اليمن، الحدود الجديدة لإسرائيل
لا يزال الصراع اليمني، الذي اندلع قبل أكثر من عشر سنوات، يشهد تحولات متواصلة. فعملية اغتيال وزراء مدنيين مرتبطين بالحركة الحوثية تكشف بوضوح أن اليمن بات جبهة جديدة في حرب إسرائيل المفتوحة في المنطقة. ومع ذلك، فإن الطابع غير القانوني لهذا التصعيد، فضلًا عن نتائجه العكسية، لم يعد يثير قلق أحد.
في يوم الخميس 28 آب/أغسطس الماضي، وبعد سلسلة من التهديدات التي تكررت خلال الأشهر الماضية، شنّت إسرائيل غارة جوية أصابت اجتماعاً للحكومة المعيّنة من قبل الحوثيين في صنعاء، وأسفرت عن مقتل ما لا يقل عن اثنتي عشرة شخصية من كبار المسؤولين، بينهم رئيس الوزراء أحمد الرهوي، ووزير الخارجية جمال أحمد عامر، وثمانية وزراء آخرين. كما أُعلن عن إصابة وزير الدفاع محمد العاطفي. إن قصف اجتماع للوزراء يُعدّ على الأرجح الهجوم الإسرائيلي الأكثر “نجاحاً” حتى الآن، رغم أن الغارات الإسرائيلية مستمرة في استهداف اليمن بانتظام منذ أكثر من عام.
واستمراراً للهجمات العديدة التي استهدفت في السابق موانئ البحر الأحمر، ومحطات الكهرباء الكبرى، وبنى تحتية مدنية أخرى من بينها طائرات تابعة لشركة الخطوط الجوية اليمنية، استهدفت الغارة الأخيرة بشكل مباشر وصريح موظفين مدنيين. وكان هؤلاء مجتمعين لتقييم “أنشطة وأداء الحكومة خلال العام المنصرم”، مع التركيز على المهام الإدارية والتنظيمية. وتُشكّل الاغتيالات الموجّهة، في اليمن كما هو الحال في لبنان وسوريا، جوهر الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، غير أنها تبقى في الوقت نفسه خروقات للقانون الدولي، وقابلة للتوصيف كجرائم حرب.
تسليح جديد
شهدت وتيرة إطلاق الصواريخ الحوثية باتجاه إسرائيل تباطؤًا في الأسابيع الأخيرة، وذلك نتيجةً للضربات الجوية المكثفة التي استهدفت مواقعهم العسكرية، والتي شنّتها إسرائيل والولايات المتحدة أيضا في وقت سابق من هذا العام خلال حملة قصف استمرت 52 يومًا. كما أنّ مصادرة عدد من شحنات العتاد العسكري المتجهة إلى الحوثيين- والقادمة من إيران أو الصين- على يد القوات التابعة للحكومة اليمنية المعترف بها دولياً خلال فصل الصيف، لعبت على الأرجح دوراً إضافيًا في هذا التراجع.
ومع ذلك، واصل الحوثيون شنّ ضربات على الأراضي الإسرائيلية، دعماً للفلسطينيين. ففي 22 آب/أغسطس الماضي، استخدم الحوثيون صاروخاً محمّلاً بذخائر عنقودية، في تصعيد غير مسبوق. وينظر الإسرائيليون إلى هذا السلاح الجديد على أنه تهديد متصاعد، نظراً للمخاطر طويلة الأمد للإصابات والوفيات الناجمة عن الذخائر العنقودية المتناثرة. والتي سقط بعضها بالقرب من مطار تل أبيب الذي كان الهدف الأساسي للهجوم. ورغم الرد الإسرائيلي السريع على صنعاء بعد يومين، والذي استهدف على وجه الخصوص منطقة قريبة من القصر الرئاسي ومحطة كهرباء، فإن الضربة التي استهدفت الوزراء أظهرت جلياً أن إسرائيل كانت تسعى إلى تصعيد ردّها.
منطقة عمليات في اتساع مستمر
عملية اغتيال أعضاء من حكومة الحوثيين أتاحت لإسرائيل فرصة التباهي بـ“إنجاز” جديد ضمن حملاتها الدموية والتدميرية في المنطقة. فإلى جانب الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، عبر المجاعة والعمليات العسكرية، تتسع منطقة التدخل العملياتي لإسرائيل بشكل متزايد، وباتت اليوم منسجمة مع التوجهات الإمبريالية التي تتبعها حكومة اليمين المتطرف.
