اللغة العربية خارج أراضيها

على دروب العربية · الأرض بْتِتْكلِّم عربي". قول مأثور من أغنية مصرية قديمة، قد يتعرّض اليوم للتشكيك النسبي، بسبب منافسة اللغات الأجنبية للعربية في ديارها، أو صعود لغات أصيلة الجذور فيها تطالب بتواجد أكبر كالأمازيغية في المغرب العربي.

© Dalal Mitwally

في الوقت الذي تبدو فيه اللغة العربية في العالم العربي نفسه معرّضة لشتى التساؤلات، وكأنها تعيش أزمة وجود، بين حرب اللغات في المغرب، والسجال حول تعريب اليافطات الفرنسية في تونس وتدني شعبية اللغة العربية في لبنان وما يقال عن أزمة اللغة العربية في الخليج، قد يكون من المفيد أن نبتعد قليلاً عن الساحة العربية، فكثيراً ما تنجلي الرؤية بالمسافة، لنوجّه أنظارنا برهةً الى الخارج، الى ما وراء حدود الدول التي تتبناها مبدئياً كلغة رسمية. ماذا عن تواجدها؟ ما هي الانطباعات التي يولدها هذا التواجد في ذهن الآخر؟ ما هي الإشكاليات التي يطرحها؟ من البديهي أننا لا نطمح الى الشمولية في طرحنا هذا، لضيق المساحة وغياب البحوث الكافية المدعومة بالإحصاءات الدقيقة. ما يهمنا بالأحرى هو طرح التساؤلات والحث على التفكير. ولن نقوم بالتالي برحلة سياحية حول العالم نرصد فيها تواجد اللغة في كل الأقطار . حسبنا أن نركّز على مكان تتكثف فيه الأسئلة حَولها. ولقد اخترنا “مكانين”: بلد أوروبي هو فرنسا، و“قرية كونية” هي الفضاء الافتراضي.

حدود متحركة

لا ترتبط اللغات بأرض المنشأ وحده. أسطع مثال على ذلك الإنكليزية، فواحد من ثلاثة ناطقين بها فقط هو من سكان إنكلترا والولايات المتحدة . “لم تعد روما في روما”، كما ورد منذ القدم في إحدى المسرحيات الكلاسيكية الفرنسية . ولكن هل ينسحب ذلك على العربية؟ نظرة سريعة الى التاريخ تفيدنا بأن اللغة العربية، بعد أن فاضت عن موطنها الأصلي مع الفتح الإسلامي، استوعبت عوالم أخرى، لا عبر التوسع بالأراضي فحسب، في عصر الدولة الأموية، بل عبر ديناميكية الترجمة. مائتا عام من الترجمة في عصر الامبراطورية العباسية أدخلت الى اللغة العربية حضارات اليونان والهند وفارس. وكان العلماء الناطقون بالعربية من شتى الأديان والقوميات. الأندلس مثال آخر على عدم تطابق اللغة الحتمي مع أرض المنشأ، حيث لعبت فيها اللغة العربية بين القرن التاسع (الميلادي) والقرن الثالث عشر دور الناقل للمعرفة العلمية والفلسفية الى أوروبا عبر الترجمة الى اللاتينية ومنها الى اللغات الأوروبية التي احتفظت حتى يومنا هذا بمئات المفردات ذات الأصل العربي . ثم كانت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فرصة لتعود اللغة العربية من رحلتها الأوروبية بما يبعث على التفكير والتجديد وإنتاج العديد من المصطلحات التقنية. واليوم تكاد لا تخلو قارة واحدة في العالم من حضور اللغة العربية، وإن بشكل متفاوت. إلا أننا سنلتفت في حديثنا الى أوروبا بشكل خاص، لقربها الجغرافي من المنطقة وتاريخها الطويل معها. وداخل “القارة العتيقة” كما تسمى أحياناً، سنقرّب عدستنا من فرنسا، لأسباب عدة:

قد تكون الجالية العربية في إسبانيا أكبر منها في فرنسا ، ولا سيما نسبةً الى السكان المحليين، إلا أن مسألة اللغة العربية غير مطروحة فيها على صعيد الشأن العام. وهو الأمر الذي يؤكده لنا المترجم والصحفي مزدوج الجنسية، العربي الإسباني شوقي الريس. كما يُنوه الريس بأن ما يسمى بالبيت العربي casa arabe في مدريد “أقل شأناً من معهد العالم العربي في فرنسا من حيث أهدافه وطموحاته وميزانيته وبالتالي فنشاطه أضعف بكثير من نظيره الفرنسي”. والشيء نفسه في ألمانيا حيث أغلق معهد الشرق الألماني Deutsches Orient Institut أبوابه منذ حوالي 15 عاماً بسبب نقص التمويل كما أوضح لنا المترجم الرسمي الأسبق للغة العربية لدى السلطات الألمانية، عارف حجاج. ويضيف قائلاً إنه بالرغم من الهجرة العربية الكثيفة الوافدة إلى ألمانيا مؤخراً “فاللغة العربية لا تستحوذ على اهتمام مركّز”. كذلك الأمر في لندن، التي لا تأوي من ناحيتها أي منارة عربية ثقافية شبيهة بالمعهد المطل على نهر السين، حتى لو كانت العاصمة البريطانية “مَربط فرس” الإعلام العربي الخليجي، تقليدياً. ويبدو أن الجالية العربية في إنكلترا، شأنها شأن الجاليات العربية في إسبانيا وألمانيا، لا تجعل من اللغة قضيتها، حتى لو بقيت بعض الفئات فيها على اتصال بها طبعاً. وهو الأمر الذي يَأْسَف له عبد الرحمن عزام، مؤلف كتاب “صلاح الدين” بالإنكليزية، فيقول لنا “إن الانقطاع عن اللغة مأساة”.

المفارقة الفرنسية

لا شك أن فرنسا حالة فريدة من نوعها. وما معهد العالم العربي فيها سوى أحد أوجه تميّزها، فلقد أورثتها علاقاتها القديمة بالعالم العربي عدداً يكاد لا يحصى من مراكز البحوث المختصة بالشأن العربي، وتراثاً ما زال حيّاً من الاستشراق الأدبي والعلمي ، وأجيالاً متعاقبة من المستعربين المتألقين، وشبكة واسعة من المدارس الموزعة في أرجاء العالم العربي، تُدرِّس فيما تدرس اللغة العربية (حصص اللغة فيها تضم 120,000 تلميذ من شتى الجنسيات). ولقد كان للتفكير التنويري الفرنسي تأثير على أعلام النهضة العربية، فاستقطبت “مدينة النور” أعلاماً كرفاعة الطهطاوي الذي مكث فيها خمس سنين في بداية القرن التاسع عشر (1826-1831) وطه حسين لأربعة أعوام في مطلع القرن العشرين (1915-1919). وفرنسا بلد اهتمت فيه السلطات منذ عهد بعيد باللغة العربية، فأوصى الملك فرنسوا الأول منذ القرن السادس عشر بإدخالها الى أرقى مؤسسة تعليمية عمومية هي الكوليج دو فرانس. وآخر من أكّد على أهمية تدريسها وزير التربية جان ميشال بلانكير في شهر سبتمبر أيلول 2018، وما زلنا نذكر العاصفة التي أثارها تصريحه آنذاك.

ففرنسا بالرغم من كل ما ذُكر آنفاً، بلد يقابَل فيه تصريح بسيط لوزير التربية، عن اللغة العربية كلغة عريقة لا بد من تدريسها منذ المرحلة الابتدائية، بحملة شعواء تحتل صدارة الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي لمدة أسبوع... وهو سجال غريب، يهبّ من حين الى آخر، يُحرِّكه ويؤججه اليمين السياسي بشكل خاص في الفترات الانتخابية لتعبئة الجماهير لصالحه، فيقوم بالتهويل بخطر “الإرهاب الإسلامي” الذي سينتج دون شك عن تدريس اللغة العربية في المدارس. وتؤثر هذه الحملات على الرأي العام، ومن المرجح أنها تنعكس سلباً على مدى إقبال الجمهور على تعلم العربية، وقد تُقلِّص من فرص فتح صفوف اللغة في المدارس الحكومية (التي تُعتبر العامود الفقري للنظام التعليمي في فرنسا، حيث المدارس الخصوصية هي الاستثناء لا القاعدة). والمدارس هذه تتيح في مرحلة مبكرة اختيار إحدى اللغات الأجنبية كلغة ثانية أو ثالثة. علماً أن نسبة متعلمي العربية لا توحي بأن ثمة خطر اجتياح. فواحد من أصل ألف تلميذ فقط في فرنسا يتعلم العربية كلغة حيّة في المرحلة الابتدائية، واثنان من ألف في المرحلة التكميلية والثانوية. أما الأعداد في الجامعات والمعاهد العليا فلا تتعدى ال9000 بالمطلق.

