طاب مساؤكم إسمحوا لي أولاً أن أعرب لكم عن امتناني لهذا الشرف العظيم الذي أسبغ عليّ كما أتوجه بالشكر الى دار النشر غاليمار ورئيسة التحرير ماري فرانس غراس ديو والمترجمة سارة غرسل. لقد كان التعامل معها في مجال الترجمة متعة حقيقية وتحدٍّ فكري متميز ومن الواضح أنها حافظت على حيوية النص الأصلي.
ومنذ الإعلان عن منحي الجائزة طرح السؤال حول ما إذا كان يجوز اعتبار رواية صادرة بالإنكليزية من روايات الوطن العربي. عندما بدأت أكتب الرواية عام 2014 لم أكن أدرك تماماً ما كنت أقوم به، وكل ما كنت أعرفه هو أن علي أن أكتب شيئاً ما عن السنوات الثلاث التي قضيتها في القاهرة وأن أكتب ذلك قبل أن أنسى. ومع مرور الوقت اتضح لي أنني بصدد وضع رواية هدفها ترجمة الواقع ونقله الى القارئ والعالم الخارجي والمستقبل . لم يكن ثمة حاجة لكتابة موسوعية للتاريخ بل كان يكفي أن أتابع مجراه في تعرجاته النفسية والعاطفية.
ولم يكن لدي خيار آخر غير الكتابة بالإنكليزية وقررت ألا أقوم بترجمة ما كان في نظري الى حد بعيد تجربة “عربية” خالصة ترجمةً حرفية بل أن أفسح المجال للهجة العامية الإنكليزية. كان لا بد للحوار أن يتسم بالحيوية والروح العصرية المتداولة في المدن - وبالتالي حاولت - وأرجو أن أكون قد وُفّقت- أن أضع حواراً لشخصياتي بلغة محكية تشابه أسواق القاهرة ومقاهي لندن معاً...
ولعل أي شخص عاش في عدة أماكن وتحرك بين بلدان المستعمِر (بكسر الهاء) والمستعمَر (بفتح الهاء) يقوم بمثل هذه العمل. أي عمل الوسيط بين طرفين، المترجم الذي يُعنى بتفسير الكلمات لمكافحة سوء التفسير والاستشراق والبنية الثقافية للاقتصاد الحديث في إمبريالية الشمال. كان الخروج من هذا المسار المعهود من أكثر مظاهر التحرر في الثورات العربية. حيث لم تعد “الترجمة” الى عالم الشمال مسألةً حيوية، للمرة الأولى. كان الانطباع في مصر أن الثورة ستنجح أو تفشل داخل الحدود الوطنية. لم تكن مصر للوهلة الأولى رهاناً في لعبة جيوسياسية كبرى. كان النزاع محلياً. وكان دوري داخل النزاع محلياً أيضاً.
ومع مجموعة من الأصدقاء أنشأنا وسيلة إعلام نضالية. رحنا نوثق كل ما يحدث في الشوارع وننشر بانتظام الأشرطة المصورة على الإنترنت. كنّا جزءاً من حرب إعلامية يستطيع فيها شريط مصور من نوعية جيدة أن يدفع الناس بكل بساطة الى الشارع. أصبح العنف حجر الزاوية في عملنا. عندما تزعم الدولة أنها لا تقتل مواطنيها، يكون لتكذيبها فائدة سياسية جمّة.
إلا أن السيسي قام بتغيير تام لهذه الصورة. فلقد تم البث المباشر على التلفزيون لمذبحة رابعة التي سقط ضحيتها 900 من أنصار الرئيس المخلوع محمد مرسي. وكان الهدف من إبرازها على الملأ نشر الرعب بين صفوف المواطنين. لم يعد الهدف إنكار عنف الدولة بل تضخيمه.
وأصبحت المعركة عالمية.
أصبح السيسي اليوم موضع احتفاء من قبل المجتمع الدولي، يحظى نظامه على دعم مالي من السعودية والإمارات، وقد عقد حلفاً استراتيجياً مع روسيا التي يشتري منها الأسلحة وبرنامج لمحطة نووية، كما ابتاع لنفسه غطاءً سياسياً من فرنسا وألمانيا عبر صفقات الأسلحة ومحطات الكهرباء. ولقد أصبحنا طرفاً في اللعبة السياسية الدولية وأصبحت العلاقات الاستعمارية لدينا أكثر قوة وتبعية مما كانت عليه قبل إزالة الاستعمار.
