تداعيات العمليات الأمنية والعسكرية على المدارس والعملية التعليمية في شمال سيناء هو موضوع دراسة ميدانية أعدّتها مؤسسة “سيناء لحقوق الإنسان” ستُنشر بداية هذا الصيف. ولقد تمكّنا من الاطلاع حصريًّا عن جزء من هذه الدراسة يغطّي الفترة ما بين 2013 و2017. وتهدف هذه الدراسة إلى تحسين فهم المعنيّين بحقوق الإنسان في سيناء، خصوصًا حقوق الأطفال والحق في التعليم وحقوق المعلمين، لأوضاع التعليم وحالة المدارس في سيناء الآن وفي المستقبل القريب. و“عبر عشرات المقابلات الميدانية التي أجراها فريق عمل المؤسسة في مناطق شمال سيناء، وفي المواقع التي نزح إليها المهجّرون من قراهم ومدنهم، اتضحت لنا صورة قاتمة لأحوال التعليم، وهي صورة مزعجة في الحاضر، ومقلقة جدًا على المستقبل”، هكذا صرّح أحمد سالم، المدير التنفيذي للمؤسسة في مقابلة حصرية مع “أوريان 21”. ويضيف:
نظرًا للصعوبات البالغة التي نواجهها في إجراء عملنا الميداني، فإننا لا يمكننا الزعم بأن ما حصرناه من انتهاكات لحقوق أطراف العملية التعليمية، من المعلمين والمعلمات والتلاميذ والطلاب والإداريين والإداريات، فضلًا عن العدوان على المدارس واستخدامها عسكريًا، يمكن أن يكون إحصاءً دقيقًا. فالكثافة السكانية المنخفضة في سيناء تعني أن سكانها، القليلين أصلًا، موزعون – خارج المدن والقرى – على بؤر وتجمعات كثيرة العدد في مساحات شاسعة، تعجز مواردنا المحدودة عن أن تغطي الوصول إليها جميعاً، خصوصًا في ظل الاشتباكات العسكرية التي كانت محتدمة بين القوات النظامية الممثلة للدولة (قوات الجيش والشرطة) ومجموعات تنظيم “ولاية سيناء”، الفرع المحلي لتنظيم “داعش” في مصر، ومن سواهم من الإرهابيين.
مدارس أم ثكنات؟
اندلعت العمليات العسكرية الموسعة في شمال سيناء في 7 من سبتمبر/أيلول 2013 بين القوات النظامية المصرية وبين الجماعات المسلحة، وعلى رأسها “أنصار بيت المقدس”، التي تحولت إلى “ولاية سيناء”. لا يتورع طرفا النزاع المسلح، المشتعل على نطاق واسع سابقًا، والمحدود حالياً، عن الانخراط في القتال بالأسلحة الثقيلة والذخائر الخطيرة حول المدارس وداخلها، كما لم يترددوا في احتلال المدارس واستخدامها كثكنات وارتكازات ومعسكرات، أو اعتبارها أهدافًا للقصف أو التفخيخ. وفي سياق ذلك، يتعرض أطراف العملية التعليمية من تلاميذ وطلاب، ومن معلمين ومعلمات وإداريين وإداريات، لكافة أنواع المخاطر والتهديدات، بل حتى الانتهاكات والاعتداءات التي تصل إلى القتل العمدي وغير العمدي.
على مدار السنوات العشر المنصرمة، فإن عشرات المدارس في مدن شمال سيناء وقراها وتجمعاتها البدوية قد قصفت جزئيًا، أو احتلت عسكريًا، أو هُدمت كليًا. كما توقفت الدراسة في عدد غير محصور بدقة من المدارس، لكنه يقدر بالعشرات، خصوصًا في القرى التي تم إخلاؤها من السكان، بشكل مخطط أو غير مخطط، في محيط مدينتي الشيخ زويد ورفح. وقد نتج عن هذه الأوضاع تسرب أعداد كبيرة من الأطفال من التعليم النظامي، وظهور مشكلات نفسية واجتماعية ناشئة عن ضعف اندماجهم في المدارس البديلة في المناطق التي نزحوا إليها، سواءً داخل سيناء أم خارجها، وممارسة أشكال متفاوتة من التمييز والتنمّر ضدهم.
