24 أكتوبر/تشرين الأول 2024، مطار بغداد الدولي، بعد التاسعة مساءً بقليل: طابور التأشيرات طويل على غير المعتاد بالنسبة للأجانب، وهو يتكون بشكل رئيسي من لاجئين لبنانيين - الذين يرحب بهم العراق رسمياً كـ“ضيوف” على حد قول الممثلين عن حكومته. يحملون أمتعتهم ويشقون طريقهم بسرعة إلى الخروج، حيث تحصل لقاءات عفوية. يتوقف بعضهم في بغداد، مثل قاسم، الذي التقى بوالدته. استقرت الأخيرة هناك بشكل مؤقت بعد فرارها من مدينة صور اللبنانية، والتي تم هُجرت مؤخراً نتيجة القصف. ويتوجه آخرون إلى السيارات التي تنتظرهم لنقلهم إلى كربلاء. وبعد اجتياز العديد من نقاط التفتيش، سيصلون مثلي ليلا، تحت أنظار صور آية الله علي السيستاني ومحمد صادق الصدر وابنه مقتدى، التي تزيّن جدران وشوارع البلدة إلى جانب كبار دعاة آخرين من المذهب الشيعي.
رابط تاريخي
إلى حدود موفى شهر أكتوبر/تشرين الأول، وصلت الأرقام الصادرة عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى 25 ألف لبناني في المنفى في العراق. ووفق وتيرة القصف الإسرائيلي، يمكن أن يصل إلى العراق ما معدله 900 لاجئ لبناني يوميًّا، يستقر معظمهم في مدينتي كربلاء والنجف المقدستين، بينما ينتشر آخرون في مختلف محافظات وسط وجنوب العراق، لا سيما بابل والبصرة وديالى وصلاح الدين.
تتجذر العلاقات بين لبنان والعراق في هوية مشتركة قوية يتقاسمها الشيعة في كلا البلدين، والتي تأكدت بعد الثورة الإسلامية لعام 1979. وقد تعمقت هذه الروابط الأيديولوجية في ظل النفوذ المتنامي لإيران بعد سقوط صدام حسين وصعود حزب الله، الذي تَشكل رداً على الغزو الإسرائيلي للبنان. وتحافظ الطائفتان على تبادلات ديناميكية، تتجلى في المشاركة في الاحتفالات التي تتخلل التقويم الديني الشيعي وتؤدي إلى رحلات حج متكررة إلى المواقع العراقية. كما تشكل حوزة النجف مركزاً مهماً للتعليم الديني والاجتماعي والسياسي، حيث يتكوّن العديد من الطلاب اللبنانيين. وقد أدت الحرب الأخيرة في غزة إلى تكثيف نضالهم المشترك ضد الاضطهاد، مما يعزز شعورهم بالتضامن باسم وحدة عروبية منبعثة من جديد.

كما يتجذّر هذا التضامن بعمق في المقاومة الإسلامية، حيث يشعر الجميع بالقلق على معاناة “إخوانهم” اللبنانيين. في كربلاء، تتزين واجهات الحلاقين ومطاعم الشوارع ومحلات بيع الحجاب والعباءات بالأعلام اللبنانية والفلسطينية. وعلى اللوحات الإعلانية، تدعو الجمعيات الخيرية إلى التبرع. وعند منعطف أحد الجسور، يمكن رؤية الخيام التي نصبها أعضاء الحشد الشعبي، لتشجيع السكان المحليين على جلب الملابس والمواد الغذائية وغيرها من المساهمات للاجئين المتواجدين في كربلاء.
أدت ليلة 23 إلى 24 سبتمبر/أيلول المأساوية، والتي تميزت بأعنف غارة دموية منذ حرب يوليو/تموز 2006، إلى زيادة مستمرة في تدفق اللاجئين. علي ياسين شاب يبلغ من العمر 17 عاماً، من مدينة صيدا، وصل إلى هنا برًّا، بعد ما أصبح يسميه الجميع الآن “الإثنين الأسود”. يروي لنا: “غادرنا بحقيبة فقط لكل شخص، استغرق الأمر منا ساعات للوصول إلى بيروت، ثم نقطة القائم الحدودية. كنا آلاف الفارين من الجنوب”.
مثل علي، يفر الكثيرون برًّا، فيشقّون سوريا، عبر الطرق غير الرسمية والمعابر غير القانونية المنتشرة على الحدود الطويلة التي يسهل اختراقها مع لبنان. وتتراوح تكلفة الرحلة من 60 إلى 200 دولار للشخص الواحد، حسب نقطة المغادرة والوصول، ويمكن أن تمتد لعدة أيام بسبب القصف الإسرائيلي. وقد اختار بعضهم طريقاً جوياً، لكن شركة طيران الشرق الأوسط هي الوحيدة التي تسيّر بضع الرحلات أسبوعياً من بيروت، وجميعها محجوزة بالكامل ومكلفة للغاية.
