في مطلع 2023، توالت على قائمة أخبار المشتركين اليمنيين في شبكات التواصل الاجتماعية العديد من الصور، كالستارة الصنعانية، الزي التراثي المزين بألوانٍ بهية والمنتشر في الهضاب العليا في شمال اليمن، وصور أخرى للسلتة، الوجبة التقليدية المطبوخة في طبق حجري، وصولاً إلى صور أكياس القات، النبتة الورقية ذات التأثيرات المهدئة التي تُمضغ في فترة ما بعد الظهر في جميع أنحاء البلاد. تنوعت وتضاعفت هذه الصور التي تحمل وسم (هاشتاغ) “#الهوية_اليمنية” حتى وصل عددها لعشرات الآلاف. وكانت تتخذ على وجه الخصوص شكل منشور يظهر فيه شخص ما بالزي التقليدي، في صورة يتم التقاطها أحياناً أمام المواقع الأثرية، أو تسلط الضوء على الحرف اليدوية، كالحُلي الفضية التراثية المميزة.
وكما جرت العادة في كثير من الأحيان عقب هذه الحركات العفوية، يتم باستمرار إعادة تأويل معنى الوسم، من أجل تقديم تصور ذاتي وشخصي حول مفهوم الهوية. إلى درجة أن البعض اختار تحويل معنى هذا الوسم كما فعل صاحب تلك الصورة التي تظهر ورقة ممزقة من فئة 100 ريال يمني (أي 0,40 دولار)، محاطة بورقة جديدة تماماً من فئة 100 ريال سعودي (26,65 دولار) و100 دولار أمريكي لا تشوبها شائبة. ومنها يُفهم بالتالي أن البؤس هو التجسيد للهوية اليمنية.
بالنسبة للمتابع الخارجي، لا يمكن أن يكون هذا التوجه إلا مجرد هواية بريئة للتسلي، ذات طابع ظريف وللتنفيس عن الذات أو حتى السخرية، في مجتمع يتميز بالثراء الثقافي العظيم. لكن علاوة على البُعد الظريف، قد نستشف ان إبراز هذه الصور الإيجابية أو الصور التي تهدف إلى إعادة تعريف وتعزيز الهوية الوطنية للفرد تأتي كرد فعل على حالة الحرب والاكتئاب الذي يتولد عنها. فاستحضار جمال المناظر الطبيعية، والبساطة الأنيقة في الأزياء، والأذواق المتواضعة في الوجبات العائلية، يمثل تعبيراً عن مواساة النفس، وإن كان سطحيًا بالطبع، في مجتمع اُبتلي بسنوات من الصراع. هكذا كان تأويل الهوية في عيون الكثير من اليمنيين، فهم فخورون بإظهار أنفسهم في صورة أفضل، بعد أن أرهقتهم مشاهد الحرب وصور المجاعة، ويحلمون على الأرجح بجنتهم المفقودة.
في الأصل كانت حركة نسوية
بيد أن هذه الحركة العفوية اتخذت كذلك طابعاً سياسياً. فأصل الحركة مرتبط بالتعبئة التي حصلت في إيران من أجل حقوق المرأة، والتي بدأت في أكتوبر/تشرين الأول 2022. إذ اُستهل وسم #الهوية_اليمنية في بداية يناير/كانون الثاني 2023 كرد فعل على ما جرى تداوله حول مبادرة حوثية تهدف إلى فرض رقابة أكثر صرامة على لباس النساء في المناطق التي يحكمونها. حيث تحدّث البعض عن زيارات لمندوبين متدينين إلى محلات الخياطة في صنعاء لحثهم على عدم بيع العبايات النسائية الملونة والمُخصرة، وفقاً للموضة الدارجة، وطلبوا أن تكون هذه الملابس بالأحرى داكنة وفضفاضة.
بالتوازي، نفّذت سلطات صنعاء بانتظام حملات دعائية للدفاع عن الحجاب، وفرضت بشكل منهجي وجود محرم يرافق النساء في الأماكن العامة. وعلى سبيل المثال، هناك شعار كُتب في شوارع العاصمة صنعاء يقول: “امرأة بلا حجاب كمدينة بلا أسوار”.