حاليًا، تعكف وحدة البحوث في مؤسسة “سيناء لحقوق الإنسان”، ومقرها لندن، على تحليل محتوى المقابلات الميدانية التي أجريت خلال السنوات الثلاث الماضية مع معلمين ومعلمات وآباء وأمهات وشهود عيان، جنبًا إلى جنب مسح الرصد الإعلامي للأخبار والمواد المتعلقة بأحوال التعليم وأطراف العملية التعليمية في شمال سيناء منذ اندلاع العمليات العسكرية، مع الاستعانة ببعض الصور الملتقطة من الأقمار الصناعية في أزمنة مختلفة لمواقع بعض المدارس.
“لكننا أثناء إجرائنا لهذه الدراسة […]، لا يسعنا الصمت إزاء ما يجري في سيناء من انتهاكات صارخة لحقوق جيل كامل من الأطفال الذين لم يكونوا أبدًا طرفًا في إشعال الصراع أو تأجيجه، لكنهم كانوا – ولا يزالون – أضعف ضحاياه وأكثرهم فداحة في الخسائر، حاضرًا ومستقبلًا”، يقول الباحث الرئيسي في الدراسة، الذي رفض ذكر اسمه لأسباب أمنية.
دعاية السلطات المصرية
اعتمدت السطات المصرية على الوسائل التعبوية الدعائية في معالجة أزمة التعليم في سيناء، فسهّلت – نظرياً – إلحاق الأطفال بمدارس بديلة، وأعلنت تخفيف إجراءات عقد الاختبارات في أية مدرسة أخرى داخل شمال سيناء عوضًا عن المدارس التي تعطلت الدراسة فيها. ولإثبات نجاح هذه السياسة، كان الحرص الأكبر من قبل سلطات الدولة على إعلان أرقام توضح فاعلية هذه القرارات، كأعداد الطلاب الذين اجتازوا اختباراتهم في مدراس بديلة، وليس على تعويض الأطفال فعلياً عما فاتهم من دروس. فكانت النتيجة هو استمرار النجاح الشكلي الورقي لأعداد غير قليلة من التلاميذ، يقول عنهم آباؤهم ومعلموهم أنهم لا يجيدون القراءة ولا الكتابة، ورغم ذلك يستمرون في الصعود عبر الصفوف الدراسية. فإذا وضعنا في اعتبارنا، إلى جانب ذلك، زيادة التسرب والخروج النهائي من التعليم، خصوصًا بين الفتيات، علمنا كم هو منذر بالخطر مستقبل أطفال سيناء وشبابها، وكم هي مقلقة أحوال التعليم في المدى المنظور من مستقبل شمال سيناء.
في المقابل، وعقب هجوم مسلح في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 قتلت فيه جماعة “أنصار بيت المقدس” 28 جنديًا من قوات الجيش، سارعت القوات النظامية بعمليات الهدم التي بدأت في عام 2013. وعززت القيادة المصرية هذه الجهود من خلال إصدار قرار يقضي بإخلاء 79 كيلومترًا مربعًا على طول حدود رفح - غزة. وبين يوليو/تموز 2013 وأغسطس/آب 2015 فقط، تم تدمير 685 هكتارًا من الأراضي الزراعية الخضراء، مما أدى إلى تدمير مئات المنازل وعدد غير مسبوق من المدارس، معظمها كان مخصصًا للتعليم الابتدائي للبنين والبنات. تتابع “أوريان 21” عمل مؤسسة “سيناء لحقوق الإنسان” من أجل توثيق هدم المدارس والاعتداءات، واستخدام هذه المؤسسات التعليمية لأغراض الاستطلاع والأغراض العسكرية. وقد تحقق بحث المؤسسة الذي اطلع مراسل “أوريان 21” على مسوداته، من عشرات الحالات التي تعرضت فيها المدن الإدارية الخمس في شمال سيناء للقصف، واستُهدف قطاع التعليم فيها، مما أدى إلى تشريد مئات الآلاف، وتهديد ثقافة السكان الأصليين الممتدة عبر قرون مضت. وقد تم هدم بعض هذه المدارس، أو مهاجمتها، أو استخدامها كمرتكزات، على الرغم من كونها جغرافياً خارج محيط المناطق العازلة، التي تغيرت حدودها بمرور الوقت.
