
من بيروت، بأسواقها ومئات المتاجر، خاصة الفاخرة منها، التي تديرها شركة “سوليدير”1، على خلفية فضائح الاستملاك وتدمير التراث والتحسين المفرط لوسط المدينة، يستغرق المشوار عشر دقائق بالسيارة للوصول إلى مخيم شاتيلا للاجئين.
يعزز هذا القرب المفارقة بين وسط المدينة والمخيم - فنادراً ما نرى مكانين متناقضين إلى هذا الحد. محاط اليوم بمدينة رياضية ومقبرة وسوق صبرا الشعبي وطريقين سريعين، وُلد مخيم شاتيلا عام 1949 من تجمع فلسطينيين غادروا الجليل خلال النكبة. تحمل المدينة اسم الوجيه البيروتي باشا شاتيلا، الذي سمح للمنفيين بالاستقرار على أرضه. وكانت هذه الأرض آنذاك محاطة بأشجار التين الشوكي.
وصل مجدي مجذوب إلى شاتيلا في سن الرابعة عشرة. يبلغ مجذوب اليوم الخمسين من عمره، وهو عاشق للرياضة، يلتزم بخدمة “مجتمعه” منذ فترة طويلة، وهم سكان المخيم، خاصة الشباب، أكانوا فلسطينيين أم لا. يعلق مجدي: “نحن ندعم أي شخص هنا، ليست مسألة هوية.” في عام 2010، أسس مجدي “نادي فلسطين للشباب” ليتيح لأطفاله الثلاثة يوسف وأدهم وبيلسان ممارسة الأنشطة الرياضية. هناك كرة القدم، بالطبع، ولكن أيضاً كرة السلة للفتيات، مما قاده إلى تأسيس فريق كرة السلة النسائي “باسكت تهزم الحدود - Basket Beats Borders”. يتيح المشروع، بدعم من الجمعية الإيطالية “Un Ponte Per” منذ 2016، سفر لاعبات كرة السلة إلى إيطاليا وإسبانيا. ويمثل شعار الجمعية لاعبة كرة سلة محجبة بابتسامة ماكرة جالسة على جدار الأسلاك الشائكة...

مخيم مدمر بالكامل تقريبا
يخبرنا مجدي، بين مكالمة هاتفية لتنظيم حملة توزيع مياه ثالثة في مخيم المواصي في رفح، وسط مجاعة منظمة من قبل الجيش الإسرائيلي، واستقبال عدة أشخاص من المستفيدين الـ120 من النادي: “يضمن اقتراح رياضة للفتيات مخرجاً وشكلاً من النقل المفيد للمجتمع بأكمله. يتعلق الأمر بإعطائهن فرصة للخروج من منازلهن، ثم من المخيم، ونأمل من البلد”. يسمح الجمهور النسائي أيضاً بإغراء المزيد من الممولين، حيث يبدو أن معيار جنس اللاعبات أصبح يحدد أكثر منح التمويل. يوضح مجدي: “في إطار السفر للخارج، فهي أيضاً استراتيجية للحصول على تأشيرات بسهولة أكبر. لو كان تعلق الأمر بمراهقين ذكور، لكان مشتبه فيهم في عدم رغبتهم في العودة أبداً...”.
تأثر مخيم شاتيلا بعمق بحدثين ينبعان من الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990). في 16 سبتمبر/أيلول 1982، قامت مختلف الميليشيات المسيحية اللبنانية لمدة يومين بمذبحة هناك وفي صبرا، وقُتل بين 1000 و5000 شخص، دون إنقاذ الأطفال أو المسنين، تحت أعين القوات الإسرائيلية المتواطئة. قدم جان جينيه، الذي حضر بسرعة إلى المكان، شهادة2 خام ومتخيلة في آن واحد، واصفاً أنه كان يعبر“فوق أجساد الموتى كما يعبر المرء الهاويات”. في منتصف الثمانينيات، “حرب المخيمات”، التي هدفت إلى طرد منظمة التحرير الفلسطينية من المخيمات، بمشاركة حركة أمل وسوريا، شهدت المخيم محاصراً ومدمراً شبه كلياً.
