هشام البستاني غني عن التعريف في السّاحة العربية، ولكن لا بأس من التّذكير بأنه كاتب أردنيّ، ولد عام 1975، وبأن المجموعة القصصية الأولى التي نشرها عام 2008، “عن الحب والموت” (دار الفارابي) فاجأت الجمهور بأسلوب أدبي مميز، مختلف عن أسلوب المقالات السياسية والثقافية التي كان يكتبها ولا يزال، لا سيّما في مجلة حبر الإلكترونية، الشريكة مع أوريان21 في شبكة الإعلام المستقل حول العالم العربي. ولقد ترسخ هذا الأسلوب الفريد عبر مجموعات سرديّة متتالية، تُسمعنا الأصداء الداخلية لإرهاصات الثورات العربية وتقلباتها، صدرت عام 2010 “الفوضى الرتيبة للوجود” (دار الفارابي)، وعام 2012 “أرى المعنى” (دار الآداب)1 ، وعام 2014 “مقدمات لا بد منها لفناء مؤجل” (دار العين للنشر)، وعام 2018 “شهيق طويل قبل أن ينتهي كل شيء” (الكتب خان).
—
المدينة التي داخل صدري
الهواءُ كثيف. يصفعني مرّةً إثر مرّةٍ تاركاً آثار أصابعه الدّبقة على وجهي. هذه المدينة مُنهَكةٌ وذاكَ هو زفيرها. عندما شقّ الجرّاحُ صدري وجد تلك البنايات التي حالَ لونها وتشقّق دهانها. في إحدى النوافذ كانت امرأةٌ تقول لجارتها: زوجي لم يعد ينفع، ثم قلبت فنجان القهوة لتقرأ مأساتها. في نافذةٍ أُخرى كان رجلٌ متكرّشٌ يجلس بملابسه الدّاخلية يحرق السجائر. يُشبه زوج أمي الذي مات منسيّاً بساقٍ أكلها السّكري. هناك في الأفق بحرٌ تمتلئ زرقته بسفنٍ تنتظر. لا أحد على رصيف الميناء، والرّافعات متوقفة، والبخار يتصاعد ليُعطي قوّة إضافيّة لليد التي تصفعني، وذلك الضوء قويٌّ في عينيّ، شمسٌ ساطعة، بل شموسٌ عدّةٌ تدور وتدور ثمّ تثبت في سقف غرفة العمليّات. الجرّاح خلع القفّازات المدمّاة وضرب الممرّضة على قفاها قبل أن يخرج تاركاً بضعة برابيش في فمي سوف تُزال بعد قليل وأستيقظ. قطٌّ أسود يموء على السّور ثم يقفز في حاويةٍ ممتلئةٍ حتى نصفها بالقمامة. أولادٌ يُغلقون عليه بابها، يُشعلون فتّاشاً، يفتحون الباب لحظات كافية فقط لتكتمل الفرقعة العظيمة داخل السّجن المعدنيّ. لا أدري إن كان كونٌ يتشكّل في تلك اللحظة داخل الحاوية، ولا أدري إن كان شرودنجر يعلم إن كانت القطة حيّة أم ميّتة. الأطفال هربوا، والمراقِب في غرفة العمليّات، والمدينة داخل صدري، وأنا أستيقظ رويداً رويداً على وقع ثرثرات فارغة.
قالوا لي إنّهم استبدلوا قلبي، لكنّي أعلم أن في الأمر خطباً ما. أحياناً يتوقّف قلبي الجديد عن الخفقان. أُخرجه وأتحدّث إليه لكن ذلك لا يُخفّف من كآبته وسوداويّته. أقضم منه قطعة أو قطعتين، أمضغها فأحسّ بطعم دخان عوادم وزحام وأزمات مروريّة، فأبصق لاعناً تعاستي التي لا تتوقّف عن التشكّل والتجدّد واستنساخ نفسها في هيئات عدّة. شبحٌ أبيض يتهادى الآن أمام واحد من شبابيك البنايات ثم نغزةٌ موجعةٌ في ذراعي. أفتح عينيّ وأشتُمُ فتتراجع الممرضة التي لم أتبيّن جمالها أو قبحها. فليكن.