ساعدنا التحليل الدقيق للمحتوى المرئي المستخرج من مواد مؤسسة “سيناء لحقوق الإنسان”، إلى جانب صور الأقمار الصناعية المفتوحة المصدر (OSINT)، والعالية الدقة، في إنشاء مجموعة بيانات تحصر أغلب المدارس التي تم استهدافها بمختلف الأشكال. ويحدد هذا التحقيق الأضرار التي لحقت بالمدارس، تلك التي لا تزال تحتفظ بوضعها المدني بموجب القانون الدولي الإنساني، خاصة أنه لم يتم إعادة بناء الأغلبية الساحقة منها أو استبدال مدارس قريبة بها، إذ تكون أقرب المدارس العاملة على بعد ما بين 10 و35 كيلومترًا. وبشكل مبدئي، نعرض ثلاث حالات للمدارس التي تعرضت للهجوم أو الهدم أو التعطيل؛ واحدة من كل مدينة: رفح والشيخ زويد والعريش.
قريتان “مفخّختان”
في رفح، حصرت مؤسسة “سيناء لحقوق الإنسان” حتى الآن 42 مدرسة تم تعطيلها أو تدميرها أو اتخاذها كقاعدة قتالية منذ صدور مرسوم 2014، الذي فرض منطقة عازلة لم تأخذ في الاعتبار أن غالبية الأراضي كان يقطنها السكان المحليون من القبائل الأصيلة في هذه المنطقة، لم يتم فقط تهجيرهم، بل لم يحصلوا على تعويضات عادلة، لا ماليًا ولا من حيث المرافق والخدمات البديلة. فلم تعد هذه المدارس موجودة، أو لم تعد تعمل، ومن بينها مدرسة الحسينات الابتدائية المشتركة.
كانت مدرسة قرية الحسينات في البداية واقعة خارج المنطقة العازلة التي أعلن عنها عام 2014، وقد حصلت مؤسسة “سيناء لحقوق الإنسان” على لقطات حصرية للهجوم الأول الذي تعرضت له المدرسة في عام 2016، وسعينا إلى التحقق منها. من الفيديو، يمكننا مطابقة المحيط الخارجي للمدرسة بشجرتين مميزتين في الفناء الخلفي للمدرسة. وقد تعرضت الحسينات وقرية المطلة لهجمات طويلة على المنازل والمدارس الأخرى حيث حاربت قبائل سيناء ضد تنظيم “ولاية سيناء”.
ادعى “اتحاد قبائل سيناء”، الذي يقاتل المسلحين تحت قيادة القوات المسلحة المصرية، مرارًا وتكرارًا محاربة تنظيم الدولة الإسلامية عبر الحسينات والمطلة. ويزعم الاتحاد أن المسلحين قد فخخوا القريتين. وفي أغسطس/آب 2022، نشروا مقطع فيديو يقدم ادعاءات مماثلة من مدرسة الحسينات المدمرة جزئيًا.
