معرض

يوسف عبدلكي، أجساد عارية في مواجهة الموت

يوسف عبدلكي، رسم امرأة عارية، 1916
© Youssef Abdelké, courtesy Galerie Claude Lemand, Paris.

“إنه حي، نحن الموتى!” يمكن لهذه الصرخة المدونة على ملصقة تعبيراً عن شهيد في الثورة السورية أن تكون عنوان كل رسومات يوسف عبدلكي. يأخذ العمل السوداوي للفنان التشكيلي السوري طابع شواهد القبور والتبليغ عن حالة الحداد من أجل تمجيد حياة من ماتوا. هذا الكاريكاتوري الذي أصبح فنان حفر ورسم، وهذا المنادي بالحرية أو الموت دونها جعل دوماً من فنه سلاحا عجيبا ضد العدم. سبق وأن سأل ألبير كامو “ما الإنسان المتمرد؟”. “إنه إنسان يقول لا. ولكنه أيضا الإنسان الذي يقول نعم، الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يرفض أن يكون ما هو عليه. فلكي يكون يجب على الإنسان أن يتمرد”.

عبدلكي المتمرد ضد الظلم وكل الانتهاكات للسلامة البشرية يجعل من قلقه بخصوص الموت طريقة جديدة للنجاة وللتنفس. يقول الفنان: “لا يمكنني تحمل موت أحد لأنه قال شيئا ما أو فعل شيئا ما على المستوى السياسي، لا شيء يستحق هذا العقاب. إنها مسألة وجودية في أعماقي تزلزلني كليا، وهي تذهب أبعد من مجال السياسة. كل شيء يمكن تصليحه باستثناء الموت”.

بعد أن تابع دروسا في الحفر بكلية العلوم الجميلة بدمشق حتى سنة 1976 سمح مشروع نهاية الدراسة للشاب يوسف (أيلول الأسود) ـ وهي محاولة لتقديم المجزرة التي تعرض لها الفلسطينيون في الأردن (سنة 1971) عبر الصور ـ ببروز فنان ملتزم يأخذ بالواقعية الاشتراكية كي يقلق تفاؤلها البهيج. زج بعبدلكي الذي كان معروفا بالتزامه مع حزب العمل الشيوعي في زنازين حافظ الأسد في سنة 1979 وقد دخل هذا الشاب النزيه وهو في الثامنة والعشرين نظام سجن شديد القسوة يهدف إلى كسر أرواح وعظام السجناء ويجعل من الصحراء السورية أرضا للنسيان. وبعد أن تم الإفراج عنه سنة 1981 اضطر الفنان ـ الجريح ولكن غير المكسورـ إلى الرحيل إلى المنفى بباريس حيث واصل تكوينه بمدرسة الفنون الجميلة بباريس حصل على شهادته سنة 1986. وفي سنة 1989 حصل بجامعة باريس 8 على الدكتوراه في الفنون التشكيلية.

وفي نفس المرحلة وتحت تأثير الرسم التعبيري الغاضب لفنانين مثل ديكس أو غروز أيام حكومة فايمر بألمانيا ـ وإن كان يشعر بنفسه أكثر قربا تشكيليا من العالم العبثي والمشاغب لسيغي ـ بدأ سلسلة طويلة من التلصيق الشديدة التلوين على الورق و تقنية الباستيل أعطاها اسم أشخاص.

