بين ضفتّي المتوسّط، وعلى امتداد قرون مضت، شهد هذا الحوض البحريّ الذّي مثّل مركز العالم وحدوده الأولى منذ فجر التاريخ موجات تنقّل بشريّة هائلة تمخّضت عنها ولادة حضارات وأفول أخرى. أدفاق الهجرة التّي لم تتوّقف منذ بدأ الإنسان الأوّل يتلّمس خطاه ويكتشف محيطه، تطوّرت مع تطوّر الإنسانيّة بما أنتجته من حاجيات وأخطار جديدة، لتتنوّع أسباب الهجرة ووجهاتها وليجد المهاجر نفسه-مع كلّ مرحلة - في مواجهة تحدّيات مختلفة عن تلك التّي عرفها سابقوه.
مع اقتراب نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، تزدحم الذاكرة بعدد لا يحصى من الصور لمهاجرين من مختلف الأعراق والأديان، تجمعهم حقيبة السفر وتختلف حكاياتهم ومسارات تحرّكاتهم وأسباب هجرتهم ونهايات رحلتهم.
فهذه الظاهرة التّي شابتها المفاهيم والتصوّرات المغلوطة حول طبيعة وأنماط ومسبّبات وأدفاق الهجرة حول العالم، تحوّلت إلى هدف يسعى وراءه ملايين البشر وأرقا يقضّ مضاجع الحكومات ويطرح عليها تحدّيات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وأمنيّة، بل ومادّة دسمة لدراسات المنظّمات الدوليّة المعنيّة بالشأن وللتقارير الإعلاميّة.
إذ يشير تقرير الهجرة في العالم لسنة 2018، الصادر عن وكالة الأمم المتحدة للهجرة عن تطوّر عدد المهاجرين على الصعيد الدولي بين سنوات 1970 و2015 من 84 مليون إلى 244 مليون مهاجر بما يمثّل 3.3% من إجماليّ سكّان العالم. إلاّ أنّ مسارات المهاجرين لم تقتصر على التنقلات بين الدول، حيث يشير نفس التقرير إلى أنّ أكثر من 740 مليون شخص هاجروا عام 2015 داخل بلدان مولدهم، لأسباب تعود في معظمها إلى الفقر أو التغيّرات المناخيّة والكوارث البيئيّة. حركيّة داخليّة تمثّل العامل الرئيسي في نمو ودينامية المدن، كما تطرح في الآن نفسه معضلات جديدة تتعلّق بنمو أحزمة العشوائيات والأحياء المُقصاة من منظومة الحكم. من هذا المنطلق، يحاول هذا الملّف المشترك الذّي تمّ إنجازه كجزء من نشاط “شبكة المواقع الإعلامية المستقلّة بخصوص العالم العربي”، في إطار تعاون إقليمي تشارك فيه ”نواة”، “الجمهورية”، ”السفير العربي”، ”مدى مصر”، ”باب الماد”، "ماشا الله نيوز”، ”حبر” و”أوريان XXI”، تسليط الضوء على هذه الظاهرة.
إلاّ أنّ الصحفيّين الذّين شاركوا في إعداد هذه المقالات، لن يقتصروا على التعريفات الجاهزة ولن يبحثوا فقط في تفكيك الأرقام والمعطيات، بل سيحاولون التعاطي مع الموضوع عبر مرافقة نماذج مختلفة من المهاجرين من خلال زوايا متنوّعة، تتناول إختلاف الدوافع ومسبّبات الهجرة إضافة إلى مساراتها، منذ مرحلة الإعداد، مرورا بتفاصيل رحلاتهم وصولا إلى مرحلة الإندماج والظروف الإجتماعيّة والإقتصاديّة في دول المضيفة.
تكون البداية مع ملاك الأكحل، من موقع نواة، التّي تتمحور ورقتها حول دوافع الهجرة، من خلال عيّنات من “الساعين إلى الهجرة” التونسيّين من فئات اجتماعيّة وطبقيّة ومستويات دراسية مختلفة. تحاول ملاك عبر لقاءات مباشرة مع الشخصيات التّي سردتها في مقالها أن تفهم الدوافع الحقيقيّة لبحث هؤلاء عن “حياة حقيقيّة” خارج تونس، وأن تفكّك مغزى مساعي جزء من الشباب التونسيّ المرفّه نوعا ما في البحث عمّا أسموه “المستقبل” خارج حدود بلاده وبالتالي كسر النمطيّة السائدة حول اليأس كعنوان أوحد للهجرة.
أمّا كمال شاهين، من جريدة السفير العربي، فيسعى لتفكيك الظاهرة وسط صخب المدافع التي لم تهدأ حتّى هذه اللحظة في سوريا عبر تحقيق استقصائي حول الهجرة القسرية ليتناول أسبابها وعوامل تحرّك السوريين وانتقالهم في تهجيرهم القسري إلى هذه الجهة أو تلك. كما ويسعى من خلال هذا التحقيق إلى التقصّي عن مسارات نزوحهم وتأثير العوامل المحلية في اتجاهات الهجرة داخل وجوار البلاد. هذا يستند كاتب المقال إلى قاعدة بيانات ثريّة ليبيّن التغييرات الديمغرافيّة التي أحدثتها الأدفاق المهاجرة في المدن السوريّة التّي تمّ منها وإليها انتقال المهاجرين إضافةً لتناول أحجام هذه الهجرات وشرائحها الاجتماعية.