وبالتالي، يجب أن يُفهم وسم #الهوية_اليمنية الذي رافق في البداية صور أزياء نسائية تقليدية ملوّنة، على أنه أوّلا رفض لمنظومة القيم الأخلاقية التي يسعى الحوثيون لفرضها، وربطها بممارسة أجنبية. إذن فالهدف، المدعوم في هذا السياق بالأدلة المصورة طبعاً، هو إظهار إلى أي مدى كانت الأزياء اليمنية التقليدية مفعمة بالألوان، بل وكانت أيضاً متنوعة وغنية بالنقوش، ولكنها اختفت اليوم إلى حد كبير بسبب النماذج الأجنبية المستوردة والمتنوعة1. وبالتالي فإن الاستناد إلى المرجعية اليمنية هو بمثابة تنديد ضمني بعلاقة الحوثيين مع إيران الماضية في القمع.
في الوقت ذاته، تسمح هذه الصور أيضاً بشكل غير مباشر بانتقاد تعميم الزي الأسود الموحد (“البالطو” أو “العباية”) الذي ساد على مدى ثلاثة عقود داخل المجتمع، والمعروف عنه أنه استيراد من المملكة العربية السعودية. على موقع “فيسبوك”، اعتبرت المثقفة والاكاديمية نادية الكوكباني هذه الحركة بمثابة صرخة حرية، وربطت نشر صورها بالرغبة في “أن أنتمي للوطن بالشكل الذي أريد، بأي لونٍ كان أو أياً ما أرتديه”.
عمليات الاستيلاء والتمييع والنقد
في هذا السياق، سرعان ما اتسعت الحركة على الشبكات الاجتماعية ولم تعد تقتصر على عرض الملابس النسائية فحسب. جون غانم يمني مقيم في إنكلترا، يشيد باعتناقه المسيحية لتسليط الضوء على التنوع الديني، بينما يروّج بنيامين أبو يحيى، وهو إسرائيلي من أصل يمني، من خلال الوسم، لموسيقى بلده الأصلي أو دور أسلافه في إنتاج النبيذ في اليمن من خلال نشر صور قديمة. وبحكم هذه الإحالات ذات النكهة الظريفة أو المرتبطة بالحنين إلى الماضي، بات الطابع الاعتراضي للوسم ثانويًّا نوعاً ما. وباستيلاء الذكور على الوسم من خلال نشر صورهم الشخصية، نزعوا جزئياً الطابع السياسي عن الحركة، بإفراغها من بُعدها النسوي.
إضفاء الطابع الشعبي على الوسم لم يمنع استمرار النقاش. بالنسبة للبعض، أصبحت هذه الحملة العفوية فرصة لتوجيه أصابع الاتهام نحو ما يرد من ازدراء للثقافة اليمنية، وهو ما يُعرَّف بمصطلح “الاستيلاء الثقافي” أو شكل من أشكال السرقة. وهو عندما يستولي أعضاء ثقافة مهيمنة على عناصر من ثقافة بلد آخر أقل حيلة. على سبيل المثال، تفاعلت إحدى اليمنيات تحت وسم #الهوية_اليمنية على الفيسبوك من خلال الإشارة إلى تصنيف اليونسكو في ديسمبر/كانون الأول 2022 للبن الخولاني باعتباره من التراث غير المادي للإنسانية وتسجيله باسم المملكة العربية السعودية وحدها. هذا على الرغم من أن الجزء الأكبر من منطقة زراعته تقع في الأراضي اليمنية حيث توجد أيضاً أصول البن.
وبنفس الطريقة، فإن تصنيف منظمة اليونسكو أيضاً للخنجر في قائمة التراث الثقافي غير المادي للإنسانية باسم سلطنة عمان يحجب تشابه التقاليد في الجانب اليمني، حيث تلعب الجنبية دوراً فاعلاً وتشكل رمزاً وطنياً مهماً.
من جهة أخرى، يشجب رجال الدين المحافظون هذه الحملة بشكل مباشر على الإنترنت. إذ يؤكد محمد الحزمي، وهو أحد الوجوه البارزة للإخوان المسلمين، أن “#الهوية_اليمنية ليست ثوباً يُلبس ولا رمزاً يُقدس، هي الهوية الايمانية وهي الشهامة والرجولة اليمنية”. أما الحوثيون، فقاموا بحملة تغيير مسار. حيث استبدلوا وسم #الهوية_اليمنية بـ #الهوية_ الايمانية، بعد أن لعبوا على تشابه الكلمتين واستلهموا وسمهم مباشرة من عنوان ملزمة “الهوية الإيمانية” التي كتبها حسين الحوثي، مؤسس الحركة، والذي قتله أفراد من الجيش اليمني في عام 2004. ومن خلال استحضار هذا المرجع الوطني والديني (المرتبط بحديث يؤكد أن “الإيمان يمان”)، يسعى الحوثيون لتمثيل الأمة والدفاع عنها أمام الأجنبي، سواء السعوديين أو الأمريكيين أو الصهاينة. وفي هذا الإطار، نظمت وزارة الشباب في صنعاء في 31 يناير/كانون الثاني 2023 فعالية احتفالية تحت شعار “تأصيل الهوية الإيمانية”، وربطتها بأسطورة اعتناق اليمنيين الإسلام في يوم واحد أثناء حياة الرسول. ففي سياق الصراع اليمني، يربط الحوثيون الحملة التي أطلقتها مجموعة من النساء المناهضات لهم بالسيطرة الغربية، وما يصفونه بالعدوان على الإسلام.