أشخاص 2015

وهي تمثل بشكل مباشر وصريح ثلاثياً جهنمياً من الجلادين، كهاجس ملازم متكرر. ويتخلى الفنان فجأة وبصفة قطعية سنة 1995 عن الألوان لكي ينغمس في الظلام الأزلي للأسود والأبيض. هـذا المكافح الدائم من أجل طرد الموت، في الوقت نفسه الذي يبرزه فيه ، راح يخرجه من اللا معنى، من اللا شيء تقريبا، من غير المصنف ومن غير المرئي. ساعيا إلى “عبور الصمت والليل” الذي كان يرسمه جورج دو لاتور في خضم فظائع حرب الثلاثين سنة. يبكي التشكيلي السوري أرضه الحبيبة راسما بقلم الفحم طبيعة صامتة واقعية ذات حجم كبير ـ رأس سمكة مفصولة، عصفور ميت مع مدية مرشوقة بقربه على الطاولة، قلب مخترق بإبرة... ـ “كأنه في ضوء شمعة، مجرد شمعة بسيطة ترتجف في شمعدانها” كما يشير آلان جو فروا. بالنسبة للشاعر فابتداء من تلك اللحظة “لم يعد الأمر فنا بل تحول الموت إلى وجود حي. فسمكة عبدلكي ليست سمكة: إنها سهم، شعاع، تنفس، نداء مهموس للحياة. وحالما يصل إلى هذه النتيجة التي أسميها إنبعاث الحياة، فهو يتوقف فجأة”. وبعد أن حصل سنة 2005 على الإذن بالعودة إلى بلده بعد 25 سنة من المنفى الباريسي واصل الفنان سرياليته المفرطة في “إعادة إحياء” أشياء متفرقة، زارعا ميتافيزيقيته بحي قديم بدمشق. فاجأه تمرد الشعب السوري في مارس 2011 وهو الذي رفض دوما خيار السلاح ونادى بدولة علمانية ديمقراطية أصبح يشاهد عاجزا المجزرة ضد المواطنين والعسكرة المتنامية للمعارضة.

وأصبحت الشهادة حول ما يجري أمرا ضروريا بالنسبة إليه. لم يعد ممكنا تفادي الوجوه البشرية التي أصبحت تقتحم لياليه بروح أجسادها الهشة في شكل طبيعة صامتة لميتات غير طبيعية والتي أصبح إعادة بعثها هذه المرة غير مؤكد. سلسلة طويلة من الشهداء ملقاة أرضا بعيون ملؤها الدهشة وبأجساد ملطخة بدماء قانية، شهداء درعا، أب وطفل، أو أيضا سلسلة أمهات الشهداء التي تبدو كقرابين معزولة ومأساوية. قرابين بلا عرفان تأخذ الطابع البدائي للرسومات الاولى لأرشيل غوركي. وإذا كان موضوع الشهيد ليس بجديد في سورية فقد تغيرت طبيعته ومعسكره بصفة لافتة. يقول الفنان الشاب محمد عمران: “كبرنا مع فكرة أن الشهيد وصورة البطل هو الفلسطيني. خلال درس الرسم كان يطلب منا أن نرسم الشهيد كما نرسم جبلا”.

2014 “القديس يوحنا فم الذهب المدفون في دمشق”

بعد أن صور في المنفى عذاب الأشياء أراد عبدلكي لما عاد إلى بلده أن يصور عذاب البشر. لم يكن يتصور أنه قد يكون عذابه هو. وبعد أن نزعوا منه جواز السفر اعتقل مرة أخرى على يد نظام بشار الأسد في 2013 بسبب تمسكه “بنظام ديمقراطي تعددي” وبالمبادئ التي بدأت باسمها الثورة في مارس 2011. ولم يتم إطلاق سراح يوسف عبدلكي إلا بعد شهر نتيجة لحملة دولية مكثفة من أجل إطلاق سراحه.

فيم كان يفكر نحات الموت في سجنه؟ في السلام حتماً. ألم يُذكر أنه كان ينحت حمامات بفتات الخبز الذي كان يأخذه من حصصه اليومية في سجنه السابق؟ ولكن عندما نرى روعة رسومات الأجساد النسوية التي باشر بها عند خروجه من السجن بالفحم كأنها منحوتة في جسد الليل نتصور أن أفكاره مضطربة برغبات أخرى: الرغبة في جمال هارب من العالم والطرب السعيد أمام روعة النساء. ربما في لوحات العري هذه المفقودة يمكن قياس كل يأس الإنسان. فعلى مدى ثلاث سنوات وفي سر ورشته بدمشق قام الفنان برسم موديلات من أصول مختلفة، سوريات وأيضا سودانيات في مواضع بسيطة وطبيعية كأنها إضاءات حميمة تم انتزاعها من الواقع.

