كانت زيارة ياسر عرفات إلى طهران في 17 شباط/فبراير 1979، بعد أيام قليلة من سقوط نظام الشاه، صادمة بالنسبة إلى إسرائيل. كانت إيران، حليفة الولايات المتحدة، جزءًا رئيسيًا من “الدائرة الثانية” للدول غير العربية (إلى جانب إثيوبيا وتركيا)، بعيدًا عن الجيران المعادين، وكانت تزود إسرائيل بالنفط، بينما كان الموساد يتعاون بشكل فعال مع السافاك، الشرطة السياسية للشاه محمد رضا بهلوي.
شكّل استيلاء تحالف من الليبراليين والماركسيين، وقبل كل شيء الإسلاميين المقربين من الفلسطينيين، على السلطة في طهران هزة للنظام الإقليمي القديم في جميع المجالات. أصبحت السفارة الإسرائيلية سفارة فتح وفلسطين، رمزاً وأداة، بل وجواز سفر، لإيران الشيعية في مشاريعها لتصدير الثورة إلى الشرق الأوسط ذي الأغلبية العربية والسنية. ومع ذلك، وضع آية الله روح الله الخميني، الذي كان عداؤه لإسرائيل ثابتًا، النقاط على الحروف عندما أوضح لأتباعه في المخيمات الفلسطينية في لبنان وسوريا أنه “لا توجد قضية فلسطينية، بل قضية إسلامية”. بعدها، هيمنت الرهانات القومية والأيديولوجية للحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) على جميع الصراعات الأخرى، بما في ذلك الصراع، ذي الطابع المحلي المفرط، في فلسطين.
“الطريق إلى القدس يمر عبر كربلاء”
في الواقع، وبغض النظر عن الخطابات النارية، ظلت الجمهورية الإسلامية حذرة تجاه الحركات الفلسطينية القومية وغير الدينية مثل فتح. فعندما احتلت إسرائيل لبنان عام 1982 وأجبرت ياسر عرفات على اللجوء إلى تونس، منع آية الله الخميني خروج المسلحين الذين أرادوا “تحرير القدس” بقوله إن “الطريق إلى القدس يمر عبر كربلاء”. وكانت الأولوية للدفاع عن التراب الوطني الإيراني الذي تعرض لهجوم من عراق صدام حسين.
منذ ذلك الحين، عملت إيران بنشاط على دعم إنشاء حزب الله، تلك الحركة الشيعية واللبنانية التي يمكنها محاربة إسرائيل وحلفائها الغربيين والتعاون في نفس الوقت مع سوريا، الحليف العربي الوحيد لإيران. كما قادت الواقعية السياسة إسرائيل إلى تزويد إيران بالأسلحة1 والتعاون في تدمير مفاعل تموز النووي العراقي. وقد كان العراق آنذاك العدو الحقيقي الوحيد لإسرائيل وإيران.
في وقت لاحق، لم تبخل طهران بدعمها لحركة الجهاد الإسلامي وحركة المقاومة الإسلامية حماس، التي افتتحت مكتباً لها في طهران عام 1988. لكن الجمهورية الإسلامية لم تكن فاعلا رئيسيا في الانتفاضتين (1987-1993؛ 2000-2005)، على الرغم من وجود مستشارين عسكريين من الحرس الثوري في سوريا ولبنان. وقد عملت بصفة أولوية على تقوية حزب الله، الذي سيلعب دورًا مركزيًا في سياستها الإقليمية، لمعارضة إسرائيل، ولكن بالخصوص لمعارضة الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وكذلك الدول العربية السنية.
شكّل انتخاب الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي (1997-2005)، العليم بالشأن اللبناني والمؤيد للقضية الفلسطينية، نوعاً من التحول. فهو لم يكن يعارض حلول التسوية مع إسرائيل. وبعد اتفاقات أوسلو (1993)، عبّر عن عدم نيّته بأن يكون “فلسطينياً أكثر من الفلسطينيين”. لكن هذا الموقف التصالحي والداعم لقيام دولة فلسطينية اصطدم بمعارضة المرشد علي خامنئي والفصائل المحافظة، وانهار مع بروز “الخطر النووي الإيراني” ابتداء من 2002.