قد تتعجب إذاً لهذا التعامل المتقلب مع اللغة العربية، الذي يتراوح بين السجال والتبجيل. فمن بين الدبلوماسيين الذين صادفتُهم شخصياً، من كافة البلدان، لم أسمع أحداً يتحدث عن اللغة العربية بالشغف الذي يتحدث به الدبلوماسيون الفرنسيون. ولقد استطعت التأكد من إتقانهم المميّز لها، في الفصحى والعامية، وأذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر فرانسوا غوييت سفير فرنسا في المملكة العربية السعودية، والذي يتحدث بطلاقة يغبطه عليها العرب أنفسهم. “لقد لعبت اللغة العربية دوراً حاسماً في حياتي وسيرتي المهنية” يقول لنا غوييت، ويلفت انتباهنا الى الميزة الفرنسية المتمثلة بما يسمى مسابقة “كادر الشرق” في الخارجية الفرنسية“. أما جوليان كليش المستشار في السفارة الفرنسية في عمان، والذي ترك ذكرى استثنائية في الكويت كمستشار ثقافي، فلا يتردد بالقول”باتت اللغة جزءاً من حياتي اليومية“، وأما ديلفين ليدا المستشارة في قسم المراسم في وزارة الخارجية والتي عملت في المنظمات الحكومية متعددة الأطراف، فأتقنت فيها لغات عدة، فهي تُميّز العربية عن غيرها، قائلةً إنها”أجمل لغات العالم".

فما سرّ هذا الولع الذي قد لا تلقاه من الناطقين بالضاد أنفسهم؟ بالإضافة الى الموسيقى الخاصة بها، في الشعر والأدب، يعتبر هؤلاء أن العربية توقد الذهن، “لما تتيح من تبحّر لا ينتهي في عالمها الثري” كما يقول جوليان كليش. ويؤكد لك جميعهم “أنها لغة عالمية بالفعل” حسبما رأوا في تعاملهم مع الجهات الدولية. وعندما تبحث عن أسباب تعلّمهم اللغة، تدرك أنها بعيدة كل البعد عن النَفْعية، ففي لحظة من حياتهم كانت لهم قصة حب حقيقية مع اللغة العربية. ترى أهي ميزة فرنسية، تُثَمِّن عالياً كل ما هو ثروة ثقافية؟

هذه اللهفة نفسها تأكدت لنا عبر أصداء أخرى آتية من شرائح مختلفة من المجتمع، من دارسي اللغة في معهد العالم العربي ومدراء معاهد مهنية تبنوا تدريسها، أو من عاملين في الإعلام أو في أوساط الأعمال.

الصورة النخبوية

لماذا إذاً هذا السجال حول موضوع يأخذ فجأة أبعاد القضايا السياسية والاقتصادية الحيوية؟ توجّهنا الى فريديريك فوده، المجازة بالتاريخ وبأعلى شهادة فرنسية في اللغة العربية، والتي عملت طويلاً كمستشارة ثقافية في مركز اللغة والحضارة العربية في معهد العالم العربي، وشاركت مع بريجيت ترانكار في وضع كتاب لتعليم العربية لغير الناطقين بها ، كما شاركت في وضع اختبار قياسي للغة العربية على الكومبيوتر ووضعت حجر الأساس لأول اختبار قياسي دولي لإثبات المستوى في العربية، بالتعاون بين أساتذة اللغة في معهد العالم العربي وخبراء الاختبارات القياسية في المركز الدولي للدراسات التربوية.