أعيد بناء المخيم في نهاية الحرب الأهلية، ويأوي 14010 نسمة، وفقاً لآخر إحصاء في 2017، مما يتوافق مع أدنى التقديرات. كثافة السكان فيه عالية بشكل خاص. وخلافاً لبعض المخيمات الرسمية الاثني عشر الأخرى للاجئين الفلسطينيين في لبنان، لا تحرسه أي نقطة تفتيش للجيش اللبناني. فالسلطات الوطنية غير مخولة، من حيث المبدأ، بدخوله. يدخل المرء إليه مباشرة عبر إحدى الشوارع المجاورة، كل منها تسمى “غبيري” على خرائط جوجل، نسبة إلى القرية، كما لو كانت هناك نية لإنكار السكان هوية خاصة بهم، وحرمانهم من إمكانية تملّك مكاني وذهني لهذه الأراضي بعد أكثر من خمسة وسبعين عاماً من تشييده. لا يزال الفلسطينيون محرومين من الحصول على الجنسية اللبنانية وهذا ليس الحق الوحيد المحّرم عليهم. تخبرنا دوروثي كلاوس، مديرة الأونروا للبنان:
اللاجئون الفلسطينيون في لبنان يواجهون قيوداً مهمة: العديد من المهن المنظمة محظورة عليهم، مثل الطب والهندسة والقانون، وكذلك بعض الحرف، مثل القيادة أو الأمن. لا يمكنهم امتلاك عقارات أو تسجيل شركات. وبما أنهم غير قادرين على الوصول إلى الخدمات العامة اللبنانية، فهم يعتمدون بقوة على الأونروا للتعليم والصحة والضمان الاجتماعي والخدمات الأساسية.
الملاكمة مثل لعبة شطرنج
قليلا ما تخترق الشمس قلب هذا المتاهة من الأزقة والممرات الضيقة الرطبة المبللة غالباً، بسبب الارتفاع المتزايد والفوضوي للبناء. وتحت مئات الكابلات الكهربائية والأعلام ولافتات الفصائل السياسية - خاصة “فتح” - وصور الشهداء، يجيب على الأرض النسق المتسارع للتجار والمارة والشباب وكبار السن والدراجات النارية والسيارات. وهو جو أكثر حيوية لأنه“كوكتيل” حقيقي من السكان، وفقاً لكلمات هالة كارولين أبو زكي3. ووفقاً للإحصاء المذكور، لا يشكل الفلسطينيون أكثر من 30٪ من السكان، مع أغلبية من السوريين وحوالي 10٪ من اللبنانيين.
منذ ثلاث سنوات، يتدرب حوالي عشرون مراهق على الملاكمة الإنجليزية في مركز مجدي مجذوب. تركته مبادرة رياضة قتالية في البداية متشككاً نظراً لعنف الشوارع في المخيم. فالوضع الأمني، مثل جميع الخدمات العامة، قد تدهور في السنوات الأخيرة، خاصة بسبب تجارة المخدرات والأسلحة العديدة المتداولة. ولا تتخذ اللجان الشعبية المسؤولة عن الإدارة المحلية، المكونة من فصائل سياسية مختلفة والمتهمة بالفساد بانتظام، أي إجراء لمعالجة ذلك. ودعا الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في زيارة إلى لبنان في نهاية مايو/أيار، المنظمات الفلسطينية إلى تسليم السلاح، الذي قد يبدأ في منتصف يونيو/حزيران.
يدرب محمد، الذي يسكن في شاتيلا، ومساعداه محمد ومصطفى الشباب مرتين في الأسبوع. القاعة متعددة الاستخدامات، يرفرف فيها علم فلسطيني بجانب علم لبناني، وهي في حالة دائمة من إعادة التأثيث، حسب التبرعات: كيس ملاكمة جديد، ولوحة شمسية صغيرة، وشبكة لمنع الحمام من دخول الحلبة، ومرحاض ما زال قيد العمل...
يعتبر محمد أن “الملاكمة مثل لعبة شطرنج، هي رياضة دماغية، تشكل الانضباط وتوفر مخرجاً ما، في مواجهة الوضع الحساس في المخيم”. في نفس الصدد، يرى عالم الاجتماع لويك واكان أن الملاكمة “آلة لصنع روح الانضباط والتعلق بالمجموعة واحترام الآخرين كما تصنع الذات واستقلالية الإرادة الضرورية لازدهار الرسالة القتالية”4.

غير متأثرين بضجيج الشارع، سواء كان إطلاق كلاشنكوف أو انفجارات الألعاب النارية، يجري الملاكمون ويسخنون ويتابعون التمارين. قلة منهم لديها معدات كاملة، فالعزيمة هي المحرك الرئيسي. يعوض النقص تضامن المكان المجاني والمساعدة المتبادلة بين المشاركين. رغم غياب الحلبة، كل واحد “يرتدي القفازات” لجولة أو عدة جولات ويشربون من نفس زجاجة الماء. يعتبر محمود، ملاكم عمره 18 عاماً، أن المباريات التدريبية “لحظة هروب”، حيث يمكنه نسيان المشاكل اليومية. يبقى النادي مساحة مغلقة في المخيم، لكنها تساعد على الهروب.
