواكبين للموضة، أو حتى أرخص من الملاهي التي عفا عنها الزمن في وسط المدينة وشارع الهرم، المؤدي إلى أهرامات الجيزة، والذي يختلط فيه الأثرياء المصريون الجدد بالسياح الخليجيين والراقصات المحترفات.

بغض النظر عن الجانب المادي، وحتى عن الانتقاء المفروض عند مدخل العديد من الحانات والنوادي الليلية، فإن العنف الرمزي الذي يثني شباب الأحياء الشعبية عن الخروج يكمن في مكان وجود هذه الأماكن الاجتماعية الليلية الجديدة، خاصة في الأحياء الميسورة بالعاصمة، مثل المعادي (جنوب القاهرة) والزمالك، أو أحياء جديدة مثل “التجمع” في مدينة القاهرة الجديدة. كأن ارتياد هذه المناطق الجغرافية غير مباح للجميع، وأن غالبية السكان ممنوعون من الوصول إلى المدينة. وما يزيد في حدة ذلك الشعور قلة الأماكن العامة، لا سيما أماكن التنزه والملاعب الرياضية، وخصخصة ضفاف النيل وحركة السيارات الكثيفة. مع كون الأخيرة تتمتع بميزة تغطية المحادثات وإخفاء هوية اللقاءات، مثل ما كانت تسمح به في وقتها النوافير الأموية، وخاصة بالنسبة للعشاق الشباب، الذين يفضلون اللقاء على جسر قصر النيل، مولين ظهورهم إلى نَفِير السيارات وفي مواجهة توهجات النيل الحُلُمية.

لذّة الخروج من المكان

من جانبه، لا يجد الشباب المعدم خياراً آخر سوى المكوث في البيت أو الجلوس على شرفات المقاهي، ويفضل أن تكون مقاهي حيه، للتحدث تكراراً ومراراً عن شعوره بأنه في سجن. شعور يتغذى هو نفسه من الانطباع الشامل بكونه أسير جميع جوانب وجميع مقاييس ما هو قائم: الدولة، المجتمع، الأسرة، ربّ العمل (إن وجد)، المواطنة وجزيئات الأكسجين الملوثة. حتى حفلات الزفاف الشعبية التي كانت تُقام في الشارع وتسمح باسترجاع مجال الحي بشكل عابر ولكن احتفالي، خصوصا من خلال الرقص بما في ذلك التحطيب، صارت أقل.

لذا، توفر الأمسيات على متن السفن هروباً ليس إلى قلب القاهرة فقط، بل على الخصوص إلى وسط النيل. ويوفر الطابع النهري لهذه اللحظات نكهة معينة بالخروج من المكان، تمنح فسحة للجميع، في بلد يخضع لنظام سياسي أكثر فتكًا بالحريات من سابقه. يشير تأرجح الأمواج وحده إلى تقلب العالم والهروب منه. ويتعلق الأمر – لمدة سهرة واحدة - بقلب نظام الحياة اليومية.

على متن السفينة، تنقلب القيم والأعراف السائدة. وبعيدًا عن الميول إلى الكحول، وإمكانية الطعن في المغايرة الجنسية النمطية، تسمح الخيارات الصوتية والراقصة للجميع بتعاطي هامش صغير من الحرية، حميمي وجماعي في نفس الوقت. تساهم موسيقى المهرجانات من أوائل سنوات الألفين، من خلال أغاني الشَكْوَى الشعبية التي أضيفت إليها إيقاعات إلكترونية، في النشوة الجماعية وتحفيز الأجواء، لسهرة واحدة. هذه النغمات التي يعرفها الجميع تسد الاختلافات، وتجمع في طاقة واحدة صراخ الحضور وغضبهم الداخلي. ومع ذلك، فهي تذكّر الجميع بأوضاعهم. لكن يتعلق الأمر هنا، مرة أخرى، بعكس الاتجاه. فالغاية ليست تحمّل هذه الأصوات، كما هو الحال في معظم الأماكن في القاهرة، من التوك توك إلى صالونات الحلاقة مرورا بالمطاعم الشعبية، بل ترويضها بالرقص وحيوية اجتماعية معينة.

كما هو الحال في فرنسا، سمحت القيود المتعلقة بـ (غياب) الإدارة الصحية لأزمة كوفيد 19 للسلطات السياسية في القاهرة بتقييد أكبر للحياة الليلية، والتي يُنظر إليها على أنها مصدر للاضطرابات، خاصة في الأماكن الخارجة عن السيطرة، ولكن بشكل عام في جميع الأماكن التي تستقبل جمهوراً، والتي أُمرت بإغلاق أبوابها في ساعة مبكرة من الليل. وقد تأثرت سمعة العاصمة المصرية بوصفها مدينةً لا تنام بهذه التدابير، بينما صارت المراقبة الشاملة للحشود أسهل.

