سألت السفيرة الفرنسية اللبنانيين خلال احتفال العيد الوطني الفرنسي (14 يوليو/تموز) سلسلة من الأسئلة الفوقية1 عن أين كان ليكون لبنان لولا تحمّل فرنسا لمسؤولية أمنه، ولولا تدخّل فرنسا لحشد ما سمّته المجتمع الدولي لدعم لبنان مادّيا، ولولا دعم فرنسا لبعض المدارس والمستشفيات، ولولا مساهمة فرنسا بالإبقاء على المساحة الثقافية في البلاد، ولولا الإبقاء على بعض الشركات العالمية رغم الصعوبات المالية. الإجابة واضحة، ومن دون العودة الآن لتاريخ فرنسا في المنطقة، في كل مفصل أساسي كان التدخّل الفرنسي في لبنان على نقيض مصالح المجتمع، ولكلّ من العناوين التي ذكرتها السفيرة صلة بواقعنا المأزوم اليوم ، ولنا في ذلك بعض الأسئلة لها ولإدارتها.
سلطة مدعومة من قبل باريس
أين كان ليكون لبنان لولا تدخّل فرنسا لإنقاذ نظام هدنة الحرب في بداية الألفية بعد انكشاف عجزه؟ في حينها، وبعد اتضاح عجز نظام الهدنة عن استقطاب المداخيل الكافية لتأمين استمراريته، رتّبت فرنسا مؤتمري باريس 1 و2 لتأمين استمرارية النظام اللبناني، حفاظا على موطئ قدم مقابل الهجمة الأميركية في المنطقة. قُدّمت قروض بقيمة 4.5 مليار دولار تقريبا للبنان المديون بـ29 مليار دولار في حينها، وتم ابتداع الدولار اللبناني، وبذلك تم تنظيم دخول النظام المالي منحدرًا تاريخيا. لم يأتِ حشد “المجتمع الدولي” ذاك إلا بالضرر على المجتمع اللبناني. وخرجت بنتيجة ذلك البنوك الأجنبية وأهمها الفرنسية بعد أكثر من 150 سنة من العمل في لبنان لعلمها المسبق بالنتيجة الكارثية لتلك الخيارات. خرجت إذًا الشركات الفرنسية عندما شعرت بالمخاطر المالية، ودفاعًا عن مصالحها، واليوم لا تعمل TOTAL وCMA CGM وغيرها في لبنان إلا لمصالحها. لكن المجتمع دفع الثمن الغالي نتيجة إطالة حكم نظام الهدنة عشرين سنة.
أين كان ليكون لبنان لولا دعم فرنسا المباشر للسلطة الحالية في مفصل الانتخابات النيابية لسنة 2018؟ في حينها، تزامنت الانتخابات النيابية مع إحدى أبرز لحظات انعدام الثقة بالنظام، فسارعت فرنسا وابتدعت مؤتمر “سيدر”. دُعيت الحكومة اللبنانية قبل أسبوعين من انتهاء ولايتها ومن إجراء الانتخابات إلى ما سُمّي “مؤتمر سيدر الدولي لدعم الاقتصاد اللبناني”، لتتلقى وعودًا لم تتحقق بـ11 مليار دولار. فكانت تلك الكذبة اللازمة لإيهام اللبنانيين بقرب تحسّن أحوالهم وضرورة الرهان على أطراف الحكومة تلك، فساعدت السلطة على تحقيق انتصار واضح في الانتخابات وشكّل أطرافها حكومة “استعادة الثقة”، ونظمت الهندسات المالية التي ندفع ثمنها الآن ولسنين لا بل لعقود.
زيارة الرئيس ماكرون تخدير للبنانيين
أين كان ليكون لبنان لولا تخدير اللبنانيين ببدعة “حكومة المهمة”؟ بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020، تم استباق أي رد فعل شعبي عبر تنظيم زيارة للرئيس الفرنسي في 6 أغسطس/آب، ما ساهم في تثبيت جديد لشرعية أركان النظام من خلال مطالبتهم بتشكيل “حكومة مهمة” تتولى تطبيق إصلاحات مبهمة لفتح الباب أمام مساعدات اقتصادية ستنهض بالبلاد. فتم امتصاص الغضب الشعبي بالوعود الزهرية كما بالمال الموزّع مباشرة على الجمعيات غير الحكومية، لتقوم بدورها بتوزيع المال على بعض المتضررين. واليوم، فجأة، تم اكتشاف عجز نظام هؤلاء عن بناء دولة، وأصبح المطالبون بتحقيق الإصلاحات يُسمّون بالفاسدين.
