سينما

الجيش الإسرائيلي كمرآة للاحتلال

“فوكستروت” فيلم شموئيل موعاز · يُعرض فيلم فوكستروت لشموئيل موعاز يوم 25 أبريل/ نيسان 2018 بقاعات العرض الفرنسية مسبوقا بشهرة الفضيحة السياسية. فالفيلم الذي تم تقديمه في افتتاح مهرجان الفيلم الإسرائيلي بباريس في مارس/آذار أدى بالسفيرة الاسرائيلية بفرنسا إلى مقاطعة الجلسة واكتفائها بإرسال ملحقة ثقافية.

وهذا الفيلم الذي حصل على جائزة “الأسد الفضي” في مهرجان البندقية السينمائي، بعد أن توج بجائزة أحسن فيلم أجنبي من طرف “المجلس الوطني لمراجعة الأفلام”،1 مثل إسرائيل في جائزة الأوسكار دون أن يتحصل على جوائز. وبالمقابل فاز ب“الأوفير” وهي أهم جائزة سينمائية إسرائيلية.

هذه المكافآت والاستقبال الجيد الذي حظي به الفيلم من طرف الجمهور لم يرق لميري ريغيف، وزيرة الثقافة والرياضة في حكومة بنيامين نتنياهو والمتحدثة الرسمية السابقة للجيش الإسرائيلي. ودون أن تشاهد الفيلم،2 اعتبرت أنه يضرّ بصورة الجيش الإسرائيلي واصفة إياه “بجلد الذات” وبأنه “مساعدة لرواية التاريخ المعادية لإسرائيل”.

وقد اغتنمت الوزيرة الفرصة للإعلان عن إعادة النظر في طرق تمويل السينما الإسرائيلية حيث صرحت: “ينتهي الاتفاق بخصوص (تمويل السينما) في نهاية السنة المقبلة وأقول لكم من الآن إن الذي حصل لا يمكن أن يستمر. ستكون هناك مفاجآت لأولئك الذين يعتقدون بأننا سنخصص الميزانية ذاتها لنفس صندوق الفيلم”.

يوتيوب — الإعلان الرسمي لفيلم فوكستروت (2017).

احتجاج على الجيش

“فوكستروت”، ليس الفيلم الأول الذي أثار غضب السلطات السياسية في البلاد. فالسينما الإسرائيلية، إلى جانب إنتاج سينمائي سيطرت فيه النزعة الوطنية على نصيب الأسد، قد طوّرت أيضا نظرة منتقدة للجيش خاصة ضمن مدرسة “الحساسية الجديدة” (في إشارة إلى الموجة الجديدة الفرنسية).

فبعد الحرب الإسرائيلية العربية في سنة 1973 كانت إعادة النظر في أسطورة أخلاقية الجيش قد تحولت إلى تيار جارف، سواء كان ذلك عبر فيلم شاب في الواحد والعشرين من العمر، ياكي كوشا، الذي يبدأ فيلمه “شالوم، صلاة الطريق”(1974) بصوت خلفي يقول لنا: “أتريدون أن تعرفوا لماذا لسنا سعداء هنا؟ لأنه منذ خمسين سنة والحرب مستمرة ليل نهار، بحيث لا3 نرى بدايتها ولا نهايتها (...) أملي أن يرى الشباب ذات يوم الأمر الخاطئ في هذه البلاد”؛ وكذلك فيلم “تلة حلفون لا تجيب” (1976) لعاصي ديان (ابن الجنرال موشي ديان)، حيث يقوم المخرج بانتقاد لاذع لمؤسسة الجيش على الطريقة التهكمية لفيلم “ماش” لروبرت ألتمان. وقد أعاد الكرّة بعد ستة عشر سنة من ذلك غير أن الضحك انطفأ تماما في فيلم “الحياة وفقا لأكفا” حيث يظهر فيها الجنود ليس كعنصريين فحسب بل أيضا كمجرمين. وكانت الفضيحة مضمونة مسبقا للفيلم.