أنا الآن سمكة، الماء الذي أسبح فيه نظيفٌ وشفّافٌ، لكنه -وبعكس البركة التي انتشلوني منها- له جدارٌ قاسٍ من جميع الاتجاهات. أسبح هنا فأرتطم به. أسبح هناك فأرتطم به، سجنٌ شفّافٌ هذه المرّة. وحين أتاني الطّعام من فوق خمّنت أن لا حاجز هناك فقفزت مُثبتاً لنفسي صحّة توقّعاتي، لكن -ويا لتعاستي التي لا تكف عن التجدّد- لم يكن ثمّة ماء حيث قفزت. سقطت على سطحٍ لم أتبيّن ما هو، وأخذت أرتجف متحشرجاً ومختنقاً إلى أن صرت جثّة هامدةً بعينين تحملقان في الفراغ.
أنا هو ذاك الذي حمل الجثّة الذهبيّة الصغيرة وحفر لها تحت شجرة الأسكدنيا العملاقة مقارنة بحجمه وحجمها. أسمع همهمة في الأعلى حيث تظهر رؤوس رجالٍ أعرفهم جيّداً. هييييه، أنتم في الأعلى... صرخت. لكن الصوت بقي في عقلي. لم يتحرّك لساني ولم يُفتح فمي. غابت وجوههم الآن وحلّت محلّها حفناتٌ من التُّراب ظلّت تسقط وتصفع وجهي مرّةً إثر مرّةٍ كهواءٍ كثيف.
سأخلد للنوم إذن.
على الأقل هنالك من يعرف أنني حيّ.
أنا.
ثمة أصواتٌ في الدّاخل
أنا مجرّدُ مكانٍ خَرِبٍ ووحيد. غُرفي الدّاخلية فارغةٌ من الأثاث، وشُبّاكي الوحيد مُعتمٌ لا يُنفذ الضوء. عليه شبكٌ معدنيٌّ يُكهرب العصافير ويضمن لي صمتاً مستمرّاً.
في الصالون (هكذا قدّرت أن هذه الغرفة يمكن أن تكون) يستلقي كونتراباص قديم. إن وضعت أذنك لصق خشبه فستسمع صوت ضحكات تتذبذب محشورةً فيه. لكنه الآن كئيبٌ كخطواتي التي أجرُّها على الأرصفة حين أخرج. مفاتيحه مخلّعةٌ وأوتاره مقطوعةٌ ولا دم يجري في عروق موسيقاه.
بعض أوراقِ نوتةٍ مرميّةٌ في الأرجاء، وكثيرٌ من قطع الزجاج الصغيرة التي تشبه حجارة الفسيفساء. هل يكون زجاج مرايا كانت معلّقة على الجدران يوماً؟ لا أدري. لا أحد يدري. فعازف الكونتراباص كان آخر من تسلّل كالعطر إلى الداخل، وكالعطر: تبخّر. لم يدخل أحدٌ تلك الغرف لو مرّة بعد أن توقّف العزف، وصرتُ أمرُّ من أمام بيت الأشباح ذاكَ مُسرعاً واضعاً رأسي في الأرض مُطلِقاً بعض صفيرٍ يدرأُ عنّي ما قد أتوهّمه أصواتاً قادمةً من الدّاخل.
صراصير كثيرة، كثيرةٌ جداً، ميّتة. سجّادة من الصراصير الميّتة تُغطّي الأرضيّات. واضحٌ أن مجزرةً للصراصير وقعت هنا. كلّها شقراءُ متوسّطة الحجم. جمالٌ ما يُجلّلها وهي مُلقاةٌ على ظهورها بلا حِراك. تذكّرني بنفسي، وبغرفي المتماثلة المتشابهة المتكررة المنقلبة على ظهرها. من يريد أن يجوس كل هذا الموت؟
بعضُ لوحاتٍ لا بدّ أنها كانت معلقة هنا. لم تعد، لكن آثارها على الحائط صنعت لوحات جديدة مناسبة لما أنا فيه الآن، كلّ واحدةٍ منها إطارٌ من الغبار والوسخ يَحُدُّ مساحةً كانت بيضاء وتميل الآن إلى الرماديِّ يخرج من أعلاها مُسمار.
