تفيد الدراسة الرسمية الوحيدة حول الصحة النفسية بالمغرب التي أُجريت سنة 2005 والتي لا تزال أرقامها تعتمد لليوم، أن %48.9 من المغاربة فوق 15 سنة يعانون من اضطراب نفسي طفيف أو كبير. ومقابل ذلك يظل عرض العلاجات النفسية ضعيفا، سواء على مستوى الموارد البشرية المؤهلة أو على مستوى البنيات التحتية والطاقة الاستيعابية. وتؤكد تقارير رسمية أن متوسط الطاقة الاستيعابية لمستشفيات الصحة النفسية العمومية يفوق %100، بل يصل الاكتظاظ ليملأ بعض المستشفيات بنسبة 200% من طاقتها1، ما يعكس حجم الخصاص الكبير في الأسرة، التي لا تتجاوز 6.2 سريرا لكل 100 ألف نسمة، في حين يبلغ متوسط الأسرة في أوروبا 62.7 لكل 100 ألف نسمة. وحسب عمر بورام رئيس مصلحة الصحة النفسية بوزارة الصحة، فإن حوالي 85% من الأشخاص الذين يحتاجون للرعاية النفسية بالمغرب لا يتلقون أي علاج، ويعزى ذلك لأسباب مثل الوصم، لكن أيضاً لكون حجم خدمات الرعاية النفسية لا يلبي الاحتياجات الكبيرة.
القسم الأكثر تهميشاً لصحة عمومية مهمشة
وحسب آخر الأرقام التي قدمها وزير الصحة خالد آيت طالب أمام البرلمان في يناير/كانون الثاني الماضي، فإن إشكالية الأطباء النفسانيين بالمغرب مزمنة، ولن يتم تجاوزها على المدى القريب لوجود نقص حاد. فالعدد الإجمالي للتخصص في الطب النفسي لا يتجاوز2644، موزعة بين 418 طبيباً (منهم 247 بالقطاع الخاص، و171 بالقطاع العام)، و47 طبيباً متخصصا في الطب النفسي للأطفال، و1460 ممرضا متخصصا في الصحة النفسية والعقلية، و719 مساعداً اجتماعيا بالقطاع العام، ما يعني وجود أقل من طبيب لكل 100 ألف نسمة.
ويعزى هذا النقص لإشكالية خصاص الأطر في المنظومة الصحية المغربية عامة، والذي يقدر بحوالي 97 ألف طبيب وممرض في مختلف التخصصات، حيث لا يتمتع المغرب، حسب منظمة الصحة العالمية، إلا على حوالي 73 طبيبا لكل 100 ألف نسمة، وهو الرقم الذي يبلغ في فرنسا حوالي 332 طبيبا. فضلا عن كون قطاع الصحة النفسية غير جذاب، بسبب “الوصم” الذي يتعدى المريض ليطال الطبيب، والاعتداءات التي يمكن أن يتعرض لها هؤلاء من طرف مريض في حالة هيجان، دون حماية أو تأمين، وهو ما سبق أن تسبب في وفاة بعضهم، ما يدفعهم إلى التوجه نحو تخصصات أخرى أريح وأكثر مردودية مادية.
ويجمع المهنيون على أن المجال النفسي عرف إقصاء في السياسات العمومية، فوزارة الصحة لا تخصص ميزانية خاصة للصحة النفسية، رغم أن منظمة الصحة العالمية توصي بما لا يقل عن10% من ميزانية الصحة للجانب النفسي، ولا تتعدى النفقات العمومية على الصحة النفسية دولارين لكل شخص سنويا.
رحلة شاقة
هذا الوضع يجعل رحلة العلاج النفسي جد شاقة. فحسب الحالات التي تم الاستماع لها، لم تقو الكثير من الأسر على إكمال رحلة العلاج رغم بدئها، وأخرى لم تستطع بدأها بسبب بعد المستشفيات التي تبقى محصورة في مدن كبرى على رأسها الدار البيضاء وبرشيد وسلا وطنجة ومراكش.
وفي هذا الصدد، يقول علي لطفي، رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحق في الحياة، إن الأسر في كثير من الحالات تجد نفسها مضطرة لقطع مئات الكيلومترات للوصول إلى أقرب مستشفى للأمراض النفسية، لكنها غالبا ما تعود خاوية الوفاض بسبب غياب سرير، والمواعيد طويلة الأمد، في حين أن أسرا أخرى وبسبب بعد المستشفى لا تبدأ هذه الرحلة أصلا.