في السياق العربي، يشكل غياب ردود الفعل على هذه الاغتيالات مؤشرًا إضافيًا على عجز دول المنطقة عن مواجهة إسرائيل أو ربما على تواطؤها. ولم تُثر وفاة المسؤولين المدنيين الحوثيين إدانات تُذكر من الحكومات المجاورة. وباستثناء حلفاء إيران من الأعضاء العرب فيما يُعرف بـ“محور المقاومة”، والذي بات يعاني من ضعف كبير، وحده مفتي سلطنة عُمان، أحمد الخليلي، قدّم تعازيه. فهذا الشخص الذي بات استثناءً في المشرق العربي بسبب مواقفه الحادة ضد إسرائيل، وصف التزام الوزراء الحوثيين تجاه فلسطين بـ“البطولي”.
أما في أوروبا والولايات المتحدة، فلم تحظَ هذه الاغتيالات غير القانونية حتى بتعليق في وسائل الإعلام. وفي شباط/فبراير 2025، علق المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى اليمن، السويدي هانس غروندبرغ، بلهجة حازمة على اعتقال ثمانية موظفين أمميين في أواخر كانون الثاني/يناير من قبل السلطات الحوثية. أما في 31 آب/أغسطس، فاكتفى هذا الأخير بتعليق متحفظ ومعتدل، قال فيه إنه يتابع “بقلق بالغ” التطورات الأخيرة في اليمن، حيث تواصل المناطق الخاضعة لسيطرة أنصار الله (الاسم الرسمي للحوثيين) التعرض لغارات إسرائيلية بعد هجمات أنصار الله ضد إسرائيل، مؤكدًا أن “هذه الهجمات يجب أن تتوقف”. ومُعربًا أيضًا عن “قلق عميق” إزاء سقوط قتلى وجرحى من المدنيين خلال الغارات الإسرائيلية الأخيرة.
أمام هذا التدخل الإسرائيلي الخطير، يشير الصمت اللافت لقادة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا إلى احتمال رضاهم، وفي الوقت ذاته، زاد ذلك من فقدانهم للمصداقية لعجزهم عن الدفاع حتى لفظيًا عن مبدأ السيادة اليمنية. فها هو فيصل رجب، الشخصية الجنوبية البارزة التي اعتقلها الحوثيون لسنوات، يحذر عبر وسائل التواصل الاجتماعي من أي “فرح” بهذه الأحداث، مؤكدًا أن “التاريخ سيخلد العار لكل من يفرح باستهداف يمنيين”، وأن “الاعتداء ضد أي يمني هو أمر مرفوض، حتى وإن كانت هناك اختلافات في وجهات النظر”.
تواطؤ الإمارات العربية المتحدة
على الرغم من اللامبالاة الدولية، يأتي هذا التصعيد ضمن تحولات إقليمية مهمة تستحق التوضيح، وتتعلق هذه التحولات بشكل خاص بالدور المحتمل الذي تلعبه الإمارات العربية المتحدة. إذ يُرجح أن قادة أبوظبي، وربما بعض الدول المجاورة، يوافقون على العمليات الإسرائيلية في اليمن ويُحتمل أنهم يشاركون فيها بشكل غير مباشر.
لم تنجح الشبكات والتقنيات الاستخبارية الإسرائيلية في اختراق حركة الحوثيين، ولا يزال قادتها الرئيسيون خارج متناولها، على عكس ما حصل بوضوح في لبنان وإيران. ومع ذلك، تشير الأحداث الأخيرة إلى أن الخناق يضيق عليهم، حيث تحسنت جودة المعلومات كما يتضح من أخر عملية، بالإضافة إلى محاولة الاغتيال الفاشلة لمحمد عبد الكريم الغماري، رئيس أركان الحوثيين في صنعاء في حزيران/يونيو 2025.
ويبدو أن المصادر التي يتم الاعتماد عليها حاليًا تتجاوز مراقبة الأقمار الصناعية والاتصالات، وتشمل على الأرجح معلومات ميدانية تجمعها أطراف معادية للحوثيين وتنقلها عبر أجهزة الاستخبارات الإماراتية، والتي تمكنت منذ اندلاع الحرب في اليمن في 2015 من تطوير شبكات قوية، من خلال تقديم الحوافز المالية، حتى باتت الآن تنافس السعوديين، بما في ذلك داخل بعض الجماعات السلفية على سبيل المثال.
حكومة صورية
النجاح العملياتي المعلن عنه يبدو مضللاً، فأهمية الشخصيات المستهدفة داخل جهاز الدولة الحوثية أقل مما يصوره الإسرائيليون. ففي 28 آب/أغسطس، صرح وزير الدفاع الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، بأنه “وجّه ضربة ساحقة وغير مسبوقة لقمة القيادة السياسية والأمنية لمنظمة الحوثيين الإرهابية” على حد قوله، وهو تصريح يبالغ في تقدير أهمية ودور المستهدَفين.
