إن اغتيال القيادي العسكري الرفيع في “حزب الله” فؤاد شكر في مكان شديد الاكتظاظ بالسكان من حارة حريك، بالضاحية الجنوبية لبيروت، معقل الحزب الرئيسي في العاصمة اللبنانية، وكذلك اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” في قلب العاصمة الإيرانية طهران، حيث انتقل لحضور مراسم تنصيب الرئيس الجديد، ليستا عمليتين من النوع الذي يمكن القيام بهما من دون حسابات وتقديرات دقيقة، في إطار ما اصطلح على تسميته إسرائيليا منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، “حسابات الكلفة والجدوى”.
هذا مع العلم أن هاتين العمليتين الإسرائيليتين تؤشران بوضوح إلى دخول الصراع الدائر منذ 7 اكتوبر، وتحديدا الصراع بين “حزب الله” وإسرائيل مرحلة جديدة، كان قد ألمح إليها رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هليفي يوم الأحد 29 يوليو/تموز بعد “حادثة” مجدل شمس في الجولان السوري المحتل. حيث أدى سقوط صاروخ قالت إسرائيل أنه إيراني الصنع بينما نفى حزب الله المسؤولية عنه، إلى مقتل 12 طفلاً. وقال هاليفي حينها إن الجيش يسرع استعداداته لـ“المرحلة التالية من القتال في الشمال”، فيما أعلن الأمين العام لـ“حزب الله” حسن نصرالله الخميس أنّ الحرب دخلت مرحلة جديدة.
توقيت مناسب
في الواقع إنّ “حادثة” مجدل شمس، بغض النظر عن ملابساتها، ما كانت لتستدعي كل هذا الاستنفار الإسرائيلي لو حصلت في توقيت مختلف. هذا لا يوجب بالضرورة تبني رواية افتعال إسرائيل للحادثة للتذرع بها والتصعيد ضدّ “حزب الله”. لكن عمليا، فإن الحادثة أتت في توقيتها مناسبة لإسرائيل، التي قرّرت التصعيد ضدّ “حزب الله”، في سياق مواجهاتها المفتوحة معه منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وإن كانت هذه المواجهات بقيت مسقوفة وبقواعد اشتباك متحركة، دون عتبة الحرب الشاملة.
وقد عاد نتنياهو من زيارته الناجحة بالنسبة إليه إلى واشنطن محفزا أكثر للتصعيد ورفع وتيرة الهجمات الإسرائيلية سواء في غزة أو على الحدود اللبنانية الإسرائيلية أو حتى في اليمن. وتبين بعد اغتيال هنية في طهران فجر الأربعاء 31 يوليو/تموز أن “اليد الطويلة” الإسرائيلية مستعدة أيضا للوصول إلى العاصمة الإيرانية طهران التي تتهمها إسرائيل بإدارة “محور المقاومة” من الخلف، وبأنها “رأس الأخطبوط”.
فعلى الرغم من تشديد إدارة الرئيس جو بايدن على ضرورة التوصل إلى صفقة بين إسرائيل وحماس، وفق ما بات يُعرف بـ“مقترح بايدن”، وعلى الرغم من أن كلا المرشحين الأميركيين للانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل تحدثا عن ضرورة إنهاء الحرب، لم تُرفع في وجه نتنياهو في واشنطن أي خطوط حمراء، بل على العكس تماماً. فقد صوّر الأخير حربه في غزة والمنطقة على أنّها دفاع عن مصالح الولايات المتحدة وقيمها في وجه “محور إيران”، وهو كلام لم يعارضه أي مسؤول أميركي، بل لاقى ترحيبا واسعاً في الكونغرس الأميركي، رغم تغيّب قرابة مائة نائب ديمقراطي من الكونغرس عن الجلسة. وقد خلق هذا المناخ انطباعاً أقرب إلى اليقين بأنّ إسرائيل تمتلك الضوء الأخضر لمواصلة الحرب، وليس عليها سوى تبرير هجماتها بأنها ضرورة أمنية إسرائيلية للــ“دفاع عن نفسها”. وهذا كله أوجد احتمالات أكبر لتوقع التصعيد في المنطقة والاعتقاد بأن إسرائيل ليست مردوعة تماماً. وهذا ما حصل فعلا، بعد عمليتي إسرائيل في بيروت وطهران.