أين كان ليكون لبنان لولا التواطؤ الفرنسي بالتفريط المتعمّد بالمعارضة الجدية للنظام؟ في مايو/أيار 2021، دعت السفارة الفرنسية من سمّتهم أحزاب ومجموعات المعارضة إلى لقاء مع لودريان، وزير الخارجية في حينها. هذه الدعوة التي ضمّت أطرافًا يحملون شعارات مبعثرة أو طموحات متنافرة، كانت ساحة إضافية لإظهار حالة التشتت بين تلك الأطراف، ولطمس الطرح المعارض الجدي الوحيد الذي قدمناه من خلال حركة “مواطنون ومواطنات في دولة”، مقابل تعاونية زعماء الطوائف. يتم تنظيم الدعوات للاهثين خلف دور في المسرحية المدمّرة، في حين يتم غض النظر عن المشروع الوحيد لبناء دولة، ليعود الحديث بعد ذلك إلى الحاجة لدولة ومؤسسات!
واليوم، أين السفارة الفرنسية في لبنان من تقرير ديوان المحاسبة الفرنسي؟ أصدر ديوان المحاسبة الفرنسي تقريرا في يونيو/حزيران 2023 للتدقيق بالمبالغ التي تم صرفها كمساعدات لقطاعات مختلفة في لبنان، وقد قدّر المبلغ بـ214 مليون يورو خلال السنوات الثلاثة الأخيرة. أوضح التقرير أن الإدارة السياسية، أي السفيرة، هي المقرر الأساسي بما يتعلّق بصرف تلك الأموال، ووضع توصية وحيدة، هي التعامل مع الدولة اللبنانية كطرف مركزي لضمان الاستخدام الفعال لتلك الأموال. تلك التوصية تتناقض مع الإدارة الحالية التي وزّعت أكثر من نصف ذلك المبلغ عبر المنظمات غير الحكومية، كما تتعارض بحدّة مع التجاهل المتعمّد لاضمحلال مؤسسات الدولة اللبنانية ودور النظام السياسي الحالي في ذلك.
وأخيرا نسأل، أين ستكون فرنسا إذا ما استمرت سياسة الأمولة والسعي خلف صفقات السلاح والنفط؟ ما هو مستقبل شرعية نظامها بعدما بات إشعاعها يتراجع يوما بعد يوم؟ لم تتوانَ فرنسا يوما عن تقديم مصالحها على مصالح لبنان، وهذا أمر طبيعي وفق منطق الدول، ومن الغريب ادعاء العكس. إنشاء متحف اللوفر في أبو ظبي عوضًا عن بيروت الفرنكوفونية، على عكس ادّعاء فرنسا عزمها على الحفاظ على المساحة الثقافية، هو خير دليل على ذلك. ومن باب المصالح، نرى أن لبنان هو المثال الأقصى لمآل توجّهات تصيب المجتمع الفرنسي نفسه، بحكم تعاظم ظاهرتي الأمولة والتطييف. وعليه فإن تلاقي المصالح يكون باعتبار أن إرساء شرعية مدنية واثقة في منطقتنا هو الأولى، في مقابل المد العنصري والأصولي الذي مزّقها. اختبر الجهاز الفرنسي العامل في لبنان مباشرة الأثر المدمّر لاضمحلال مؤسسات الدولة، وقد يكون الأقدر على إدراك أولوية المصلحة المشتركة بين الدولة الفرنسية ومشروع بناء دولة في المنطقة، لحماية مجتمعاتها، وحماية شرعية الدولة الفرنسية من شروخ ستطالها من قلب مجتمعها.
1هنا رابط فيديو خطاب السفيرة على الصفحة الرسمية للسفارة الفرنسية في لبنان، مع الترجمة العربية.