مقال ندى عرفات، من مجلة مدى مصر، وإن تناول بدوره قضيّة الهجرة الداخليّة، إلاّ أنّه ارتكز على العامل البيئي وسياسات الدولة في التهجير القسري للسكّان. يستعرض المقال قصّة قبيلة العبابدة في صحراء مصر الشرقيّة الذّين دفعتهم التغييرات المناخيّة في بادئ الأمر لتغيير أماكن إقامتهم بحثا عن الماء والمرعى، لتجبرهم الدولة مرّة أخرى على الرحيل من أراضيهم بدعوى مخطّطات التنمية والاستثمار. تحالف الطبيعة والسياسات العمياء للدولة أجبرتا العبابدة على ممارسة التنقيب عن الذهب والانغماس في أنشطة غير قانونيّة لتأمين أرزاقهم. بين الحنين لحياة أجدادهم، وشعورهم بالإقصاء والظلم من دولة لفظتهم وشرّدتهم ، تحاول ندى عرفات أن تنقل من خلال ما عايشته وسط العبابدة صدى معاناتهم الذّي تلاشى في الصحراء.
تنتقل بنا لاحقا سناء السبوعي من باب الماد، من محور دوافع الهجرة ومسبّباتها، إلى مغامرة الرحلة ومخاطرها. يعود هذا المقال إلى 11 فيفري 2011 و08 أكتوبر 2017، محاولةً المقارنة بين ملابسات حادثتيْ غرق لقوارب تقلّ مهاجرين غير شرعيّين من السواحل التونسيّة نتيجة تدخّل الجيش البحريّ التونسيّ. تغوص سناء السبوعي في ذاكرة الناجين من الحادثتين لتلتقط أوجه التشابه وأدوار مختلف الأطراف والتعاطي الحكومي ووزارة الدفاع بالأخصّ مع القضيّتين. لتفتح بابا آخر للتساؤل حول دور الجيش التونسيّ في حماية السواحل الأوروبيّة من أدفاق الهجرة في جنوب المتوسّط.
من ألمانيا، يتناول ياسين سويحات من جريدة الجمهوريّة، قصّة المهاجرين من محطّة الوصول. هناك، حيث يعيش أكثر من 700 ألف لاجئ سوري، تقلّ أعمار أكثر من نصفهم عن 25 سنة، يبحث المقال في قضيّة التعليم الجامعي للاجئين السوريين في ألمانيا عبر تسليط الضوء على قصص سوريات وسوريين توقّف تعليمهم في سوريا بسبب ظروف الثورة والحرب، ليتتبّع محاولاتهم لترميم واستئناف حياتهم الأكاديمية حيث توقفت، أو إعادة بنائها من جديد.
أمّا في الأردن، فيطرح عمّار أحمد الشقيري من موقع حبر، قضيّة العمّال المصريّين. إذ يسعى هذا التحقيق الميدانيّ إلى تلمّس تفاصيل حياة المهاجرين المصريّين الذّي يعمل معظمهم في أشغال البناء والبحث في دوافع الهجرة ومحاولة الغوص أكثر معاناتهم اليوميّة عبر الكشف عن واقعهم المعيشي والصعوبات الاقتصاديّة التي يعيشونها والتّي لم تستطع الهجرة أن تضع لها حدّا.
مقال جيني، من موقع ما شاء الله نيوز، تفتح قصّة الهجرة على فصل جديد، هو مرحلة تجميع الشتات. إذ يتناول هذا التحقيق ما يمكن تسميته بأرض اللقاء في السودان. حيث ما يزال هذا البلد لا يشترط على السوريين تأشيرات للدخول إلى أراضيه. من هذا المنطلق تتمحور الفكرة حول ظاهرة تنظيم السوريين الذّين شرّدتهم الحرب في أصقاع الأرض مواعيد للقاء وتجميع شملهم ولو مؤقتا في السودان لتجنّب تعقيدات منح تأشيرات الدخول التي تفرضها باقي دول العالم. كما ويسلّط الوضع على الصعوبات الاقتصاديّة التي يعاني منها السودان والتي طالت ارتداداتها اللاجئين السوريّين أسوة بالسودانيّين لتخلق تحدّيات ومصاعب إضافيّة في بلد يثور شعبه منذ شهور ضدّ النظام .
هربا من قسوة الطبيعة، أو سطوة الأنظمة أو الإرتدادات الكارثيّة للسياسات الإقتصاديّة الجائرة في دول المنشأ، أو حتى طمعا في رفاهيّة أفضل، تتنوّع سرديّات المهاجرين الذّين تناولهم هذا الملّف. لكنّ ما يميّز هذا العمل أنّ كتّاب المقالات لم يتعاطوا مع ظاهرة الهجرة كمجرّد أرقام أو بيانات جافّة ولم ينظروا للمهاجرين من ثقب الباب، بل دوّنوا قصصا حيّة اقتربوا منها وعايشوها عن قرب محاولين الحفر عميقا في دواخل من تحدّثوا إليهم لينقلوا بصدق ما استطاعوا، كمّ المعاناة والأحلام والخيبات التّي يختزنها المهاجر في صدره.
لقد تم إعداد هذا الملف في إطار نشاط مشترك قامت به “شبكة المواقع الإعلامية المستقلّة بخصوص العالم العربي”، وذلك في مجال تعاون إقليمي يشارك فيه كل من ”نواة”, ، “الجمهورية.نت” ، ”السفير العربي”، ”مدى مصر”، ”باب الماد” ، "ماشا الله نيوز”, ”حبر” ، مغرب إيميرجان و ”أوريان 21”.