يولا خليفة. تصبحون على وطن

بمناسبة صدور المجموعة الرابعة من أغاني يولا خليفة، في القرص المدمج الأخير، “في الطريق”، نتوقف هنا برهة عند عالم الفنانة الذي يشكل وطناً موسيقياً فريداً من نوعه، تتناغم فيه الأشعار والأصوات والألحان .

يولا في حفلة غناء في معهد العالم العربي في باريس في 2015
IMA

لفترة طويلة من الزمن اكتفت يولا خليفة بالغناء في فرقة ميادين، في الحفلات التي يحييها الموسيقار والمغني مرسيل، الغني عن التعريف، قبل أن تقرر يوماً ما “التغريد خارج السرب”، فجاء حضورها مفاجأة رائعة لجمهور الفن. وأنتجت منذ ثماني سنوات أربع مجموعات متتالية :“على الطريق” هي المجموعة الرابعة، بعد“آه” في 2011، تلتها “آه ...آه” في 2013، ثم “هواك” في 2015.

غريب أمر لبنان، كيف يُبدع هذا البلد في التوليف ما بين الشرق والغرب في الموسيقى، توليفاً يبدو بعيد المنال في السياسة. فبغض النظر عن السيدة فيروز، التي ما زالت منذ عقود ودون منازع أيقونة التناغم الشرقي الغربي، والتي تغنّت بلبنان بنفس اللهفة التي وهبتها للتراث العربي ، كثيرون هم الموسيقيون كمرسيل خليفة وزياد ملتقى وإبراهيم معلوف، أو المغنون كتانيا صالح، على سبيل المثال لا الحصر الذين أبدعوا في هذا التقاطع الخصب بين المزاج الشرقي والغربي. في هذه المجموعة الجديدة التي تحمل عنوان “على الطريق”، تتآلف الآلات الشرقية كالقانون والعود والدربكة، مع الكمان والتشلو والأكورديون والبيانو. وتنسج الموسيقى الإلكترونية وشائج حميمة مع أصوات الكورس البشرية.

إلا أن التناغم الذي يسكن هذه الأغاني يبقى متقلباً معرضاً للانقطاع كخيطان من الحرير: غالباً ما ينطوي الفرح فيها على حزن دفين، رغم كون الحنين خفيفاً كمنديل في النسيم، كما في الفيلم الذي يقدم أغنية “اكتبني”، الفيلم الذي يبهر المشاهد بحضور الطبيعة اللبنانية، لبنان المذهل بقممه الشامخة ومياهه الصافية، لبنان الحلم الذي ما زال يراود خيال شعبه، وقد يكون أحياناً واقعاً ملموساً، في بعض البقع النائية التي لم يَطَلْها بعد جنون البشر.

Ktibni-اكتبني - YouTube

تبدو الأغنية الأولى هذه، “كتبني”، وكأنها فعل إيمان في “احتمال وطن”، ذلك الوطن الذي كان في أعين الآخرين، في ماض ليس بالبعيد، رمزاً لبهجة الحياة وللحرية، وبات اليوم منكباً على تضميد جراحه.


اكتبني بوح البوح من فوق جبل مفتوح
على شط بحر بعيد بغازل المواعيد (...)
اكتبني شجرة توت للحزن ظلايا وارسمني فرح بيوت
وارقص كده معايا تتبدل الأحزان يسكن ما بيننا غرام تنساني دمعايا

من كلمات الشاعر المصري نفسه، سمير سعدي، تأتي أغنية “لو سافرت”، مقطوعة شرقية بامتياز بأنغامها الراقصة على إيقاع “المقسوم”، الإيقاع الأكثر شعبية في الموسيقى العربية. ومع ذلك فهذه الأغنية، شأنها شأن سائر الأغاني، تحمل شيئاً من الشجن:


لو سافرت بعيد حبيبي سيب لي عالشباك هواك سيب لي غنوة
سيب لي ضحكة سيب لي كلمة يمكن أقدر بيها أتنفس هواك
(...)
لو سافرت بعيد حبيبي سيب لي في الوحدة غناك

لا شك أن السياق اللبناني يضفي على عنوان المجموعة وموضوعها “على الطريق” جواً خاصاً من الأسى، فلبنان له مع الهجرة تاريخ طويل، من الهجرة الراحلة التي جعلت المهجر يبلغ أربعة أضعاف أعداد المقيمين في لبنان، الى الهجرة الوافدة التي رحب بها على أراضيه وتبلغ اليوم ثلث سكانه. وبالتالي فالأغاني أبعد ما تكون عن رحلة سياحية ...هي بالأحرى وقفة تأمل عميق في الرحيل والعودة والفراق والغياب. ثيمة الغربة تخيم على العمل بأسره.