ينخرط شموئيل موعاز ضمن هذا التقليد الذي يأخذ الجيش موضوعا، إن لم يكن هدفا، ليواصل الطريق الذي بدأه في فيلم “لبنان” سنة 2011 حيث يحبس المشاهد داخل دبابة لمتابعة أحداث العدوان الإسرائيلي على لبنان سنة 1982. وقد تحصل هذا الفيلم على جائزة “الأسد الذهبي” في مهرجان البندقية.

وإلى جانب جيل جديد من السينمائيين، نجد بينهم إيليا سليمان وجوزيف سيدار وآري فولمان وآفي موغربي الذي لا يقهر، فهو يأخذ مكانته ضمن السينمائيين الإسرائيليين الذين يعيدون النظر في الحروب التي انخرطت فيها بلادهم والتدمير الذي تسببت فيه للفلسطينيين ويركز على الانحرافات السلوكية التي ولدتها لدى الجنود الذين شاركوا فيها.

مرآة إسرائيل

في فيلم فوكستروت نجد أنفسنا بعيدين كل البعد عن إنتاج الخمسينيات والستينيات مثل الأفلام الرمزية “التلة 24 لا تجيب” لتوروالد ديكينسون (1955) أو فيلم “لقد سار في الحقول” ليوسي ميلو (1967) حيث يتم تبرير الحرب ضد الفلسطينيين دون تساؤل باسم المثل الصهيونية.

ومنذ ذلك الحين حلت الخيبة. وهي خيبة لا تتعلق فقط بالجيش، بل بكل المجتمع الإسرائيلي وحياته السياسية الفوضوية وفضائحه المتكررة وعنصريته العادية والقاتلة، وبمنسيي التنمية الاقتصادية وبعدوانيته العسكرية الدائمة وإحساسه بالحصار الذي يؤدي به إلى تفويض السلطة إلى القوميين الأكثر فسادا والأكثر إفسادا.4

فتمجيد أو انتقاد العسكريين على الشاشة يعني تمجيد أو انتقاد إسرائيل في طريقة تسييرها وفي القيم التي تدعي أنها تجسدها. ذلك ما يؤكد عليه الباحث توماس ريشار، عندما يكتب على موقع ديبلو واب: "هذا التمثيل، من فيلم لآخر، يؤثر بصورة ثقيلة على الطريقة التي تنظر بها إسرائيل إلى نفسها، حيث يبدو جيش التجنيد العام كمرآة للدولة ونقاط قوتها وعيوبها. وهي دولة تجد نفسها على مدار الإنتاج السينمائي إما ممدوحة أو منتقدة كمثال وحشي مرفوض.

وعلى عكس النزعة الطبعانية العقيمة، يتبنى موعاز شكلية مقنعة مستعملا رمزية مأخوذة من مصادر سينمائية أو تشكيلية عدة (يستعمل فيكتور فازاريلي مثلا ل “تصوير” اضطراب شخصية ما) وهكذا يعرف كيف ينتج هذا الأثر العاكس الذي يجعل من الجيش مرآة لإسرائيل. وللوصول إلى ذلك اختار أن يعطي لفيلمه شكل المثل أو الأقصوصة. ففي كل اللقطات والتصرفات يتجاوز كلام وأفعال أطراف القصة المعنى المباشر ليدخل ضمن أمر أوسع يمكن تلخيصه في هذا السؤال البسيط: “ماذا أصبحنا؟” أو بصفة أكثر بساطة: “أي سبيل سلكناه لنجد أنفسنا في هذا الطريق المسدود؟”

حياة بائسة في نقطة تفتيش

وهي أسئلة تحملها حفنة من الجنود يحصرها شموئيل موعاز في نقطة تفتيش بين شاحنة صغيرة معطلة - يظهر عليها الوجه الساذج والمبتسم لشقراء تستمتع بقمع مثلجات (هل هي إشارة أيقونية لفيلم “مقهى بغداد؟”)- وبين خزان ماء رمادي. وهم عسكريون مجندون لثلاث سنوات، في العشرين من العمر أو أقل، يتساءلون عما يفعلونه هناك وهم يلتهمون قصصا من الماضي لأن حاضرهم أصبح خاويا وبلا طعم ومستقبلهم كئيب. ولكي يقنع نفسه بأنه مفيد يحاول أحدهم القول بصفة خجولة “أنا أقاتل”، وهي مقولة يسخر منها على الفور زميل آخر.