الفزاعة النووية
في 2002، أثار اكتشاف البرنامج النووي الإيراني، الذي كان سريا حتى ذلك الحين، مناقشات وجدلاً وندوات ومؤتمرات ومنشورات وأفلام وخطب على أعلى مستوى من الدول وبين السكان المعنيين. وأصبحت جميع قضايا الشرق الأوسط الأخرى ثانوية. تم تصنيف الجمهورية الإسلامية على أنها التهديد الرئيسي لأوروبا الغربية وكذلك لإسرائيل، وحلّت إيران محل الاتحاد السوفيتي المندثر منذ وقت قريب في السياسة العالمية. وهي مكانة ربما مبالغ فيها جداً بالنسبة لدولة لم يكن لديها في ذلك الوقت سوى بضعة غرامات من اليورانيوم المخصب مقارنةً بـ 300 رأس نووي إسرائيلي وترسانة القوى النووية الخمس الكبرى.
في حين اعتادت إسرائيل الالتزام بعقيدة السرية المطلقة بخصوص شؤون الدفاع، فوجئنا بأن “التهديد النووي الإيراني” كان موضوعاً لمعلومات ومناقشات ساخنة في الصحافة ووسائل الإعلام الإسرائيلية. وتم تقديمه على أنه تهديد وجودي بالنسبة لإسرائيل. وفي هذا السياق أصبحت الجملة التي قالها الرئيس محمود أحمدي نجاد بتاريخ 26 أكتوبر/تشرين الأول 2005 “يجب محو إسرائيل من الخريطة”، دليلاً على ضرورة أن تقوم إسرائيل باستئصال هذا التهديد بصفة أولوية. ولم تعد فلسطين المحبوسة خلف جدار عازل مشكلة كبيرة. وبينما كان بنيامين نتنياهو، بدعمٍ غربي، يتهم طهران في الأمم المتحدة، واصلت إسرائيل احتلال الضفة الغربية دون عقاب أو ردع.
عرضت خطة العمل الشاملة المشتركة التي وُقّعت في فيينا في 14 يوليو/تموز 2015، اتفاقاً إطاريًّا لمراقبة الاستخدام المدني للنووي الإيراني، مقابل رفع تدريجي للعقوبات. وقد أقرتها دول مجموعة 5+1 (الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإضافة إلى ألمانيا)، فضلاً عن الاتحاد الأوروبي. لكن في عام 2018، قرر الرئيس دونالد ترامب الانسحاب منها تحت ضغط إسرائيلي. ومع أن المعسكر الإسرائيلي قد اعترف بأن هذه التسوية تمثل تقدمًا حقيقيًا على المستوى الأمني، كان الخطر الحقيقي بالنسبة لحكومة نتنياهو يتمثل في رفع العقوبات، وبالتالي في “تطبيع” صورة إيران. وكان الخوف غير المعلن هو أن تصبح إيران، بتعداد سكانها الكبير والمتعلمين تعليماً عالياً، على الأمدين القصير والمتوسط قوة إقليمية قوية ومستقرة، قادرة على تحدي طموحات إسرائيل الإقليمية لإعادة تشكيل المنطقة بأسرها على هواها.
كان هذا العداء يتعلق أيضًا بـ“طموحات الهيمنة الإيرانية”، بعد أن دعمت طهران العديد من القوى غير الحكومية في نزاعاتها مع إسرائيل، وكذلك مع المملكة العربية السعودية، ثم في حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، ودعمها للنظام السوري. وهي القضايا التي كانت تحظى بإجماع بين الدول الغربية وإسرائيل، ووضعت فلسطين الصغيرة خارج الأولويات الدولية.
وفي أفق حصول مواجهة لاستئصال “التهديد الإيراني”، اتخذت حكومة دونالد ترامب خطوة حاسمة في عام 2020 بتوقيع اتفاقيات أبراهام. وقد أعطى اعتراف العديد من الدول العربية - ومنها الإمارات العربية المتحدة - بإسرائيل، تجسيدا للرغبة الإسرائيلية الأمريكية في تطويق الجمهورية الإسلامية. وكان احتمال انضمام المملكة العربية السعودية إليهم يهدد بتدمير الطموحات الوطنية والتوافقية بين الفصائل المختلفة الموجودة في السلطة في أن تصبح إيران قوة إقليمية.
الصين تفرض نفسها بتكتم
وكانت المملكة العربية السعودية وإيران على حافة الحرب عندما أجبرت الصين في 10 مارس/آذار 2023، “دركيي الخليج” على تطبيع العلاقات بينهما. وقد مثّل ذلك بداية مرحلة جديدة في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط. فعلى الرغم من الخطابات، لم يعد البرنامج النووي الإيراني في قلب النقاش، الذي بات يتركز حول التعارض بين منظورين لإعادة تشكيل الشرق الأوسط: إما حول إسرائيل والولايات المتحدة، أو بشكل أكثر استقلالية، تحت رعاية إيران والمملكة العربية السعودية، القوى الإقليمية الناشئة، بدعم من الجنوب ومجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا).