ففي أغنية “من أنا” من كلمات الشاعرة مريم الحيدري، ستجد الحيرة بين الرحيل والاستقرار:


ولست إلا من تضع في الحقيبة
رجاءً طرياً
وتعود الى الشمس الكبيرة
تتبعني وتتبعها شمس أخرى
وأسير تحتهما، خفيفة ومنظورة من بعيد
مثل نبتة مبهمة ولا يعرف العابرون
إن كنت مقيمة في المدينة أم في الطريق

وفي أغنية “الرحيل” التي كتبتها يولا عن أسرتها، المؤلفة من موسيقيين رحالين، تجد حتمية الفراق كامنة في قلب اللقاء نفسه :


عام آخر مضى، التفوا حول المائدة وحولي.
استعدت طفولتي وطفولتهم
شكرت السماء، ومضيت أرصد الغياب الآتي
وأغرف من اللحظة ثناياها كي لا أنتبه للرحيل

وفي أغنية “الك”، بكلمات الشاعر ميشال أبو رجيلي الذي عاش مأساة قتل والديه على أساس طائفي في الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 تجد الحسرة على غياب الأحباء، والحنين الى ذكراهم. والأغنية رثاء رقيق في والدة الشاعر:


الك،الك، لصوتك
لوجك اللي ما شفته زمان
الك، لكيانك، للقلب اللي ما عرفته وكان،
الك في عندي غنية بغنيها يومية

في هذه المجموعة كما في الأعمال السابقة يبقى شبح الحرب ماثلاً، ولو بدرجة أقل مما كان في أغنية “في جناحي”، من الألبوم الثاني ، أغنية مؤثرة لا تبرح الذاكرة، تُسمعنا صوت الطفل الذي سرق “مشمشة وكرزتين”، “الطفل الوحيد لملايين النساء”، طفل الحروب اللامتناهية في الشرق المنكوب، يردد على مسامعنا بالعربية ثم بالفرنسية تلك الكلمات الرهيبة التي تصيبك في الصميم:

“خانتني الملائكة يا أمي. لم تحمني، كما كنت دوماً تقولين”..

إلا أن الإشارة الى الحرب ترد هذه المرة بشكل غير مباشر، في تورية، عبر أغنيتين، كل واحدة منهما “قصيدة من سطرين” (حسب عبارة لمحمود درويش في أحد أشعاره). كلماتها بسيطة للغاية، بساطة مقصودة تصبو الى جوهر الأشياء. وقد تبدو الكلمات ساذجة لولا أسلوب يولا الفريد في التعامل معها: فتلجأ الى تكرار الكلمة نفسها بنبرات مختلفة، تستخرج منها كل العِبر والمعاني الكامنة فيها. تترنم بها أو تهمسها همساً، أو ترتلها ترتيلاً، أو تصدح بها عالياً، أو تجعلها صدى بعيداً خافتاً. فتمنحها قوة تعبيرية بليغة

الأغنية الأولى بين هاتين الأغنيتين المَجازيّتين هي من كلمات الشاعرة السورية مهى بكر “يا حب”.