“نعرف أننا قد نكون التاليين، فقد يأتي الإسرائيليون يوماً من أجلنا”
بداية بالصعوبات الاقتصادية، يعيش حوالي 80٪ من اللاجئين الفلسطينيين تحت خط الفقر ووفقاً لدراسة حديثة5،كان تأثير الأزمات الاقتصادية في لبنان، سواء انخفاض قيمة الليرة اللبنانية أو التضخم المفرط، ملحوظاً بشكل خاص في شاتيلا. وتنفق غالبية كبيرة من العائلات المستجوبة أكثر من دخلها لاحتياجاتها الأساسية، مما يجبرها على الاستدانة، في المقام الأول للطعام والرعاية.
دهور الوضع بشدة أكثر هجوم إسرائيل القاتل على لبنان بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ونوفمبر/تشرين الثاني 2024، الذي أودى بحياة أكثر من 4000 شخص وفقاً لليونيسف، ما تؤكده دوروثي كلاوس:
في مواجهة التدهور السريع لظروف المعيشة، فعّلت الأونروا استجابة طارئة ووظّفت12 ملجأ استقبل 4550 نازحاً داخلياً - لبنانيين وفلسطينيين وسوريين. واصلت الوكالة أيضاً أنشطتها الأساسية من توزيع الطعام والرعاية وإدارة النفايات وإمداد المياه.
تعتبر شاتيلا منطقة خطر، واضطر مجدي مجذوب لإغلاق النادي لمدة شهر ونصف. وبمجرد إعادة فتحه، بعد وقف إطلاق النار في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، اضطر مجدي لإلغاء عدة مسابقات بسبب استمرار الضربات الإسرائيلية على لبنان. كان سقوط النظام السوري في ديسمبر/كانون الأول 2024 أيضاً مصدراً لنزوح أثر على الحياة في المخيم، من عائلات عادت إلى سوريا، وعاد بعضها إلى شاتيلا، نظرا لسوء الوضع.
يعتبر مجدي، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 والإبادة الجماعية الجارية في قطاع غزة، في وقت يتحدث فيه البعض بحرية عن تطبيع العلاقات بين لبنان وإسرائيل: “تبقى الرياضة أداة لترويج القضية الفلسطينية، ووسيلة للحديث عن ظلمنا”. كل تاريخ ذكرى - من النكبة إلى يوم الأرض - يُحتفل به لزرع بذور الصمود والمقاومة في الجيل الشاب. ويعلق المدرب محمد: “نعرف أننا قد نكون التاليين، فقد يأتي الإسرائيليون يوماً من أجلنا”.
في انتظار مأساة أخرى، يعتمد الملاكمون على مجدي والمدربين للهروب، حتى لو كانت المسابقات الرسمية مستحيلة بسبب وضعهم. هنالك حاليا مقترح شراكة للنادي مع نادي Boxing Club Lous Pelous، المتواجد في في جهة “غار” الفرنسية، قيد النقاش، لتحسين المستوى التقني ومحاولة جعل الملاكمين يشاركون في عروض في فرنسا.
كما يذكرنا من رام الله وسيم أبو صال، أول ملاكم فلسطيني يتأهل للألعاب الأولمبية، في باريس 2024: “نضالنا كفلسطينيين داخل حلبة الملاكمة هو تجسيد لنضالنا خارجها” قبل أن يضيف:
إخوتي وأخواتي يموتون جوعاً، أطفالنا مدفونون أحياء تحت الأنقاض. أعتزم أن أكون صوتهم على الحلبة، ويجب أن يكون صوتي قوياً. سأحرص على أن يبقى مسموعاً دائماً.
وهو نضال يقوده أيضاً، في الحاضر والمستقبل، ملاكمو شاتيلا الشباب.
1حصلت “الشركة اللبنانية لتنمية وإعادة إعمار وسط بيروت” (سوليدر)، التي أنشأها رفيق الحريري رئيس مجلس الوزراء آنذاك عام 1994، على عقد إعادة إعمار وسط بيروت.
2«أربع ساعات في شاتيلا»، نص نُشر في البداية في العدد السادس من “مجلة الدراسات الفلسطينية”، 1983
3“في ’كوكتيل’ شاتيلا: خطابات وسرديات حول خسارة ماضية وحاضرة ومستقبلية”، نص نُشر في مجلة الإثنولوجيا الفرنسية، المجلد 51، 2021.
4اقتباس مأخوذ من “جسد وروح، مذكرات إثنوغرافية لمتدرب ملاكمة”، دار نشر “أغون”، 2014.
5وفاء عيسى وأحمد ديراني ونزار الحريري، “فقر المياه الحضري: وضع شاتيلا وصبرا في لبنان”، أكتوبر/تشرين الأول 2024، المعهد الفرنسي للشرق الأدنى والوكالة الفرنسية للتنمية.