هؤلاء المجندون المتخبطون في وحل الأمطار والشاعرون بملل كبير وهم يستمعون إلى راديو متقطع البث، والذين يقفل عليهم مساء في ملجأ هو المطعم والمرقد، يميلون أكثر فأكثر نحو الهاوية ( لا يمكن للرسالة أن تكون أكثر وضوحا) وهم يقومون بأداء الدور السخيف لحراس يتم زرعهم على حافة طريق تبدو أنها تضيع في أرض مجهولة وبالتالي خطرة.

وبالفعل، فكل الذين يأتون من هذه الطريق هم مشبوهون مسبقا. كل ذلك يجري في ديكور ذي أفق مبتور ومشهد شاحب لنهاية العالم يذكّر في نفس الوقت بأفلام “ستالكر” لأندريه تاركوفسكي و“ماتريكس” للأخوة واتشوفسكي. هو مكان لا يستحب أن نقذف فيه، مكان حيث كل شيء يمكن أن يحصل فيه بما في ذلك أن يظهر جمل معزول يعبر “الحدود” بخطى متثاقلة ومع ذلك قد يكون أداة القدر.

يجري فيلم“فوكستروت” في عالمين يفرقهما كل شيء، الأول مريح ومطمئن في كنف عائلة برجوازية من تل أبيب، يأتيها عسكريون حاملين إليها نبأ وفاة ابنها إثر انفجار لغم. كان رد الفعل المتوقع هو الفزع والتمزق والألم والغضب. بينما يوجد العالم الآخر بالتحديد في نقطة التفتيش، في نهاية العالم، معبرا تماما عما شعر به الصحفي والكاتب، دايف ايغرس، وهو يجتاز الحواجز التي لا تحصى والتي تعفن حياة الفلسطينيين وتحمل في طياتها إمكانات قاتلة:5 “في كل الضفة الغربية اجتزنا نقاط تفتيش على الطريق. سيارتنا التي يمكن رؤيتها من مخيمات اللاجئين فتشت من طرف جنود بالزي العسكري الاسرائيلي وهم بالكاد خرجوا من سن المراهقة. وهؤلاء الجنود الذين بالكاد يملؤون البزة يبدون سئمين أو مرعوبين. وكما هو حال كل الشباب في عمر التاسعة عشرة أو العشرين، فهم ميالون إلى اللاعقلانية وتقلبات المزاج والشك. في حالات كثيرة من تجاوزات الجيش تمتزج قواعد العمل ـ التي هي أصلا غير إنسانية مرتبطة بحالة الاحتلال ـ بالنزوات: جنود شباب يتخذون قرارات سيئة”.

قرارات سيئة لم يكف “يوناطان”، البطل رغما عنه لفيلم فوكستروت، ورفاقه عن اتخاذها. والمثال على ذلك هو الإهانة التي اقترفوها ضد زوج من الفلسطينيين كانا في طريقهما إلى حفل زفاف حيث يُجبِرونهما على النزول من السيارة ليتركوهما تحت المطر حتى تبتل ملابسهما وتتلف زينة المرأة وتسريحتها ويتم تحقير الرجل الذي لم يكن قادرا على حماية رفيقته. وليست هذه اللحظة الأكثر دراماتيكية في القصة.

فالأسوأ سيحصل خلال لحظة، لحظة فقط، كان يمكنها أن تجعلنا نؤمن بأن الإنسانية عادت. ولكن يحيا من جديد النزاع وتكلفته من المصائب الفردية والجماعية. ويتمثل ذلك في تجاوز يتم تغطيته، بل دفنه بأتم معنى الكلمة، كما تعمل إسرائيل بتشجيع من قادتها السياسيين أمثال ميري ريغيف التي تحاول دفن كل آثار ونتائج هذه الحرب التي لا تعلن عن اسمها، وهذا النزاع الذي لا ينتهي والذي ضحاياه دون أدنى شك هم الفلسطينيون أولا، كما تؤكد ذلك عمليات القتل التي حصلت مؤخرا ضد مظاهرات سلمية لسكان غزة المطالبين بحق العودة.