خطاب إلغاء الآخر
تندرج حركة هذا الوسم على الإنترنت في سياق من التشكيك العميق حول الهوية الوطنية. ولذا فإن بعض المثقفين، مثل الأكاديمي والروائي حبيب عبد الرب، يشيرون إلى البُعد السطحي لهذه الحملة العفوية، في وقت تعاني فيه أسس الأمة من الهشاشة. وينتهز الصحفي سامي الكاف الفرصة للانخراط في تفكير أوسع بشأن حدود الخطاب حول الهويات التي تلغي الآخر، حيث يحيلنا إلى كتاب “الهويات القاتلة” لأمين معلوف.
وما برح الجدل الذي أطلقه الوسم يكشف عن خطوط تصدّع جديدة أبرزتها حالة الحرب. فليس من قبيل المصادفة أن أنصار انفصال الجنوب لم يشاركوا إلا بشكل هامشي للغاية في هذه الحملة على الشبكات الاجتماعية. والسبب أنهم في الواقع يرون أن أصولهم ليست يمنية أساساً، ويتعمدون بالأحرى استخدام مرجعية الجنوب العربي. وقد مكّن - على المستوى المؤسساتي - استبدال الرئيس عبدربه منصور هادي في أبريل/نيسان 2022 بمجلس رئاسي مكوّن من ثمان شخصيات، من بينهم زعماء من الجنوب، تحت قيادة رشاد العليمي، بلم الشمل ولو مؤقتاً. لكن ثمة حقيقة لا يمكن لأي خطة سلام تجاهلها، وهي تطلُع جزء كبير من سكان الجنوب إلى شكل ملموس من الاستقلال (بدعم من الإمارات العربية المتحدة).
تجري حالياً إعادة تعريف فظة للهوية اليمنية. حيث تقوم حركة سياسية غير رسمية تُدعى “الأقيال” بترسيخ وتطوير منطق عرقي يقوم على المواجهة بين الأصالة القبلية وأقلية اجتماعية يُفترض أنها مستوردة، وهي الهاشميين، أي أحفاد النبي محمد الذين ينتسب إليهم قادة الحوثيين. وكرد فعل على سيطرة الحوثيين وعلى السياسة التي يتبعونها بشكل صريح في تعيين الهاشميين في المؤسسات المدنية والعسكرية التي يديرونها، يحاول الأقيال تقويض شرعيتهم الوطنية، سيما من خلال التركيز على علاقتهم بإيران.
إن بناء الأصالة على أساس أصل الأنساب يتعارض بشكل تام مع القيم الجمهورية العليا، ويحمل في طياته بذور العنف. صحيح أن الحركة حاضرة اليوم في المقام الأول على شبكات التواصل الاجتماعي وفي عدد من وسائل الإعلام والمنشورات، لكنها تجد صدى متزايداً داخل الدوائر المناهضة للحوثيين، رغم أنها لا تزال موضع خلاف، على سبيل المثال من قبل الأكاديمي أحمد الدغشي، القريب من الإخوان المسلمين. في 22 يناير/كانون الثاني، “يوم الوعل اليمني”، أُقيمت فعالية كبيرة في مأرب، المدينة المزدهرة، احتفلت بتاريخ اليمن قبل الهاشمي، والذي يُنظر إليه ضمنياً على أنه نقي. ما يعني أن اليمن لا يزال يشهد إعادة تكوين وإنتاج التحديات والرهانات المرتبطة بالهوية. وهذا إرث عميق لا يمكن إنكاره، نتاج حرب تعيشها البلاد منذ قرابة عقد من الزمان.
1[“نساء بالألوان”-https://carnegie-mec.org/diwan/88931<]، مركز كالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، 2 شباط/فبراير 2023.