وكانت هذه الرغبة الإيرانية واضحة بالفعل بعد انتخاب حسن روحاني رئيسا في عام 2013، ثم مع التوقيع على خطة العمل الشاملة المشتركة وتطبيع العلاقات الدولية للبلاد. وقد أعطت إيران، بموافقة المرشد الأعلى، الأولوية لبناء علاقات جيدة مع جميع دول الجوار الحدودية التي يمكن أن يأتي منها التهديد، كما حدث في عام 1980 مع العراق أو في عام 2015 مع تنظيم الدولة الإسلامية. وهكذا أصبح بناء علاقات سلمية مع الرياض أولوية. وقد مكّن تدخل الصين من تتويج مناقشات غير مباشرة بدأت منذ فترة طويلة لوضع حد للصراعات المحلية المتعددة الجارية، وخاصة في اليمن.
من بين آلاف القضايا التي كان يتعين حلها، بدا أن هناك إجماع على قضية واحدة: الحاجة إلى إيجاد حل سريع وعادل ودائم لـ “المسألة الفلسطينية” التي تهم المنطقة بأكملها، بل والعالم الإسلامي بأسره. وأي خطة لإعادة تشكيل المنطقة كانت وهمية طالما استمر هذا الظلم. هذا المشروع التوافقي حول “عودة” فلسطين رأى النور في أسوأ الظروف الممكنة مع عملية 7 أكتوبر 2023، ثم الحرب على غزة وعلى لبنان.
رفض الانجرار
لن نعود إلى هذه الأحداث هنا، باستثناء الإشارة إلى أن إيران سعت إلى تجنب الانجرار إلى صراع إسرائيلي-فلسطيني “محلي”. من المؤكد أن الجمهورية الإسلامية كانت ترغب في حماية حزب الله وترسانته القوية للحفاظ على وسيلة ردع موثوقة ضد إسرائيل، والاحتفاظ بقدرتها على النفوذ في لبنان. لكنها لم تكن تريد الاستجابة للاستفزازات الإسرائيلية التي يمكن أن تؤدي إلى حرب واسعة النطاق تشارك فيها الولايات المتحدة.
لا تمتلك إيران الوسائل العسكرية اللازمة “للفوز” في حرب ضد إسرائيل، التي تبعدها بـ 1200 كيلومتر. كما أن ذلك من شأنه أن يدمر آمالها في أن تصبح قوة إقليمية بسرعة، تتعايش مع الجزيرة العربية. وقد يتسبب نزاع أيضا في حدوث تغييرات جذرية في جمهورية إسلامية أنهكتها 45 سنة من السلطة، بسبب الانقسامات الداخلية التي تفاقمت جرّاء الخوف من الانتفاضات الشعبية وأزمة اقتصادية غير مسبوقة. لذلك، تبقى أولوية حكومة الإصلاح الجديدة برئاسة مسعود بزشكيان، بدعم من المرشد الأعلى، هي رفع العقوبات التي أعيد فرضها منذ عام 2018، وبالتالي تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة. لكن من دون نجاح في الوقت الراهن. إلا أن إيران لا تزال تتبع بثبات سياسة الانفتاح والحذر هذه رغم وجود معارضة داخلية قوية.
نأت طهران بنفسها عن حلفائها في محور المقاومة، وفرضت على حزب الله عدم شن هجوم مكثف على شمال إسرائيل، الأمر الذي كان يمكن أن يريح حماس في غزة، وعدم استخدام أقوى صواريخه بعد اغتيال حسن نصر الله. وخلال صلاة الجمعة بتاريخ 5 أكتوبر/تشرين الأول 2024، أشاد المرشد بصفة مؤثرة بشجاعة مقاتلي حماس وحزب الله الذين أظهروا أنهم قادرون الآن على الدفاع عن أنفسهم وحدهم! وبعد وفاة يحيى السنوار، أوضح بيان إيراني أنه ليس مسؤولاً عن الهجوم بمسيّرة على مقر إقامة نتنياهو في 19 أكتوبر/تشرين الأول، في حين أعلن حزب الله مسؤوليته عن العملية.