إن كُنت مُستمعاً جيّداً، سيقول لكَ المسمارُ كَم من الذكريات المحنّطة تعلّقت به. سيقول لكَ المسمارُ كيف أن الذكريات المعلّقة تشبه دائماً مُتسلّق جبالٍ تعثّر ويتشبّثُ الآن بحافة الجرف الصخريّ.
إن كُنت مُلاحظاً جيّداً فسترى أن المسامير كلّها هناك في أماكنها، أما متسلّقو الجبال (ويا لسوء حظّهم) فسقطوا. لعلّ هذا هو ما يفسّر الفسيفساء الزجاجيّة المتحرّكة على الأرض. لعلّها قطعٌ منّي: ألسنا ذكرياتنا كما يُقال؟ ألا نتحطّم إلى آلاف القطع في إثر كلّ سقوط؟ أحياناً أسمع عواءً بعيداً في أرجائي. هل صرت رُجماً تسكنه مخلوقات الليل المتوحّدة؟ وتلكَ الأعشاب البريّة التي نبتت في كلّ مكانٍ فيّ وتطاولت... ستقول لك الأشجار كم من الأطفال لعبوا تحتها يوماً. ستقول لك شجرة الرُّمان كم حجرٍ تلقّت لتُسقط ثمارها العالية. الآن تسقط الرُّمانات متعفّنةً من تلقاء نفسها، ولا يلتقطها أحد.
أمرُّ سريعاً من أمام بيت الأشباح هذا، دون أن أنظر. أمرُّ في طريقي التي تأخذني كل مرّة إلى هذا البيت نفسه. كلّ يومٍ أغيّر الطريق، وكلّ يومٍ تقودني خطواتي المستعجلة إلى هنا. أنا مجرّدُ مكانٍ خربٍ ووحيد تؤدّي إليه كلّ الطرق. أنا قلبُ متاهةٍ كل مساراتها المتعرّجة أحادية الاتّجاه وتقود إليّ. لن أطرق بابه أبداً، بل سأظل أمرّ من أمامه مستعجلاً، هارباً مما أتوهّمه أصواتاً في الداخل.
قبل النهاية بلحظةٍ واحدة
رأسك الذي تلقّى طوبةً طوّحَ بها بحقدٍ دفينٍ قاتلٌ محترفٌ للعصافير، سيظلّ ينزف أمام عينيّ من دون توقّف. سيظلّ النخاعُ الأبيضُ يتسلّلُ بمكرٍ من الكسورِ ليلتفَّ حول رقبتي. تعالَ ونم بجانبي؛ سأُداوي العلامات الناريّة التي تركها قضيبُ الحديد على جسدك؛ سأُداوي الثقب الغائر الذي أحدثته رصاصةُ الكلاشنكوف بين عينيك؛ سأجعلُ من لحمي وسادةً لجسدكَ المنهك / المتهتّك.
أكنتُ أصمّاً أم إنني لم أسمع صُراخك؟ لعلّك ابتلعته. لعلّك ابتلعتَ لسانك. قل لي إنّك انتحرت اختناقاً؛ قل لي إنّك لم تسمع طقطقة العظام وهي تتكسّر واحدةً واحدةً وتتفكّك عن بعضها؛ قل لي إنّك لم تسمع صوته وهو يقول: “على رأسه..” هذه الأرضُ إرثٌ لهذا الجنس الوسخ من الآلهةِ الوضيعة. إلهٌ عبدٌ لإلهٍ عبدٍ وهكذا إلى ما لا نهاية. لكنّ النهاية آتية: حين أشدّ قبضتي وأكزّ على أسناني أتضخّم لأصير عملاقاً أزرق بارداً، وأسحق بقدميّ تلك الحثالات. من أطرافِ نظرتي العارفة تتساقط قطراتٌ من الأسيد. ذوبوا. تبخّروا. أرفع كأسي نخب موتكم وأجلس وحيداً على ظهرِ كوكبٍ فارغٍ أنتظر موتي الذي لن يأتي.