امرأة عارية 2015

من الجلسات القصيرة هذه ـ ساعة ونصف تقريبا ـ جاءت رسومات عري رقيقة تتخلل مساحات ضوء خافت ينتشر من مصدر خارج حقل اللوحة كما هو الحال كثيرا عند رامبراندت. هذه القامات الناعمة لنساء جالسات أو متربعات أو مستلقيات كجواري معاصرة تبدو دوما مشطوبة أو مخدوشة، مشطوبة بخطوط متقاربة ونقاط توحي بأسلاك شائكة تسجن وجوها تنتظر التعذيب والعار والدمار. كأن العاريات ينادين الأموات ـ وهذا ما سبق وأوحاه عبدلكي في عمله الملفت للمستلقي العاري القديس يوحنا كريسيستوم (أب الكنيسة اليونانية للمشرق الذي يوجد قبره، كما يتصوره هو، في مسجد الحسن بدمشق) في شكل مسيح نحيل ميت.

من المستحيل أمام الظهور المفاجئ لنساء التماثيل المنحوتة على الرخام ألا نفكر في حدائق التماثيل لجاك آباي ومسافره المتهور الذي يدخل إلى أراض غريبة حيث يتم زرع تماثيل بعيدا عن البرابرة. هي قصيدة للخيال واللاوعي ضد ما هو محتمل وضد السلطة المطلقة للمؤلف، فالكتابة القريبة من السريالية للفنان أيادي تبدو كأنها شقيقة للخط النباتي المرن والمنطلق لعبدلكي. ويشرح روائي الغموض هذا قائلا: “أنا لست أعمل على التحكم في الأشياء بل في التقاط التدفق”.

امرأة عارية 2017

وإن كان الفنان السوري مثل فراغونار في شخصياته الخيالية يمنح نفسه وقتا محدودا لتنفيذ رسمه أمام موديله، فهو يقوم بذلك على مرحلتين وفق نفس المبدأ للتدفق المكثف والملهم. فهو يبدأ بتخطيط سريع بالقلم للوجه الذي يريد إبرازه في بياض الورق في لحظات ذات شحنة إيروتيكية جديرة بالعين الثاقبة لإيغون شياللي. وعلى عكس البحث عن الفردوس لماتيس الذي كان يمحو الواقعية الفجة لرسمه الأول ليصل إلى تصور تخطيطي شبه روحاني، يقوم عبدلكي أولا بتجريد خطه المتأثر والرشيق قبل أن يعيد تجسيده لواقع حسي وصلب بحركات كبيرة لخطوط بألوان تقنية اللافيس، وهي قيم وظلال تسمح بإظهار كائن حي يتركه الرسام غير مكتمل بشكل مقصود.

سيكون من الخطأ الإندهاش كون عبدلكي الثائر الدائم يكتفي بتخطيطات لأجساد عارية بينما يموت أناس كثيرون على أطلال سورية الممزقة. سيكون ذلك إذا من الخطأ، لأن رسم العري في المشرق يشكل في حد ذاته عمل مقاومة. فإذا كان جيل أساتذته مارسوه خلال مرحلة تكوينهم في الثلاثينيات والأربعينيات في مدارس الفنون الجميلة الكبرى في العالم العربي ـ في القاهرة والاسكندرية، في بغداد وبيروت، في الجزائر ووهران وفي دمشق ـ لم يسمح أبدا لعبدلكي بإبداع طوطماته الخاصة لكي يتحدى هذا المحرم. أبعد من المرأة، يعمل الرسام على إبراز المرأة السورية ذات الثديين الثقيلين وذات العيون الفحمية في وهج دراماتيكيتها وجلال متعتها في أوراقه الليلية. لا فرق إن كانت السورية ذات بشرة بيضاء أو سوداء فتحت القنابل كل نساء سورية سوريات.

عبدلكي يرفض كل أشكال التلصص الشهواني على الأجساد، فهو يشيد بالأشكال المستديرة والشعر المنفلت لهؤلاء النساء الشهيدات في تشكيلات متناغمة وهادئة مثل نساء يمثلن النحت برمته ونساء يمثلن الحدائق، والتي يتعين إحاطتهن بالحب والرعاية. هؤلاء النساء السخيات يظهرن كرمز لقيادة الشعب كما في رسم الحرية في لوحة دي لاكروا يظهرن وهن ينهضن بقاماتهن كرمز رشيق وأبيّ يجسد سوريا نفسها.

امرأة عارية 2015