رقص في حدود الصالون

يبدو هذان العالمان كأنهما يجتمعان في نهاية الفيلم. تستعيد عائلة تل أبيب الأمل نتيجة لخطإ في هوية المقتول ولكن عندما يعود الزي العسكري يفرض نفسه من جديد على العائلة، تأخذ آلهة القدر حقها وتعود هكذا المأساة التي اعتقد أنه تم تجنبها لتأخذ مداها بكل قساوتها. فقد أصبح من غير الممكن بصفة نهائية على سكان البيت الجميل الحديث بتل أبيب تجاهل ما يحدث وراء “الخط الأخضر”.6

فموعاز لا يجعل نفسه أبدا فوق شخصياته ولا يعطينا أية مسافة تجاه مشاكلهم ومشاجراتهم وشكوكهم. ويولد هذا القرب عاطفة من دون أن يغمرنا التعاطف إلى حد إلغاء قدرتنا على الحكم. وهو عمل يؤديه بدقة وبدون ضعف. وإذا جعلنا عنوان الفيلم نتساءل، فحل اللغز يظهر جليا للعيان عندما نرى جنديا يصرعه الخمول. يهز بندقيته الهجومية كدمية لينطلق في استعراض سخيف للفوكستروت، التي هي رقصة صالون ميزتها أنه يمكن أداؤها في مجال ضيق وعبر تحركات متتالية تتم العودة إلى نفس مكان الانطلاق. والقصة المعبرة دائما موجودة: فإسرائيل، على الرغم من تصريحات ساستها تراوح مكانها بالرغم من أنها تعمل جاهدة على إعطاء الانطباع عبر إيماءات بأنها تتحرك وتتقدم. إنه موقف جامد له آثاره الأليمة على شبابه وعلى أولئك الذين عليه أن يعيش بسلام معهم بدل من أن يخشاهم إلى حد اعتبار قنينة صودا قنبلةً يدوية منزوعة الغطاء وإطلاق النار.

1المجلس الوطني لمراجعة الأفلام (NBR)، مؤسسة أنشئت سنة 1909 بنيويورك احتجاجا على سحب تراخيص أفلام من طرف رئيس البلدية آنذاك جورج برينتون ماكليلان جونيور. ومنذ 1929 يمنح كل سنة جائزة المجلس الوطني لمراجعة الأفلام لأفضل أفلام السنة.

2في سنة 2016 غادرت الوزيرة حفل توزيع جوائز الأوفير احتجاجا على قراءة قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش. ولم تتم دعوتها في سنة 2017 من طرف المنظمين.

3آريال شويتزر، السينما الإسرائيلية في الحداثة، دار لامارتان 1997. (بالفرنسية)

4يقول إفراهيم حاليفي، المدير السابق للموساد في جريدة تايمز أُف إسرائيل في 28 مارس 2018: “أعتقد أن شيئا مؤسفا للغاية حدث عند مسؤولي إسرائيل (...) هناك خلل كبير في النظام السياسي يجعل التصور بأن كل ماهو ليس محرما بقانون هو كوشر”حلال".

5دايف ايغرس، مملكة الزيتون والرماد، دار روبير لافون 2017. يتعاون دايف إيغرس مع نيويوركر، نيويورك تايمز والغارديان.

6خط وقف إطلاق النار (الذي رسم بالقلم الأخضر ومنه أخذ اسمه) على خريطة عسكرية في سنة 1949؛ وهي تسمى أيضا (حدود 1967" وماتزال المرجع حيث ذكرها مجلس أمن الأمم المتحدة (اللائحة 2334 ل 2016) لرسم الحدود بين إسرائيل ودولة فلسطين المستقبلية.