يُظهر الفيديو أيضًا أدخنة تتصاعد حول المدرسة في أعقاب القتال. ويمكن رؤية ذخائر غير منفجرة، التي يُحتمل أن تكون قد أسقطت من الجو، كما يرجح ذلك فجوات في السقف. وبين الأنقاض، شوهدت علامات أخرى للقتال في الفيديو على شكل ثقوب أحدثتها طلقات من الذخيرة الحية، من المحتمل أن تكون حديثة، وقد تم رصدها والتحقق منها بواسطة مؤسسة “سيناء لحقوق الإنسان”.
تمكنت المؤسسة من تحديد الموقع الجغرافي للقطات من محيطها، بما في ذلك نفس الأشجار التي ظهرت في الفيديو الأول، إلى جانب منزل نصف مبني، من المرجح أن يكون سكانه قد هجروه مع موجة النزوح من رفح بسبب القتال العنيف.
وكما سبقت الإشارة، فإن المدرسة تستمر في الاحتفاظ بوضعها المدني بغض النظر عن الوضع الأمني، وذلك بموجب القوانين الإنسانية. بالإضافة إلى ذلك، فإنه بموجب القوانين ذاتها وبحكم الدستور المصري، فالتعليم الأساسي إلزامي بين عمر 6-15 سنة. ولم تُمنح أي من المدارس التي حققت فيها مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان بدائل، ولا قُدّمت حلول لمواءمة فرص هذه المجتمعات المحلية في التعليم حال عودتهم إلى منازلهم المتضررة، وربما المدمرة، بسبب الأعمال القتالية.
“الجيش يتصرّف كما لو أننا لسنا هنا”
أما مدينة الشيخ زويد، فقد تعرضت مدارسها ومبانيها السكنية للعنف وعمليات الهدم في أجزاء كبيرة من المدينة. ومن هذه المدارس مدرسة أحمد أبو سلمي المشتركة للتعليم الأساسي. وقد أظهر أحد مقاطع الفيديو المنشورة من قبل تنظيم “ولاية سيناء” أن المدرسة قد تحولت إلى قاعدة عسكرية منذ 2016-2017.
ومن خلال مصدر سري، تمكنا من الحصول على صورة حصرية للمدرسة، تم التقاطها في يناير/كانون الثاني 2023، وتُظهر الصورة بوضوح هياكل عسكرية على سطح المدرسة.
من خلال فحص صور الأقمار الصناعية المفتوحة المصدر، وجدنا أنه بين أواخر عام 2016 ومايو/أيار 2017، قد تم إجراء الكثير من التعديلات لتحويل المدرسة إلى معسكر/قاعدة عسكرية من نوع ما. وعبر اللقطات المصورة، وجدنا المزيد من الأدلة على أن المدرسة قد أخرجت من الخدمة لتحويلها إلى قاعدة تكميلية لدعم معسكر الزهور في الشيخ زويد في وقت مبكر يعود إلى عام 2014، وفقًا للفيديو.
في مقابلة مع أحد أهالي الشيخ زويد، يقول:
إن الجيش قد أغلق المدرسة في عام 2015، وحوّلها إلى نُزُل يستضيف عددًا كبيرًا من الجنود. لا أستطيع أن أتخيل أن هذا هو الحل الوحيد أو أنهم يعتبروننا وكأننا لا شيء، فهم يتصرفون كما لو أننا لسنا هنا، فهم لم يرونا. لقد أغلقوا معظم مدارس مدينتنا أو استخدموها كموقع لقناصتهم. ونحن محظوظون إذا قارنتنا بسكان القرى، فقد دمرت معظم مدارسهم تمامًا ولا يوجد مكان ليتعلم فيه الأطفال. لقد عانينا من جحيم الحرب التي قرأنا عنه في الكتب، وليس من رأى كمن سمع.
وأخيرًا في العريش، نكتفي بعرض ما تظهره صور الأقمار الصناعية من تدمير مدرسة الشُريْفات الابتدائية في الفترة بين فبراير/شباط وأغسطس/آب 2018، والذي تزامن مع نزوح جانب من سكان العريش في العام نفسه.