حرب استنزاف
إذاً نحن أمام تصعيد إسرائيلي ممنهج لا تنقصه الذرائع. لكنّ توفرها سبب إضافي لتبرير التصعيد وتحفيزه. فقرار التصعيد ضد “حزب الله” في موازاة خفض التصعيد ضد “حماس” في غزة متخذ في الأصل، ومرده إلى أنّ إسرائيل تشعر أنها تدخل بعد نحو عشرة أشهر من الحرب على قطاع غزة في حرب استنزاف، تريد إيران جرها إليها عبر حلفائها وعلى رأسهم “حزب الله”. وعمليا، فإن حرب الاستنزاف هذه هي جزء من استراتيجية “الصبر الاستراتيجي” التي حافظت طهران عليها خلال الحرب، وإن كانت قد خرقتها نسبيًّا في الرد على قصف قنصليتها في دمشق، من خلال قصف إسرائيل مباشرة بالصواريخ والطائرات المسيّرة خلال ليلة 13 إلى 14 أبريل/نيسان الماضي، والذي ردت عليه إسرائيل بعد أيام قليلة بقصف لم تُعرف ملابساته في أصفهان. وقد تم احتواء هذه الجولة من القصف المتبادل بين إسرائيل وإيران بجهود أميركية، والتي هي جزء من الوساطات والاتصالات الأميركية المستمرة مع طهران لمنع توسع الصراع في المنطقة إلى حرب إقليمية.
غالب الظن أن تل أبيب تبني تقديراتها وحساباتها على قاعدة أن إيران وحزب الله لا يريدان الانخراط في حرب شاملة معها. وهذا يعني أن ردودهما على أي ضربة توجهها إسرائيل لهما ستبقى محكومة بمعادلات الردع المتبادل، تحت عتبة الانجرار إلى الحرب الواسعة، مع أن الحرب تتسع تدريجيًّا، وقد يكون توسعها الشامل أمرا حتميًّا نتيجة “خطأ” يرتكبه أحد طرفيها، أي حزب الله أو إسرائيل. وفي شرح أوفى للحسابات الإسرائيلية، يمكن القول إن “جرأة” إسرائيل المستجدة متأتية من تقدير ذاتي أو من تطمينات أميركية بأنّ مغريات واشنطن لطهران فيما يخص مستقبل العلاقة معها، وتحديداً بالنسبة لإحياء الاتفاق حول برنامج إيران النووي، وتاليا رفع العقوبات الاقتصادية عن طهران، والاعتراف بالنفوذ الإقليمي لإيران، كفيلة بدفع طهران إلى الالتزام بقواعد اللعبة المعمول بها حتى الآن، أي عدم توسيع الصراع إلى حرب إقليمية شاملة. مع الأخذ في الاعتبار أنّ التصعيد الإسرائيلي الأخير ينطوي على مخاطرة قد لا تكون محسوبة، بالنظر إلى أنّ إيران وبدرجة أكبر حزب الله محكومان برد متناسب، إن لم يكن برد أعلى، على ضربات إسرائيل وهو ما أكده خطاب نصر الله الخميس. وهذا قد يؤدي إلى مسار تصاعدي للصراع لا تتحكم إسرائيل لوحدها في قواعده، وقد يُسفر عن عدم قدرتها على الخروج من دائرة النار لفترة طويلة.
فرض الأمر الواقع على الأمريكيين
مع ذلك، لا يمكن استبعاد أن بنيامين نتنياهو، الذي تحركّه حسابات سياسية وشخصية متصلة برغبته في الحفاظ على ائتلاف حكومته والبقاء في الحكم من خلال تلبية شروط اليمين المتطرف الإسرائيلي الرافض لأي تسوية للصراع، والمصر على استمرار القتال حتى “النصر المطلق”، يريد أن يفرض على الأميركيين أمراً واقعاً لا يمكنهم تجاهله والفكاك منه، وبالتحديد لجهة أي تصعيد في المواجهة مع حزب الله واضطرار واشنطن تاليا لدعم تل أبيب سياسيا ومدها بالأسلحة والذخائر. وهو ما ظهرت مؤشراته بعد عملية الضاحية مساء الثلاثاء، إذ سارع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن للقول إن بلاده ستساعد إسرائيل في الدفاع عن نفسها في حال حرب مع حزب الله، وهي أقوى رسالة ردع أميركية ضد حزب الله وإيران منذ إرسال أميركا حاملة طائراتها “آيزنهاور” إلى المنطقة موفى أكتوبر/تشرين الأول، ثم سحبها لاحقاً مطلع العام الجاري.
كما كان لافتا في هذا السياق عينه تأكيد الرئيس الأميركي جو بايدن لنتنياهو، خلال مكالمة هاتفية الخميس الأول من أغسطس/آب “التزام الولايات المتّحدة بأمن إسرائيل في مواجهة أيّ تهديدات من إيران”، وذلك بحسب بيان صادر عن البيت الأبيض. كما أشار البيان إلى أنّ “دعم الجهود (الرامية لدعم الدفاع عن إسرائيل) يمكن أن ينطوي على عمليات نشر جديدة لأسلحة دفاعية أميركية”، في المنطقة.
إذا فإن مجرى التصعيد الإسرائيلي وتوقيته يؤكدان أن الحكومة الإسرائيلية مصممة على الخروج على القواعد المعمول بها حتى الآن في المواجهة مع حزب الله، أي أن تل أبيب تريد كسر المعادلات القتالية القائمة وجعل قدرتها على رسم قواعد اشتباك جديدة مع حزب الله أقوى، والخروج من دائرة حرب الاستنزاف على وقع استمرار الحرب في غزة تسعة أشهر ونيّف من دون ان تستطيع إسرائيل حتى الآن إعلان انتصارها فيها على الرغم من الأضرار الكبيرة التي أصابت البنية العسكرية لحماس.