ويحكي “يونس” كيف أن أسرته ظلت تتجشم عناء الانتقال من مدينة القنيطرة (شمال الرباط) إلى سلا (أكثر من 30 كلم) طلباً لعلاج أحد أفرادها الذي يعاني من “انفصام الشخصية”، لكن، ورغم استفحال حالة المريض الذي بات يهدد نفسه ومن حوله بالقتل، إلا أن أبواب مستشفى “الرازي” ظلت موصدة في وجهه بمبرر عدم وجود أي سرير شاغر، ولكون المستشفى يشتغل فوق طاقته، لتعود الأسرة خائبة إلى بيتها، مثلها مثل أسر أخرى، تجر وراءها التعب والمعاناة. خاصة وأن ضعف عرض العلاج يفتح الباب على مصراعيه لأشكال من الفساد. إذ يروي يونس:
بعد جهد جهيد وسلك طرق مختلفة، تأتى لقريبي الحصول على سرير بمركز لمحاربة الإدمان بمدينة طنجة على بعد 200 كيلومتر عن المنزل. وحين ظننا أنها نهاية التعب، بدأنا معاناة جديدة، حيث كان بعض العاملين بالمركز يتّصلون بالأسرة عند بداية كل شهر للحصول على مبلغ مالي، خارج أي مساطر قانونية، تحت التهديد بتسريح قريبي المريض، ليضطر أحدنا إلى الانتقال لطنجة وتسليم المبلغ في إحدى المقاهي أو على قارعة الطريق، بعيدا عن الأعين.
“علاجات بديلة”
الصعوبات في الولوج للحق في العلاج داخل المستشفيات العمومية، قد تكون سببا في مآس أخرى، من بينها الانتحار والتشرد وارتكاب الجرائم واللجوء لطرق علاج خطيرة... ويقول علي لطفي رئيس الشبكة الصحية المهتمة بالصحة النفسية:
إلى جانب الوصم والعار الذي يدفع كثيراً من العائلات إلى عدم طلب العلاج الطبي، فإن ضعف المنظومة الصحية، يُعد أحد العوامل المشجعة على التوجه نحو الطرق التقليدية للعلاج النفسي، والتي تعتمد على زيارة الأولياء الصالحين والأضرحة، واللجوء للرقية الشرعية لإزالة أثر السحر أو استخراج الجن والقِوى الخفيّة التي تعتبرها الأسر هي السبب في الاضطراب النفسي، إلى جانب اللجوء لاستهلاك خليط من الأعشاب، أو الغسل، أو حمل معادن، أو اللجوء للطقوس العلاجية المعتمدة على إيقاعات موسيقية والرقص، أو تقديم الهدايا والذبح. في حين تلجأ أسر أخرى لسجن المريض بشكل دائم، أو يكون مصير هذا الأخير التشرد.
وبدوره، يؤكد محسن بنزاكور أستاذ علم النفس الاجتماعي أن هناك علاقة سببية بين صعوبة الحصول على علاج في المستشفيات، واللجوء للوسائل الخرافية التي تستمد شرعيتها من توارث الأجيال لحكايات تروي قصصا عن شفاء أشخاص كانوا يعانون نفسيا، وهي الحكايات التي تجد لنفسها موطئ قدم في ظل غياب حملات التحسيس والتوعية بزيف الوسائل الخرافية، ونسبة الأمية المرتفعة، وأن العلاج النفسي يحتاج لأطباء متخصصين. وهو ما يؤكده كذلك تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي.