سألناها عن هذه المفارقة فقالت “إنها فعلاً صورة متناقضة، فالصورة الإيجابية والسلبية تتعايشان في المجتمع الواحد، وهي صورة مركّبة. لديك من ناحية صورة اللغة”الصعبة“المتطلِّبة، التي تتيح لك التفرد والامتياز، وولوج ثقافة عريقة. وهي الصورة السائدة في التعليم العالي، حيث لذاكرة التاريخ قيمة عالية، صورة متأثرة بكبار المستشرقين المتبحِّرين بالمعرفة، وبكبار العلماء العرب”.

ونسأل فريديريك إن لم تكن هذه الصورة الإيجابية والنُخْبوية نفسها من العوامل التي تُبقي اللغة في حيّز من الغرابة، فتقول “بالفعل، ثمة افتتان بجمالية الخط العربي مثلاً كغلاف من الألغاز” و تضيف: “يحملك الى عوالم وجدانية صوفية أو غامضة متلوّنة بالشّبقية، كقصص ألف ليلة وليلة” وتتابع: “ثم أن هناك الصورة المعاصرة لواقع اليوم، الأقل رومانسية، حيث اللغة هي أحد مؤشرات الهوية اللصيقة بأبناء الهجرة الوافدة، والتي هي عموماً من الطبقات المتواضعة”. وهنا ينكشف لنا ما يخالج المشاعر الشوفينيّة من حّسٍ طبقي، يعرف اليمين تماماً كيف يعزف على أوتاره.

“وأخيراً”، ترى فريديريك أنه “بعيداً عن هذا وذاك، ثمة صورة هادئة بسيطة تظهر فيها اللغة كأداةٍ حيّة للتواصل مع الأقران”. فمن الحوادث التي تأثرت بها شخصياً موقف إحدى السيدات، مزدوجة الجنسية، فرنسية- بريطانية، فضلت ألا تسجل ابنها في القسم الدولي الاعتيادي في المدرسة لتسجله في قسم يعلم اللغة العربية الى جانب الإنكليزية، لأنه “يريد التواصل مع أصدقائه العرب”. نفس الشيء سمِعَته فريدريك من أولياء آخرين، وترى أنه “كل ما كان الناس بعيدين عن اللغة وأوساطها كلما أثرت بهم الدعايات المُغرضة”.

حساسية مفرطة

لا شك أن ثمة عوامل تاريخية تفسر هذه الحساسية المفرطة، يعود جزء منها الى الحِمائيّة الفرنسية بشكل عام من اللغات الأخرى، وهي نزعة ناتجة عن ارتباط اللغة الشديد بالدولة القومية، وذلك منذ الثورة الفرنسية، بحيث باتت لا تنفصل عن الشخصية الوطنية. الى درجة أن فرنسا في فترتها الاستعمارية، حين أرادت “تطبيع” الجزائر باعتبارها امتداداً للأرض الفرنسية، ضيّقت بشدة على اللغة العربية في هذا البلد، واعتبر مجلس الدولة الفرنسي، في مرسوم له بتاريخ 8 مارس 1935 أن اللغة العربية في الجزائر “لغة أجنبية”!

وقد يكمن هنا بالذات العصب الحيوي للحساسية الشديدة: أي ما علق في اللاوعي الجماعي من رواسب حرب التحرير الجزائرية، التي دفعت بما يقارب من مليون فرنسي بعد استقلال الجزائر على دروب العودة الى بلدهم الأصلي بعد أن كانوا قد استوطنوا في الجزائر، وبَعضهم وُلد فيها ولا يعرف موطناً آخر. وهي ترسبات لم تعالَج في التعبير الفكري والفني في فرنسا بحيث يجري استيعابها وتجاوزها، فبقيت كالجمر تحت الرماد.

وهي عوامل قد تُوَلِّد تخوفاً دفيناً من “غزو ثقافي مضاد”، وإن أنت استمعتَ الى بعض التعابير المستخدمة في الحرب الكلامية هذه لتهيأ لك أنك في زمن الحروب الصليبية. وهنا لا بد من التنويه بأن الفرنسيين يربطون اللغة العربية بالدين الإسلامي حصراً، وعلينا أن نتذكر هنا خاصيّة فرنسية أخرى، ألا وهي تمسّك المجتمع الفرنسي الشديد بعلمانية الدولة التي انتزعتها مؤسساتها من صراع تاريخي مرير مع الكنيسة، فبات البعض يخلط اليوم، بغير وجه حق، بين عَلْمَنة الدولة وعَلْمنة المجتمع.