هنا يمكن الإشارة إلى أنّ اغتيال إسماعيل هنية في طهران هو “صورة نصر” ناقصة لإسرائيل، بديلة عن “صورة النصر” الحقيقية، أي اغتيال رئيس “حماس” في غزة يحيى السنوار. وبالتالي، فإن اغتيال هنية هو هدف ضد النظام الإيراني أكثر منه ضد “حماس”. وهذا أمر حاسم في تأكيد حتمية الرد الإيراني على إسرائيل وطبيعته وحجمه. وغالب الظن تبعاً للتجربة السابقة لمنتصف أبريل 2024 أن يكون الرد الإيراني على اغتيال هنية في طهران قابلاً للاحتواء تماما كما قدّرت إسرائيل قبل تنفيذ العملية التي تُعدّ تحديا مباشرا لإيران، واختباراً لحدود استعدادها لاستخدام القوة ضد إسرائيل، والدخول في مواجهة مباشرة معها. بيد أن خطاب نصر الله أوحى بأن رد إيران هذه المرة سيكون أقوى.
لذلك فإن المواجهة الرئيسية الآن هي بين حزب الله وإسرائيل أكثر منها بين الأخيرة وإيران، وأكثر منها حتى بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة. وبعبارات أخرى، فإن المشهد الرئيسي في الصراع يتحول من غزة إلى لبنان، إذ لا يمكن لحزب الله ألا يردّ برد متناسب أو ربما بسقف أعلى على إسرائيل، بعد استهداف معقله في بيروت واغتيال القيادي العسكري الأرفع فيه، وإلا يكون الحزب قد تراجع خطورة إلى الوراء في القدرة على رسم قواعد الاشتباك مع إسرائيل، وهذا يفتح على “جرأة” إسرائيلية أكبر ضدّ حزب الله في المستقبل. وهو ما أشار إليه نصر الله في كلامه أثناء موكب دفن فؤاد شكر، إذ أكّد أن “الرد محسوم” وأنه سيكون “مدروسا جدا” تاركا توقيته مفتوحا، في تكتيك يُفهم منه أنه رد على ما يتهم الحزب به واشنطن، أي القيام بعميلة تضليل سبقت استهداف بيروت، حيث وصلت على ما يبدو تطمينات أميركية لمسؤولين في بيروت أن إسرائيل ستبقي بيروت خارج دائرة استهدافاتها. غير أن اللافت في كلام نصر الله كان إشارته إلى أن الرد سيكون جماعيا من قبل فصائل “محور المقاومة” في المنطقة، مبقيا على احتمال ان يكون هذا الرد الجماعي متزامنا أو متفرقا.
وفي الواقع فإن الرد الأكثر تناسباً بالنسبة للحزب هو قصف تل أبيب، وهي المهمة التي أوكلت خلال الأسبوع الماضي إلى جماعة أنصار الله في اليمن، ما استدعى قصفا إسرائيليا لميناء الحديدة، من دون أن يُعرف حقا ما إذا كانت المسيّرة التي استهدفت مبنى في العاصمة الإسرائيلية وأودت بحياة شخص قد أُطلقت من اليمن أو من مكان آخر.
حزب الله مضطر هذه المرة لأن يرد بقوة وبنفسه، وهذا سيستدعي حتما ردًّا إسرائيليا على الرد، خصوصا أن إسرائيل أعطت إشارة في استهدافها الضاحية أنها مستعدة جدا للتصعيد وأنها لا تخشى رد فعل حزب الله، أو أنها تقدّر من ضمن حسابات “الكلفة والجدوى”، أن جدوى الضربة في توقيتها ونوعيتها هي أعلى من كلفتها. لكن في مطلق الأحوال، فإن المواجهة بين الجانبين تواجه أخطر سيناريو تصعيدي منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهو سيناريو لا يُتسبعد أن يؤدي في نهاية المطاف إلى حرب شاملة بين الطرفين، خصوصاً أن معضلة إسرائيل الاستراتيجية المتمثلة في إخلاء مستوطنات الشمال الإسرائيلي المستمرة منذ تسعة أشهر لم تُحل بعد، ولا يبدو أن الحل الديبلوماسي لها والذي يتولاه الأميركيون عبر المبعوث الرئاسي آموس هوكشتاين مكتمل الشروط بعد. ولذلك فإن إسرائيل التي يكرر عدد من مسؤوليها بمن فيهم نتنياهو بأنهم يفضّلون الحل الديبلوماسي، تحاول الضغط على “حزب الله” للتنازل. فالحرب التي تخوضها تل أبيب هذه المرة مختلفة عن سابقتها، ولا تحتمل نصف انتصار أو نصف هزيمة.