الأضرحة.. ملاذ محفوف بالمحتالين
يضم المغرب ما يزيد عن 10 آلاف ضريح، جزء كبير منها، يزوره الناس لتحقيق طلباتهم، والتي يعد العلاج النفسي في محورها. وفي هذا الصدد اشتهرت عدة أضرحة بالمغرب، وعلى رأسها ضريح “بويا عمر”، وهو أشهر ضريح في المغرب، يقع على بعد 90 كيلومترا عن مدينة مراكش، كان يرتاده الناس قصد التداوي من جميع الأمراض النفسية، فتحول إلى سجن للمرضى. كان يوصف بـ“غوانتنامو”، بسبب ما كان يمارس فيه من صنوف التعذيب في حق المرضى النفسيين، إذ يتم حبسهم وربطهم بالسلاسل وتعنيفهم بشكل دوري، في محاولات لإخراج “الأرواح الشريرة”، قبل أن تغلقه السلطات في سنة 2015 بعد سلسلة من الفضائح والفظائع التي تسربت من خلف أسوار الضريح، مع تقديم وعود بعلاج وإعادة إدماج من كانوا فيه وبناء مستشفيات للصحة النفسية. وقد جرى نقل 795 مريضا منه إلى عدة مستشفيات، لكن سرعان ما تبخرت الوعود الحكومية وعاد هؤلاء إلى الشارع أو عادت بهم أسرهم لأضرحة أخرى.
وغير بعيد عن مدينة مكناس الواقعة على بعد 150 كلم شرق العاصمة الرباط، يقع ضريح “سيدي سليمان مول الكيفان”، وهو واحد من الأضرحة التي لا يزال يقبل عليها الناس قصد التداوي من الأمراض النفسية. حيث يسود الاعتقاد بأن زيارة الضريح والاستحمام بماء العين التي تقع بقربه، يشفي الشخص من “الجن العاشق” و“السحر” أو غيرها من التسميات التي تطلق على الأمراض النفسية من قبيل الاكتئاب، والفصام والوسواس القهري، والتي ترجعها إلى قوى غيبية، غالباً ما ترتبط بالجن.
وبمجرد الوصول إلى الضريح الواقع في منطقة شبه معزولة، تختلط الأصوات بين صراخ نساء يعانين من أمراض نفسية، وبين زغاريد وأهازيج تصلي على النبي، في طقوس يدعي ممارسوها أنهم يصرعون بها الجن الذي “تلبس المريضة لتخليصها منه”.
ولا يمر وقت طويل على وصول زوار جدد للضريح، حتى يسارع محتالون يمارسون “طقوس العلاج النفسي” ليعرضوا خدماتهم، ويتنافسوا على الحصول على الزبون – الذي قد ينتمي إلى أي طبقة اجتماعية- بادعاء أنهم يقدمون الخدمة بأفضل سعر، وأن النتيجة مضمونة.
ولعلاج الوافدين على الضريح، تنتشر بيوت صغيرة وخيم على جنبات الوادي الذي يقع أسفل “سيدي سليمان مول الكيفان”، تُستخدم كحمامات، حيث تدخل السيدة التي تطلب العلاج برفقة “مشرفات”، مهمتهن جلب الماء “المبارك” في دلاء من العين، والإشراف على عملية “الاستحمام”، والتي تصاحبها نوبات صراخ للمريضة، وزغاريد وأهازيج من طرف “المشرفات”. ويكون المرضى غالباً من النساء لكونهن أكثر عرضة للإصابة بالاضطرابات النفسية، بسبب استمرار مختلف أشكال التمييز وعدم المساواة ضدهن، وبسبب العنف الممارس عليهن، وارتفاع نسبة البطالة والأمية والهدر المدرسي في صفوفهن.
عبد الرحمان أحد المحتالين الذين يشتغلون في هذه الطقوس، والذي عرض علينا تقديم خدماته، قائلاً إن طقوس “العلاج” تتراوح بين يوم وثلاثة أيام، حيث يأتي الشخص المريض ليستحم، ثم بعد ذلك يصعد لزيارة “الولي الصالح”، وإذا أحس بعد العودة إلى منزله بأنه تحسن، فلا حاجة لأن يعود، وإلا فإنه يكون ملزماً بإكمال علاج الأيام الثلاثة.
وأكد محاورنا أن سعر “الخدمة” يبقى رهيناً باستطاعة المريض، رافضا تحديد مبلغ “العلاج” - لكن بمجرد انتهاء الطقوس، يطلبون مبالغ مالية ترتفع كلما ظهرت مظاهر الغنى على المريض -، وأكد أنه إلى جانب اقتناء البخور من الأكشاك المنتشرة على جنبات الضريح، يُستحب أن يذبح المريض ديكاً في الضريح أو أن يقوم بـ“صدقة” (وليمة) في منزله، كما يُفضل أن يعود الشخص الذي يرغب في إكمال العلاج إلى المبيت في منزله، حتى يأخذ معه “البركة”، ويطهره من “السحر” أو “الأرواح الشريرة” أو أي سوء يوجد فيه. وإذا كان المريض من مدينة بعيدة فإن خدمة الإيواء متوفرة، مقابل 100 درهم لليلة الواحدة (10 يورو).