المؤسسات الشيعية على جبهة الاستقبال
كجواب للأزمة الإنسانية المتفاقمة، شجعت الحكومة العراقية اللبنانيين على طلب اللجوء في العراق، ومدّدت صلاحية تأشيراتهم وحشدت عدة مليارات من الدنانير - حوالي 2.27 مليون دولار بحسب بعض مصادرنا في وزارة الهجرة واللاجئين - لتلبية احتياجاتهم الأساسية.

وقد دعا زعماء شيعة مثل مقتدى الصدر، زعيم الميليشيا سابق، المجتمع إلى جمع التبرعات لمساعدة اللاجئين. وتلعب إدارات مرقدي الإمام الحسين والإمام العباس بشكل أساسي دورًا مركزيًا في هذه الديناميكية. وهي تضطلع بمسؤولية الحفاظ على المواقع وصيانتها، وتدرّ دخلاً كبيرًا بفضل رحلات الحج وتبرعات المؤمنين، كما يتضح من الجرار الزجاجية المملوءة بالتذاكر والمنتشرة حول الأماكن المقدسة. يعود جانب حاسم لهذا التمويل إلى الزيادة الكبيرة في المخصصات الدينية الحكومية في العراق بأكثر من 30% في موازنة 2024، لتصل إلى 2.564 تريليون دينار (أي قرابة 1,754 مليار دولار). وعلى الرغم من أن إيران تدعم أيضًا بنشاط بعض الفصائل الشيعية العراقية، إلا أن دورها في التمويل المباشر للمراقد لا يزال غير واضح. تتميز الحوزة الدينية العراقية في النجف، بتقاليدها الطويلة في الاستقلالية عن السلطات السياسية، عن الحوزات الإيرانية، مثل حوزة قم، التي يأتمر رجال دينها مباشرة إلى آية الله خامنئي. وتشير بعض المصادر إلى أن إيران قد تفضل الاستثمار في الجماعات الموالية لنظامها، بدلاً من الاستثمار في كربلاء المرتبطة بالنجف والتي يُنظر إليها على أنها ثقل موازن لنفوذها.
وبفضل جهود السلطات الشيعية، طُلب من العديد من الفنادق، المخصصة عادة للمؤمنين من جميع أنحاء العالم، الذين يجوبون شوارع المدينة كل يوم، أن تقدم للاجئين عدة وجبات في اليوم وأماكن إقامة مؤقتة. ومن بين هذه المؤسسات فندق النور، الذي يقع على بعد عشرين دقيقة فقط سيرًا على الأقدام من باب “القبلة” المؤدي إلى ضريح الإمام الحسين، تم تخصيصه بالكامل لاستقبال الفارين من العنف. محمد، في العشرين من العمر من الضاحية الجنوبية لبيروت التي تتعرض لقصف متواصل، لا يعرف، مثل كثيرين آخرين، إن كان منزله لا يزال قائماً وهل سيتمكن من العودة إلى البلاد. أخبرني كيف ما تزال حالة الاستعجال تؤثر على حياته وكيف ينخره القلق على أعمامه وأجداده وأقاربه الآخرين الذين بقوا هناك. ويقول: “بمجرد حدوث غارة، يجب التأكد من أن الجميع بخير”.
وبفضل جهود السلطات الشيعية، طُلب من العديد من الفنادق، المخصصة عادة للمؤمنين من جميع أنحاء العالم، الذين يجوبون شوارع المدينة كل يوم، أن تقدم للاجئين عدة وجبات في اليوم وأماكن إقامة مؤقتة. ومن بين هذه المؤسسات فندق النور، الذي يقع على بعد عشرين دقيقة فقط سيرًا على الأقدام من باب “القبلة” المؤدي إلى ضريح الإمام الحسين، تم تخصيصه بالكامل لاستقبال الفارين من العنف.
وباسم نفس المصالح العليا والمعنوية والدينية نفسها، يقوم أصحاب المطاعم بإعداد وجبات الطعام مجانًا، بينما يقوم العديد من مديري الفنادق بإيواء عائلات بأكملها مجانًا، بغض النظر عن الإعانات التي تقدمها المنظمات الشيعية. يقول لي مدير فندق هدى الوالي: “إنه قرار شخصي لاستقبال النساء والأطفال”. تعرب حياة، مثل العديد من اللبنانيين الآخرين الذين قابلتهم، عن امتنانها العميق لهذا الترحيب الحار. تروي، ضاحكة، كيف اقترب منها بعض العراقيين في الشارع، قائلين إنهم “في خدمتها”. وتضيف مازحة بأنهم وذهبوا إلى حد اقتراح منزلهم وسيارتهم وحتى آخر خروف لديهم.