من كوبري إمبابة إلى ضفاف فندق “فيرمونت”

على الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً، يكون الحفل على السفينة في أوجه، ويرقص على متنها حوالي ستون شخصًا على أنغام المهرجانات الأكثر رواجاً. تقترب دورية لشرطة النهر من القارب. تُطفأ الأضواء بسرعة بينما تختفي المشروبات والمخدرات. يغادر الأعوان بعد حوالي عشر دقائق، وهدفهم الرئيسي - فضلا عن أخذ رشوة - هو تذكير مالكي القارب ومنظمي السهرة بأن السلطات الأمنية لا تزال ساهرة، وبالتالي، بأن النيل ليس مجالاً خارجاً عن السيطرة.

الساعة منتصف الليل وربع. تمرّ السفينة تحت جسر إمبابة، وهو عبارة عن كتلَة زرقاء مهيبة من الصلب والرصاص، حديدية جزئيًا، مع تعريشته البارزة النموذجية لبداية القرن الماضي. في هذه اللحظة، تحت سقف الجسر، يتحرك الحشد كرجل واحد ويحاول، بصرخة واحدة، مقاومة هذا الغطاء الذي يلفه. مرة أخرى، للحظة. هو فاصل يجعله نسيم الخريف اللطيف، وبفضل سكون النهر، أكثر متعة للأجساد وهي تتحرك بخفة.

ثم تتوقف السفينة أمام “فيرمونت نايل سيتي”، أحد أفخم فنادق العاصمة، بمطاعمه السبع وباراته والكازينو الذي يحتضنه. لا يزيد الحشد في طاقته للتهكم على الأقوياء في بروجهم المتغطرسة، بل يظل غير مبال بالانقسام والفروقات المالية، كما لو كان يريد التأكيد بوضوح أن السفينة مكان بعيد عن الشاطئ، خارج الأرض، بعيد عن عنف القاهرة الاجتماعي. لا داعي للقلق بشأن التمثيلات، بينما يتجسد الواقع هذه المرة. في ظرف سهرة، يتم نسيان الكبت الجنسي وخيبات الأمل المهنية والجهد اليومي والضغوطات المجتمعية والعائلية، وترمى إلى الاسفلت البارد والجاف على الشاطئ. في مدة سهرة واحدة.

بعد نصف ساعة من منتصف الليل، وبسرعة فائقة، يخرج زورق من الظل ليجلب مجموعة من المشاركين الجدد. يثير عنصر المفاجأة والطابع السينمائي المصاحب لها فضول الحشد الذي يزداد كثافة. صارت السفينة جسداً يتمايل بين الأمواج. على عكس القوارب (خاصة الذهبية) التي خصخصها العديد من الأغنياء المصريين والأجانب ليعيشوا فيما بينهم فقط، فإن هذا الموعد النهري الأسبوعي مجتمعي، حيث يخلق شعورًا بالانتماء إلى شلّة ما، دون أن يكون إقصائيا، فالفكرة تكمن على وجه التحديد في اللقاء والاختلاط والمشاركة، كما لو أنها مناسبة لكلّ شخص لينسى ظروفه ومصيره في مياه النيل الزيتية وغير الصافية. إلى درجة الانصهار فيها كليّاً. إلى درجة الارتياح - ولا يوجد شعور أكثر تحرراً من تفريغ مثانتهم عند مقدمة السفينة بالنسبة للرجال، واقفين وحدهم في مواجهة ضخامة وانعكاسات المدينة. هنا، مرة أخرى، الراحة هي الهروب. يمكن للنساء أيضًا أن يقمن بذلك، في مؤخرة السفينة، بجانب قبطان بارد الأعصاب، والذي يكون قد شاهد ما يكفي في مهنته كي لا يتفاجأ من أي شيء. يمكن للذين هم أكثر حرجا العودة إلى الشاطئ لتفريغ مثانتهم في مطعم دجاج “كنتاكي”، قبالة الجِسْر العائم، ليتحدوا بنشوة الانبعاثاتَ الكارثية للرأسمالية المعولمة.

إنها الواحدة صباحًا. انتهى الحفل للأسف. العودة إلى الأرض حزينة، كلدغة مُرّة من الواقع. عند مدخل الدرج المؤدي إلى المدينة، تقف فاطمة، قوية، مبالغة في دورها كحارسة، لتحصيل ما تستحقه. يمنحها حجابها الأسود وقارا أكبر. يتواصل العمل كالمعتاد على أرض القاهرة. يفرّ الهروب، ويُخرج ضجيج السيارات المستمر المحتفلين من حلمهم، ليعيدهم إلى مرارتهم الذاتية، مع لدغة أولى تتمثل في لمس النقود التي يستخرجونها بخجل من جيوبهم.

لحسن الحظ، يسمح عمر، بائع البطاطا الحلوة المتجول، بتليين هذه العودة المفاجئة إلى الواقع ولفها في نفخة من الدخان المعطر. هي لحظة أيضًا مواتية للارتخاء الشائع جدًا على ضفاف المدينة وشرفات المقاهي في القاهرة، بين لعبة الطاولة ونفث الشيشة، كمحاولة لتمديد الوقت. في وقت لاحق، سوف يتبدد الحشد تدريجياً، وسيعود، في سرية، إلى وتيرة الحياة الحضرية الجنونية للعاصمة. وذلك لأسبوع طويل.