قل لهم يا حب،
لِمَ على السماء تقتتلون؟

الأغنية الثانية، “السلام”، من كلمات الكاتب اللبناني الكبير جبران خليل جبران الذي أمضى معظم حياته في المهجر:


الله ما أبهاك أيها السلام
وما أجملك

تبدأ الأغنية وتنتهي بأصوات بعيدة لأجراس كنائس، توحي بها آلة البيانو، فتولد أصداء متناثرة تزيدها الموسيقى الالكترونية امتداداً ورنيناً. ثم تأتي كلمة الله لتزيد من حالة الخشوع. وكما هو معلوم في اللغة العربية، فكلمة “الله” الى جانب دلالتها على معنى الخالق، كثيراً ما تأتي كصيغة تهليل، في حالات الطرب القصوى لدى المستمع. هكذا تأتي هنا في البداية ثم يأتي تكرارها بوتيرة بطيئة ثم متسارعة ليوحي بالولوج الى “حضرة” صوفية... حضرة فريدة من نوعها يخيل لك أنك تسمع في خلفيتها ما يشبه أنغام الأورغن الكنائسي، بفضل عزف قدير على آلة البيانو. ليس هناك أروع من هذه التحية التي توجهها يولا، اللبنانية المسيحية، للتراث الديني الثري المتضافر في المشرق العربي.

ولا بد لنا من وقفة عند تعامل يولا خليفة مع اللغة العربية، فللمغنية ذات الأصول اليونانية قصة حب لافتة مع لغة الضاد. معظم الأغاني بالفصحى وثلاث منها بالعامية (المصرية واللبنانية). وما يميز على وجه الخصوص هذا التعامل مع اللغة هو الانتقال المفاجئ من نبرة الكلام العادي الى نبرة الغناء، وذلك منذ أول أغنية بعنوان: “اكتبني”، والتي تبدأ وكأنها كلمات عابرة في محادثة يومية عادية، ثم ترتفع بها النغمة كعصفور مرتعش يطير فجأة.. ثم يعود ليحط الى جوارك على حين غفلة، ثم يفاجئك مجدداً بأجنحته ترفرف محلقةًّ به في الأفق. هذا التحول المستمر من الكلام الى الغناء ومن الغناء الى الكلام يمنح العمل لوناً من “الراب” العصري الفريد من نوعه، لكون اللحن يطغى عليه.

وتعبر هذه الرحلة الموسيقية كذلك تخوم الزمن. ثمة أغنيتان سوف يطرب لهما محبو التراث الشعري القديم. الكلمات للشاعرة الأندلسية ولادة بنت المستكفي، بنت الخليفة محمد المستكفي بالله والشخصية النسائية الجريئة. تحظى أغنية “أنا والله” بإخراج موسيقي رائع، بين صوت المغنية وأصوات الكورس المهيب الذي يذهب بمخيلتنا الى عصور غابرة من التاريخ شهدت عظمة مدينة قرطبة في القرن الحادي عشر. إطار درامي مثالي لقصة الحب والولع بين ولادة والشاعر ابن زيدون، قصة العشق السري الذي وشت به أشعار كل منهما.


أنا والله أصلح للمعالي
وأمشي مشيتي وأتيه تيها
وأمكن عاشقي من صحن خدي
وأعطي قبلتي من يشتهيها

ولم تخل قصة الهيام هذه من التعقيدات والعراقيل حتى دخلت سجل الأساطير، وحكايات الغرام المستحيل. الأغنية الثانية “أغار”، فيها نعومة الحرير الأندلسي الشهير، يعطيه صوت المغنية حقه من الرقة، عبر تلاوة أبيات الشعر بتمهل ووداعة، وترداد كلمة “أغار” كصدى خفيف خافت يبتعد في غياهب النسيان.

_ أغار عليك من عيني ومني
ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني خبأتك في عيوني
الى يوم القيامة ما كفاني

مجموعة يولا الغنائية الرابعة تعبّر أول ما تعبر عن صوت نسائي فذّ. وتعبر في الوقت نفسه عن الروابط العائلية النادرة في أسرة من الفنانين المبدعين. فلقد انضم الى ابنيها رامي وبشار اللذَيْن يواكبان صوتها بعزف بديع، أولادُ العم، ساري وزاد اللذَيْن أضافا موهبة على موهبة وروحاً شبابية عصرية في التوزيع الموسيقي.

وأخيراً وليس آخراً تعبر المجموعة عن شجون بلد يعيش مفارقة الانفتاح “على الطريق” فيحار بين فرص التوازن واحتمالات الوهن. غريب أمر لبنان، كيف ينجح الى أبعد الحدود في التوليف الموسيقي، بين الشرق والغرب، توليفاً أبعد ما يكون عن السياسيين . لعله من المجدي أن نضع يوماً ما الفنانين في الحكم؟