محمد، في العشرين من العمر من الضاحية الجنوبية لبيروت التي تتعرض لقصف متواصل، لا يعرف، مثل كثيرين آخرين، إن كان منزله لا يزال قائماً وهل سيتمكن من العودة إلى البلاد. أخبرني كيف ما تزال حالة الاستعجال تؤثر على حياته وكيف ينخره القلق على أعمامه وأجداده وأقاربه الآخرين الذين بقوا هناك. ويقول: “بمجرد حدوث غارة، يجب التأكد من أن الجميع بخير”.
في كل مساء، يجتمع اللاجئون اللبنانيون، وكأن الأمر بات طقساً من الطقوس، في صالات الفندق لتبادل قصصهم عن عمليات العبور الصعبة أو عن العائلات المشتتة، وذكرياتهم عن الصراعات الماضية. ويتحدث بعضهم عن شعورهم بالخوف عندما اضطروا إلى الإجلاء بشكل عاجل، أو توجسهم من المجهول وهم في طريقهم إلى الحدود، بينما كانت تنتشر شائعات عن لاجئين متروكين في الصحراء محرومين من الماء والغذاء. وأخيرًا، يعبّر آخرون عن الحنين الذي يغمرهم إلى بيوتهم ووطنهم. يتخلل الليالي أحياناً صمت ثقيل، حين يجتمع الناس حول كوب شاي والعيون مشدودة إلى شاشة التلفزيون، حيث تبث قناة الجزيرة صور الحرب المستمرة.
“العراق بلدنا الثاني”
وعلى الرغم من حالة عدم اليقين، يحتفظ محمد بالأمل. يقول لي وهو يجلس على إحدى الأرائك المخملية في بهو الفندق بينما تدوي أصداء الغارات البعيدة على هواتف جيرانه: “العراق بلدنا الثاني، نحن آمنون هنا”. شعور يتردد صداه لدى غيداء، شابة لبنانية من النبطية، تقيم على بعد بضعة شوارع، في فندق “هدى الوالي”. تشرح لي أن العراق بالنسبة لهم أرض ترحيب مألوفة يزورونها على الأقل مرة في السنة أثناء “الأربعينية”، واحدة من أكبر التجمعات الدينية في العالم، وهي تمثل آخر أيام الحداد الأربعين التي تلي ذكرى وفاة الإمام الحسين، حفيد النبي محمد. وقد كانت هناك في أغسطس الماضي، وتتذكر أيام الذكرى التي اتسمت بالإشادة بغزة ودعم القضية الفلسطينية. وهي تلاحظ اليوم كيف يتعاطف الحجاج من كل مكان مع لبنان. قالت لي: “نحن محظوظون لأننا قريبون من الإمام الحسين، ونؤمن بصدق أن الصلاة ستساعدنا”.

في كل صباح، ينصهر المؤمنون اللبنانيون ضمن حشود من الوجوه المتشحين بالسواد ويتوجهون إلى ضريح الإمام الذي تتلألأ قبته الذهبية في ضوء الشمس. هي غرفة رائعة، مزينة بالفسيفساء بألف لون ومرايا متلألئة وثريات كريستالية متدلية من السقف، مع أنماط متقنة من الكتابة الإسلامية المزينة للجدران، التي تأوي الضريح.
وسط الموجة البشرية، تتسلل النساء، وتحاول لمس القبر أو تقبيله، وتتدافع مع بعضهن البعض، وهن يتأوهن ويبكين ويهتفن: “لبيك يا حسين”. في هذا الجو من التعبد والروحانية، حيث يختلط الحزن بالأمل، تبوح لي يارا: “دعوتنا هي سلاحنا”. بالنسبة لهؤلاء النساء اللبنانيات، يجسد الإمام الحسين مدرسة حياة حقيقية. فالدروس المستوحاة من قصته وقصة عائلته وتضحيته لها صدى عميق في نفوسهن:
كان الحسين مظلومًا مثلنا. لم نكن حاضرين في معركة كربلاء، ولو كنا هناك لقاتلنا إلى جانبه دون تردد. ونحن الآن نقول لبيك استجابة لدعوته، وسيرًا على نهجه وتعاليمه. نحن جميعًا مباركون بقربنا من الإمام الحسين عليه السلام.
بالنسبة للكثير من اللبنانيين، تُعد الخسارة والمنفى جزءًا حزينًا من تاريخهم، ودورة لا تنتهي أبدًا. ولكنهم على هذه الأرض العراقية، القريبة من مرقد الإمام الحسين، يستمدون قوة صمودهم من المقدس، مستلهمين من حياة الشهيد. تخبرني غيداء بنبرة مفعمة بالثورة: “لقد دُمر منزلنا في عام 2006 أثناء الحرب، وأعدنا بناءه. هذه المرة أيضًا، سنعود إلى لبنان ونعيد بناءه.”