وأكد عبد الرحمان أن العلاج في “سيدي سليمان مول الكيفان” مضمون، لكون “محكمة الجن الكبرى توجد فيه”، وأنه إلى جانب الأمراض النفسية، فإن للضريح “بركة” يحقق بها مبتغى السائل، أيا كان طلبه، بما في ذلك الزواج، وعلاج العمى والإعاقة..
ولا تتوقف خطورة اللجوء للأضرحة عند النصب. فقد كشفت دراسة حول الانتحار بإقليم شفشاون لجمعية أصدقاء السوسيولوجيا، ووكالة إنعاش وتنمية الشمال، أن مريضة سلكت أسرتها طريق الأضرحة، كان مصيرها الانتحار. ففي الوقت الذي كانت تعاني فيه من الاكتئاب، كانت أسرتها تنتقل بين الأضرحة معتقدة أن “مسًّا من الجن وراء ما يحدث للشابة”، فكانت النتيجة أن تفاقمت حالتها ووضعت حدًّا لحياتها، في نهاية مأساوية.
“الرُّقية”.. استغلال جنسي وابتزاز
وإلى جانب الأضرحة، يعد اللجوء إلى “الرقية الشرعية” من أشهر السبل التي يسلكها الأشخاص الذين يعانون من مشاكل وأمراض نفسية، وهو المجال الذي يعرف اتساعاً كبيراً لما يذره “الإتجار بالدين” من مردود مادي كبير. ولا أدل على ذلك الانتشار الواسع للرقاة بمختلف الأحياء، بل وحتى على المنصات الاجتماعية، التي تعد من أهم طرق جذب “الزبائن”. وإذا كانت “الرقية الشرعية” توحي بتلاوة آيات من القرآن وترديد بعض الأدعية على المريض، فإن الواقع يعكس تحول الأمر إلى باب للابتزاز والنصب والاغتصاب، بل إن مخاطر سلك هذا الطريق قد تصل بالشخص إلى حتفه.
ففي أبريل/نيسان2023، قضت محكمة الاستئناف بمدينة طنجة على “راق” بالسجن 10 سنوات، بعد إدانته بالنصب والشعودة واغتصاب ما لا يقل عن 9 نساء، وتصويرهن، حيث كان يعمد إلى تقديم قنينة ماء تحتوي على مواد مخدرة للضحايا، من أجل استغلالهن جنسيا مع تصوير أفعاله.
وقبلها في أكتوبر/تشرين الأول 2019، أدانت محكمة الاستئناف بوجدة “راقيا” من مدينة بركان بـعشر سنوات كذلك، بعد إدانته بتهمة الاغتصاب، في حق نساء كن يلجأن إليه من أجل العلاج، بعد أن كشفت أطوار القضية أنه كان يعمد كذلك لتصويرهن وابتزازهن بمقاطع مصورة، للحصول على المال.
وتحكي واحدة من ضحايا المشعوذين كيف أن سعيها إلى العلاج عن طريق الرقية الشرعية تحوّل إلى كابوس، وفاقم معاناتها النفسية، بل ومس كل أسرتها ومحيطها بعد تسريب شريط جنسي مصور كان يهددها به الراقي.
كما أن من أشهر الطرق التي يلجأ لها الرقاة في العلاج، تعريض المريض للضرب المبرح والتعذيب، بحجة إخراج “الجن”، وهي العملية التي تنطوي على عنف كبير، يصل في بعض الأحيان إلى القتل، كما حدث لسيدة في عقدها الخامس بمدينة الحسيمة، قضت نحبها متأثرة بجروح بليغة ناجمة عن محاولة لإخرج “الجن العاشق”، وهو نفس مصير عشرات النساء اللواتي أخضعن للتعذيب عوض اللجوء للمتخصصين.
1تقرير “الصحة العقلية وأسباب الانتحار بالمغرب”، المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، 2022.