إلا أن دور المترجم، المُتنقّل بين لغتين ومكانين قد تغير في العمق. فمع انتخاب دونالد ترامب استفاق العالم على واقع كان يعتمل منذ زمن بعيد: راح البلد تلو الآخر يشهد اختطاف اليمين لمقاليد السلطة وترسيخ نظام دولي جديد من النخب الفائقة الثروة.
هذه الظاهرة يشار إليها في وسائل الإعلام بعبارة “أزمة ديمقراطية”. وتُعزى هذه الأزمة الى العنصرية والقبلية والجهل والتضليل الإعلامي والهجرة العشوائية. لكن أياً من هذه التفسيرات لا يساعد على فهم ما يجري. والحقيقة أن هناك أزمَتَيْن متوازِيتَيْن عبرتا تاريخ الديمقراطية الليبرالية. الأولى تتمحور حول مفهوم الانتخاب الشعبي العام ، حيث كان على فئات عديدة -كالنساء والعبيد والمستعمَرين (بفتح الميم) وناقصي التعليم والفقراء- أن تكافح من أجل نيل حقوقها، حتى تصبح من المسلّمات. الثانية تتمحور حول العلاقة برأس المال، حيث من المفترض أن تضمن الثروة الحماية من الاستبداد. وأصبح هناك تداخل بين مفهوم اكتساب الحرية ومفهوم اكتساب الثروة.
ثمة التباس في اللغة الإنكليزية في كلمة “ليبرالية” . فهل الديمقراطية الليبرالية نظام تقدمي وأخلاقي يحظى بموجبه كل عضو في المجتمع بالقبول والتمثيل النيابي؟ أم أن الديمقراطية الليبرالية هي نظام مضاد للتوريث يضمن الإنصاف الاجتماعي عبر المنافسة المفتوحة للأسواق؟ لقد كان هذا الإبهام في صميم المشروع الاستعماري: تحت راية “التقدم” فُتحت أسواق جديدة بعنف رهيب.
كان مبارك في مصر الطاغية الأمثل بالنسبة للاستعمار: تفكيكٌ للصناعة وإزالةُ للقيود القانونية وتحريرٌ للأسواق في البلاد الى درجة الانهيار. وفِي السنوات القليلة التي سبقت 2011 كانت المنظمات المالية الليبرالية العالمية تكيل له المديح في حين كانت فقاعات الاقتصاد الوهمي الخادع تتفاقم حتى انفجرت على شكل ثورة. لقد حملت الثورات العربية في نَشْوتها تصوراً بأنها ستكون تصحيحاً لمسار التاريخ. ساد الاعتقاد بأن الدول التي عانت أكثر من غيرها في العالم من الاستعمار الحديث هي التي ستتمخض عن فجر جديد. بالنسبة لجيلي كانت كل التجارب المعاصرة هي تجارب فشل: اجتياح العراق والاستعمار المستمر في فلسطين والانهيار الاقتصادي عام 2008 وما تلاه من خيبات الأمل بشأن أوباما. كان الأمل معقوداً على ألا تكون الثورات العربية بدورها هزائم. بل أن تعيد استنباط مفهوم جديد للديمقراطية، ديمقراطية لا تحتاج مستعمرات لأسواقها، ديمقراطية لا تحتاج حدوداً لمواطنيها، ديمقراطية مبنية على مبادئ كونية هي “الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية” لا على الرمال المتحركة للنظريات الاقتصادية. أَنَعْجبُ أن تتخذ القوى العظمى، وهي المستفيدة الأولى من هذه الأوضاع، موقفاً مضاداً لنا منذ البداية؟ أَنَعْجب أن يكون السيسي موضع احتفاء من العواصم الكبرى من واشنطن الى موسكو، بصفته ضامناً “للاستقرار”؟ ليس التاريخ سلسلة من أحداث النصر أو الهزيمة. هو بالأحرى نهر يتضخم ويفيض أو شلال متدفق يغمرك فجأة أو مياه راكدة لا نعرف في أي اتجاه تسير. هذا الكتاب وُجد لتسجيل زمن ظهر فيه المستقبل قاب قوسين أو أدنى. وتمت كتابته بعد أن ضاع هذا المستقبل، على أمل أن يعود إلينا يوماً ما.
لنَعد الى موضوع أزمة الديمقراطية.