يمثل الهجوم على إسرائيل بأكثر من 350 طائرة مسيرة وصاروخ إيراني في 13 أبريل/نيسان 2024 حدثا تاريخيًا في استراتيجية إيران الجديدة المتمثلة في التركيز على مصالحها الوطنية والدفاع عن أراضيها. وكان الهدف من هذا الاستعراض التقني والعسكري للقوة، الذي تم الإعلان عنه مسبقًا، إظهار أن لإيران الوسائل اللازمة للدفاع عن نفسها ضد أعدائها بمفردها، دون مساعدة وكلائها. كان الرد الإسرائيلي رمزيًا في المقام الأول، على عكس الهجوم الجوي الضخم في 26 تشرين الأول/أكتوبر، الذي كان ردًا على هذا العرض الأولي للقوة أكثر من كونه ردًا على الصواريخ الـ 180 التي أطلقتها إيران في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول. وأظهرت إسرائيل - دون التسبب في أضرار كبيرة - قدرات سلاحها الجوي الهائلة ونقاط ضعف إيران في التصدي لهذا النوع من الهجمات. كما أظهر الخصمان أن صراعاً واسع النطاق سيكون أمراً عبثيًا.
الأهم في الأمر ليس الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة على إسرائيل لعدم قصف المواقع النووية والنفطية الإيرانية، ، وقد كانت واشنطن مشلولة الحركة بسبب الحملة الانتخابية، بل الأهم الموقف الجديد للدول العربية التي رفضت السماح للقاذفات والصواريخ الإسرائيلية بالتحليق فوق أراضيها، وجميعها - حتى مصر والأردن والبحرين - استنكرت أو أعربت عن أسفها لـ“العدوان على الأراضي الوطنية الإيرانية”.
من المؤكد أن بداية التغيير في الموقف تجاه إيران يأتي كنتيجة لعمل الدبلوماسيين الإيرانيين، ولكنه أيضًا نتيجة أسئلة جوهرية حول العلاقات مع إسرائيل والولايات المتحدة، بعد أيام قليلة من انعقاد قمة مجموعة البريكس في قازان، بحضور العربية السعودية ومصر، وفي وقت بدأت فيه سياسة الأرض المحروقة التي تنتهجها إسرائيل في غزة ولبنان، تثير التساؤل حول الدعم الغربي غير المحدود لإسرائيل. وفي هذا السياق، أصبحت احتمالات إعادة البناء السياسي في المنطقة بمشاركة إيران ذات مصداقية من خلال فرض حل عادل لفلسطين على إسرائيل. وهو “نصر” سيحظى أيضًا بدعم شعوب العالم العربي والإسلامي.
طموح قومي
لقد غيرت حرب غزة ميزان القوى. فمن خلال مواجهة إسرائيل بشكل مباشر، دولة في مواجهة دولة، تسترضي إيران المشاعر القومية التي يتقاسمها 90 مليون إيراني وكبرياء الشعوب المسلمة، وهذا الطموح القومي للسلطة يمكن أن يأتي قبل الدفاع عن فلسطين. علاوة على ذلك، فإن الاستفزازات الإسرائيلية ضد إيران والخطابات التي تسلط الضوء مرة أخرى على خطر برنامجها النووي تسعى إلى حشد أوروبا والممالك العربية، كما حدث في سنوات الألفين، وإلى تهميش القضية الفلسطينية. ومما يعزز هذا الخطر هو أن الفصائل الإيرانية الأكثر محافظة، خاصة في البرلمان، أعادت إطلاق النقاش حول اختيار طهران القوة النووية العسكرية في مواجهة إسرائيل.
بعد استعراض القوة العسكرية، أصبحت إيران الآن تفضل السياسة. تُقدم الجمهورية الإسلامية نفسها كجهة فاعلة للسلام من خلال التنويه بحقيقة، مفادها أن غطرسة إسرائيل في غزة ولبنان تشوه صورة هذا البلد كـ“حصن ديمقراطي للحضارة”، وتقربها من المملكة العربية السعودية وممالك النفط.
ويسعى الإصلاحيون، الذين عادوا إلى السلطة منذ يونيو/حزيران 2024، بدعم من المرشد علي خامنئي، إلى أن يتم قبولهم، كما حدث في عام 2015، كمحاور صالح من قبل “المجتمع الدولي”، بدءاً بالدول العربية المجاورة، للمساهمة في إعادة البناء السياسي للمنطقة. ولكن دون جدوى حتى الآن.
ومن خلال تثمين مواجهتها المباشرة مع إيران، تسعى إسرائيل إلى صرف الانتباه عن احتلالها لفلسطين، لكن جهود الدولة الإيرانية هي أيضاً – أساساً؟ – وسيلة لإعطاء الجمهورية الإسلامية مهلةً ذات مصداقية. وهي أولوية مزدوجة، قومية وأيديولوجية، قد تجعلنا ننسى فلسطين البعيدة مرة أخرى.
1تم توريد هذه الأسلحة من قبل واشنطن في عام 1985 لتمويل ... الثوار المناهضين للثورة النيكاراغوية (“الكونترا”). أدى ذلك إلى فضيحة في الولايات المتحدة عُرفت باسم”إيران كونترا".