لكنّ الحياة ليست روايةً مصوّرة، ولن يتمكّن الكاتبُ من تأليفِ مُستقبلٍ آخر لي أو لكم، وهذا الذّبيح الذي أمامي ليس جزءاً من أحداثٍ محنّطةٍ في أوراقٍ يبعثها العقلُ حيّةً متى أراد، وتعود أدراجَها إلى رفٍّ مغبرٍّ بعد القراءة. هذا الذي أمامي دمٌ سيظلُّ ينزف دون توقّف، والطوبُ الذي أُلقي على رأسكَ –يَكسِرُ ويتكسَّرُ- سيظلُّ يدورُ في رأسي بعرضٍ سريعٍ وبطيء ومعكوس، وأنا أدورُ وأتقلّبُ في سريري كمن يُضربُ جسدهُ بقضيبٍ من الحديد، وأنفجرُ كمن يتلقّى طوبةً على رأسه...
التحلّل
لم أعُد قادراً على الكتابة. بعدما كان القلمُ سيفاً تحوّلَ إلى مسمارٍ مهترئٍ بليد، وبعدما كانت الأوراقُ تضيقُ وتضيعُ الأسطرُ بين كومةٍ من الأسهم والخرابيش، صارت أوسع من بحرٍ يُشاطئ ليلةَ صيف. وكما الظّلام يحلُّ سريعاً في كانون الأوّل ضامّاً المدينة بعتمته، يبتلعُ الخرسُ حبر قَلَمي، ويتحوّل -القلمُ- شهوانيّاً عاجزاً لا يستطيع إتيانَ امرأته إذ جفَّ ماؤه.
عندها يحلُّ اليأسُ ضيفاً ثقيلاً، وتتصارعُ الأفكارُ المكبوتةُ -التي لا تجدُ كلماتٍ تمتطيها وتُقاتِلُ عن ظهرها- مخلّفةً صُداعاً زَنِخاً.
وعندها أنظرُ إلى نفسي في المرآة، فلا أرى سوى انعكاسِ الحائط خلفي.
في المحطّة
— إذن علينا أن نموت هنا.. في انتظارِ بلادٍ لا تأتي.
— بلاد؟ أنتَ من تُسمّي البلاد. أنتَ من تنفخ فيها روحاً. أنت من تجعل منها وسادةً لرأسك وفراشاً لجسدك.
— حاولت. قبضتُ حفناتٍ من التراب وشممتها. لعبت الغمّيضة مع أولاد الجيران. زُرت جدّتي كل أسبوع – كانت تصنع لي كعكاً. كل ذلك لم يعنِ شيئاً. وهناك حيث لا أولاد ولا جدّات ولا تراب، أيضاً لن يعنيني الأمرُ شيئاً. وطني الحقيقيُّ هو الانتظار.
— اسمع: ولدتُ في ليمونة، أتصدّق؟ أقصد أن أول ذاكرة لي كانت بين أغصانها، وقالوا لي إنه عندما اكتملت سنتي الأولى قطّروا ليموناً في فمي. ’هذه البلاد تُذيب الحديد، فكيف بالبشر؟‘ كان أبي يقول، ويعصر السائل الحامض ويناولني إيّاه. لهذا سَمُكَ جِلدي وتوقّفت عن الشكوى.
— اسمع أنت: ثمّة شمسٌ تغرب، وثمّة رجلٌ واقفٌ داخل صحنٍ من الجبال – ذاكَ أنا. أحدهم صبَّ حساءً فوق رأسي. أحدهم أطلق النار عليّ، وكثيرون طعنوني في ظهري. ها أنظر إليه، مثقّبٌ كمصفاة. أَسمعُ لحناً جنائزيّاً. لحن الرجوع الأخير، أَتَذْكُره؟ كانوا يعزفونه والقائد يسقي شجرة الحياة بمصاحبة آلات نفخيّة تسير فيها أنفاس مجموعة من المهرّجين. لعلّ أحدهم تبوّل في الإبريق المذهّب. اسمع، لا تحدّثني عن الليمون الحامض والجلد السميك. كأسٌ كرستاليّة هي يدي، وقنبلةٌ موقوتةٌ عقلي. تِكْ. تِكْ. تِكْ. تِكْ. أتسمع؟
— ماذا تنتظر إذن؟
— أعتقد أن الأمر باتَ واضحاً الآن. أنتظر الانفجار.
1والتي حازت على جائزة الادب العربي وترجمته من جامعة آركنسا في الولايات المتّحدة