في الواقع، فإن الحكومة الحوثية المسماة بـحكومة “التغيير والبناء” في صنعاء، لا تمارس السلطة الفعلية على اليمنيين كافة الذين يعيشون تحت سيطرة الحوثيين ونسبتهم 70٪ من إجمالي السكان. فالسلطة الحقيقية، بما فيها المدنية والعسكرية والدينية، تتركز بيد الجناح الأيديولوجي للحركة، من خلال المقربين من “زعيم الثورة” عبد الملك الحوثي، وتمتد إلى المجلس السياسي الأعلى الذي يهيمن عليه تنظيم “أنصار الله”، الاسم الرسمي للحوثيين. أما رئيس الوزراء وزملاؤه فليسوا سوى موظفين شكليين. وسلطتهم محدودة بتعليمات أنصار الله وبوجود “مشرفين” موالين لعائلة الحوثي في جميع مستويات الإدارة. ومن المرجح أن استبدالهم لن يحدث أي تأثير سياسي أو استراتيجي على النظام الحوثي. فرئيس الوزراء أحمد الرهوي كان نفسه “غنيمة حرب”، إذ ينحدر من جنوب اليمن- الواقع خارج مناطق سيطرة الحوثيين- وينتمي إلى حزب سياسي كان مسيطرًا في السابق وأصبح الآن هامشيًا.
تشديد القبضة الحوثية
كانت ردّة فعل قادة الحوثيين الفورية متوقعة. ففي 29 آب/أغسطس، نُظمت مظاهرة حاشدة لدعم الحركة في صنعاء، وشكّلت جنازات الوزراء الاثني عشر، بعد ثلاثة أيام من عملية اغتيالهم، فرصة لاستعراض القوة. وأقسم رئيس الأركان على الانتقام من إسرائيل، مؤكداً التزام حركة الحوثيين بالقضية الفلسطينية.
ورغم تراجع الهجمات الحوثية على الملاحة المرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر، فقد أصبحت أكثر فاعلية. فبعد ثمانية أشهر من الهدوء، استؤنفت الهجمات لتستهدف وتغرق سفينتين، وتسفر عن مقتل بحارة في تموز/يوليو 2025. وبعد اغتيال الوزراء، عادت الهجمات مجددًا، وفي 1 أيلول/سبتمبر استُهدفت ناقلة نفط قبالة السواحل السعودية، وهي منطقة تقع خارج نطاق العمليات المعتادة للحوثيين في البحر الأحمر.
ومن المتوقع حدوث هجمات أخرى تعيق عودة حركة الملاحة البحرية تدريجيًا إلى طبيعتها في هذا الممر الملاحي، عقب اتفاق وقف إطلاق النار المفاجئ في أيار/مايو 2025 بين الحوثيين وترامب، والذي تم توقيعه بوساطة عمانية. وعلى الصعيد العملياتي، يمكن تعويض أي نقص في الذخائر المتقدمة ضمن صفوف الحوثيين باستخدام أساليب تشغيلية وتقنية أبسط، بما في ذلك الزوارق المسيّرة.
أما على الصعيد الداخلي، فمن المرجح أن تتصاعد أجواء الشك والريبة في صنعاء، حتى بين قادة الحركة من الصفين الأول والثاني. فخلفاً لرئيس الوزراء المغتال، تولى المنصب القيادي الحوثي المخضرم محمد مفتاح. لكن النظام الحوثي يواجه ضغوطًا متزايدة نتيجة تراجع الدعم الإنساني والدولي، والأزمة المصرفية، وآثار تصنيفه من قبل الولايات المتحدة كـ«منظمة إرهابية أجنبية»، مما أدى إلى تكثيف عمليات الانتقام.
واستمراراً لسياسة اعتقال العاملين في المجال الإنساني، نفذت الحركة في 31 آب/أغسطس سلسلة اعتقالات في صنعاء شملت 19 موظفًا أمميًا، على خلفية الاشتباه بعلاقاتهم المباشرة مع دول أجنبية. كما استمر احتجاز الموظفين الأمميين وموظفي المنظمات غير الحكومية، المعتقلين منذ حزيران/يونيو 2024 وكانون الثاني/يناير 2025. وأحبطت الهجمات الإسرائيلية الآمال التي سادت بشأن الإفراج عنهم بمناسبة ذكرى المولد النبوي في 5 أيلول/سبتمبر. وتؤكد هذه الأحداث أن اليمنيين العاديين، قبل القادة، هم أول المتضررين من آثار الحرب والقصف، واستهداف بلادهم من قبل الإسرائيليين. وفي ظل كل هذه الظروف، يبقى من الصعب إيجاد أي دافع للتفاؤل.