تواصل دون حدود

هل من سبيل لكسر القوالب النمطية هذه؟ ترى فريدريك أن ذلك ممكن تماماً عبر كل ما يساهم بالتعريف باللغة والحضارة على نطاق واسع، وهو الشيء الذي تساهم فيه كتب التعليم المبنية على أسس حديثة، مشوّقة. وتضيف “كما أنني أؤمن بدور الأفراد، وخاصة منهم مدرّسي العربية، مسؤوليتهم كبيرة، فهم سفراء لها”.

لا شك أن كل ما من شأنه أن يظهر اللغة كأداة تواصل، لا كموضوع دراسة “متميزة”، حكراً على الصفوة الاستشراقية، ولا كتعبير قومي أو ديني بحت ، له دور إيجابي للغاية في إزالة الرهبة. لذا، فإن إتاحَتَها على أجنحة وسائل الإعلام العصرية أمر حيوي. أي مبادرة من هذا النوع تجد فوراً ترحيباً واسعاً بها، كما تبيّن من نجاح مبادرة لوك دهوفيلز من معهد اللغات الشرقية الشهير في باريس، الذي قام بوضع “مووك” طريف على الانترنت للتواصل الأوّلي بالعربية. أما شبكات التواصل الاجتماعي فهي خير وسيلة لتقريب اللغة من عامة الجمهور.

ولقد لفتت انتباهنا مبادرة الشابة مريم موفق، الفرنسية من أصل عربي، التي تعلمت العربية في كِبرها. ثم أنشأت صفحة فيسبوك إسمها “أرابوتيك” (بما معناه مكتبة العرب)، لها 5600 متابع حتى الآن، وجمهورها مختلط من شتى الأصول الأوروبية والعربية. وثمة صفحة فيسبوك أخرى، وضعتها فاطمة مزيان الفرنسية من أصل عربي أيضاً، ومفتشة اللغة العربية في وزارة التربية الفرنسية، بعنوان “مستعربات و مستعربو العالم”، بدأت تحظى باهتمام روّاد الشبكة.

وما يلفت الانتباه في هذه المبادرات هو هدوء النظرة فيها الى اللغة العربية، بصفتها لغة عالمية، والتعامل العِلمي معها كلغة حيّة مُمتعة، والترفّع عن السجالات الشَعْبوية. الفضاء الافتراضي بشكل عام “مكان” مميز للحديث عن تواجد اللغة خارج أراضيها، ويستحق أن يُفرد له بحثٌ مطوّل. تحتل اللغة العربية اليوم المركز الرابع للغات الأكثر تداولاً على الإنترنت، وهو ارتقاء سريع للغاية حدث في السنوات القليلة الماضية (فقبل 2015 لم تكن اللغة العربية أساساً بين اللغات العشر الأول على الإنترنت)، ونتج ذلك عن سرعة تحول الصحافة العربية من المطبوعة الى الإلكترونية، وعن تعاظم استعمال اللغة في شبكات التواصل الاجتماعي، وعن المدونات، الفردية منها والجماعية، التراثية والمعاصرة، الأدبية والعلمية، وعن فيض المواد السمعية البصرية على اليوتيوب والمكتبات الصوتية وتطبيقات الكتب المسموعة. هذه الثورة الإعلامية المعاصرة التي شملت أيضاً القنوات التلفزيونية الفضائية قد أزالت الحدود لا بين الدول العربية نفسها، بل حدود المعمورة قاطبة، فبات العالم يخاطب العرب بلغتهم عبر جملة من القنوات الفضائية التابعة لبلدان غير عربية (الأمريكية منها والصينية والروسية والبريطانية والفرنسية والتركية والإيرانية ألخ) وكذلك عبرالمواقع الإعلامية الناطقة بالعربية على الشبكة.