أعتقد أننا نعيش حالياً ما هو أكبر من أزمة ديمقراطية. لقد كان التقدم على الدوام هو القوة المحركة للحضارة. يبني البشر ويخططون من أجل غدٍ سيكون أفضل من الأمس. نحن جيل لم يعد في هذا السياق. ولا أقصد جيل مصري وحده بل جيل عالمي يواجه أزمة من اليأس السياسي والتقشف الاقتصادي.
نعيش اليوم في عالم تمحو فيه تقنيات الاتصالات الزمن وينفي فيه الطيران المسافات وتلغي فيه التكلفة البيئية للرأسمالية المستقبل بحد ذاته.
ليست مجرد أزمة ديمقراطية هذه التي نعيشها. بل نحن بصدد أزمة تطال غاية الجنس البشري من الوجود.
وبما أن الأزمة ولدت من فشل الديمقراطية - فعلينا أن نجد الحل داخل الديمقراطية نفسها. علينا أن نخلّصها من التناقضات التي سمحنا لها بالاستيطان داخلها لزمن خلى. علينا ألا نقبل بعد الآن بحكومات تتبنى خطاب الليبرالية الأخلاقية كواجهة لعملية النهب الاقتصادي.
لقد كانت فرنسا لفترة طويلة من الزمن المورد الرئيسي للأسلحة في مصر. كما كان لسيارات “رينو شيربا” الفرنسية دور حاسم في مجزرة رابعة.
ما من دولة ازدادت مبيعاتها من الأسلحة منذ المجزرة كما ازدادت مبيعات فرنسا. بل أن مصر أصبحت تشتري من فرنسا أسلحة أكثر مما تشتري من الولايات المتحدة الأميركية نفسها. وهو الأمر الذي يتناقض تماماً مع القانون الأوروبي الذي يطالب الدول الأعضاء “بأن تمنع أي ترخيص لتصدير للأسلحة في حال وجود خطر باستعمال التقنية أو التجهيزات العسكرية في عمليات قمع داخلية”. هذا النفاق ليس أمراً جديداً للأسف الشديد. فهو استمرار لازدواجية المعايير التي طالما كانت سارية بين المستعمِر (بكسر الميم) والمستعمَر (بفتح الميم). أما الذرائع المستخدمة اليوم فهي “خلق فرص العمل” و“الحرب على الإرهاب” والمسعى المستديم “للاستقرار”.
ولكن الاستقرار لا يتحقق إلا مع العدالة.
وفِي حقيقة الأمر فإن المسافة الفاصلة بين المستعمِر والمستعمَر لم تعد موجودة.
كانت المستعمرات على الدوام حقل تجارب لتقنيات السيطرة التي يمكن نقلها بعد ذلك الى الوطن الأم. فسواءً أتعلق الأمر بالقصف الجوي لأثيوبيا أم باختبار الليبرالية الجديدة في التشيلي في عهد بينوشي أم بالسوق الدولية المزدهرة لمنتجات التجسس الاسرائيلية وتكنولوجيا الطائرات دون طيار (“درون”)، فإن هذه التجارب التي تُجْرى على ما يسمى ب“الأطراف” في العالم لا تبقى أسيرة الأطراف.
في المستعمرات يجري التحضير للمستقبل حيث يُجرّب وتُحسن نوعيته. قد يكون أسطع مثال على ذلك اليوم هو وكالة الإنترنت “كيمبريدج أناليتيكا”. فلقد برزت على الصعيد الدولي مع انتخاب دونالد ترامب: ولكنها طوّرت لعبتها خصيصا في جزر ترينيداد وتوباغو.
لم يعد هناك “أطراف” . فالعالم بات شديد التواصل من كل جانب. ولم يعد دور المترجم الثقافي أن ينقل معلومات من لغة الى أخرى، من الهوامش المستعمَرة (بفتح الميم) الى مركز الأسواق المستعمِرة (بكسر الميم) بل أصبحت مهمته هي توليف الصراعات المحلية ودمجها في فهم مشترك للصراع الرهيب المفروض علينا جميعاً ضد نخبة تزداد عولمة يوماً بعد يوم، صراع بين اليمين واليسار شهدته كل مراحل التاريخ. الكفاح من أجل الديمقراطية في مصر هو نفسه الكفاح من أجل الديمقراطية في فرنسا. علينا جميعاً أن نواجه هذه الأزمة ونسعى لديمقراطية جديدة، منعتقة من عبودية السوق ومتحررة من تخوم الإمبراطورية. هذا هو التحدي أمامنا. هكذا نستعيد غايتنا مجدداً.