تعايش سلمي بين الفصحى والعاميات

وفي هذا الكم الهائل من المواد الإلكترونية، والسمعية البصرية، تجد الغث والسمين بطبيعة الحال. وتستوقفك على نحو خاص ظاهرة زوال الحدود الكتيمة بين الفصحى والعاميات. وقد يهال البعض ما يعتبره “أزمة” تعيشها اللغة الفصحى، التي خرجت من دوائرها التقليدية الى فضاء رحب، دون أي رقيب أو سلطة مركزية. حيث لم تعد تقتصر على الكتابة ولا هي تنحصر في مجالات بعينها. وتتمثل الإشكالية الأساسية المطروحة على المهتمين باللغة العربية اليوم في الحفاظ على سلامتها مما تعيشه في نظر البعض من خبط عشواء. فيرى البعض أن استعمال العموم لها دون دراية كافية، ومخالطتها للهجات العامية في القرية الكونية، إنما يؤدي الى تسيّب مرفوض في النحو والصرف.

وثمة إشكالية أخرى تتمثل في فوضى المصطلحات. والفوضى هذه ناتجة عن حركة الترجمة الواسعة الجارية حالياً في الإعلام، والهادفة لاستيعاب النصوص من مختلف اللغات، والمتسمة أحياناً بالتسرع وانعدام البحث الكافي في المفاهيم الكامنة وراء الألفاظ الأعجمية، والتي تعطي المعنى الحقيقي، بغض النظر عن حرفية اللفظ.

ومع ذلك فنحن نؤيد ما ذهب إليه المؤرخ أحمد بيضون في كتابه الأخير “في صحبة العربية” ، من أن ثمة حيوية كبرى في هذه الظاهرة الكونية لا خشية منها على الفصحى. كما نؤيد ما خلص إليه هذا العاشق للغة العربية والمتابع لشؤونها وشجونها، حين أكد في الوقت نفسه على ضرورة العمل على إرساء سلطة أكاديمية موحّدة تسهر على سلامة الفصحى عموماً وتحدّ من فوضى المصطلح، وتعالج الافتقار للمعاجم الحديثة.

وهنا لا مناص لنا من العودة الى “الأرض”، حيث تقع على الدول القائمة عليها مسؤولية مساندة كل مَن يعمل على نشر اللغة العربية بالشكل الحديث المتطور الذي يليق بها، كما تقع عليها مسؤولية تشجيع العمل الأكاديمي الموحّد، ليواكب هذه الظاهرة العالمية الإيجابية. وهي مسؤولية يتوقف عندها شوقي الريس الذي جاب كمترجم فوري سندبادي كل الوكالات الدولية لتي تستخدم اللغة العربية بصفتها لغة رسمية في منظومة الأمم المتحدة، وخرج منها بصورة قاتمة “عما تتعرّض له اللغة من تنكيل واستهتار وإهمال على كل المستويات”. يتابع الريس قائلاً “مؤسساتنا الرسمية، من مسؤولين سياسيين وسلك دبلوماسي ومندوبين حكوميين وخبراء تقنيّين، لا تقيم الاعتبار الواجب لأهمية التواصل والتعبير باللغة الأم”.

ولا بد لنا من الإقرار بغياب الوعي الرسمي العربي - إلا من بعض المبادرات النادرة الجديرة بالاهتمام - بأهمية هذه اللغة التي بات الجميع يعترف بعالميتها. فنحن حيال نظام عربي تربوي يتداعى فيه التعليم العمومي بشكل مريع، وتُدرّس فيه اللغة بشكل تقليدي مُنفِّر، ويكاد ينعدم وجودها في تدريس العلوم، ناهيك عن انعدام البيئة الحاضنة لإنتاج المعرفة أساساً (يعتبر إنتاج المعرفة من المعايير الهامة التي تجعل من لغة ما لغة كونية). ونحن حيال نظام عربي أكاديمي يغيب عنه التنسيق الفعلي بين مجامع اللغة وعددها لا يقل عن 11. ورغم ذلك كله، فنحن لا نرى أن ثمة “أزمة لغة عربية” لا خارج أراضيها، ولا داخلها، بقدر ما هناك أزمة دَوْلَة عربية، دولة أثبتت عجزها في شتى الميادين، فباتت تعصف بها رياح التغيير، ويُعقد الأمل على نهوضها مجدداً.