“الاختيار”، المسلسل الرمضاني المُفضل للنظام المصري

من الجيش ولأجله · عرض مسلسل “الاختيار” خلال شهر رمضان لهذه السنة، وتدور أحداثه حول العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش المصري في سيناء. وقد لقي المسلسل الذي سيعرف موسما ثانيا السنة المقبلة نجاحا شعبيا، ما يسمح للمؤسسة العسكرية بتلميع صورتها.

“سيناء أجمل مكان في الأرض”. تتردد هذه العبارة بقوة في إعلانات مسلسل “الاختيار” الذي عرضته مجموعة قنوات “أم بي سي” السعودية خلال شهر رمضان. تُقتل في الحلقات الأخيرة شخصية المسلسل الرئيسية، وهو الضابط في الجيش المصري أحمد المنسي. وليس في ذكر وفاته إفساد لتشويق المسلسل، فهذا الضابط المصري ليس مجرد شخصية وهمية، بل شغل فعلا منصب قائد الكتيبة 103 صاعقة -إحدى وحدات الصاعقة وهي وحدة خاصة للجيش المصري تعرف بتدريباتها الخاصة. تتمركز هذه الوحدة بمدينة العريش في شمال سيناء، وقد اشتهر أحمد المنسي بقيادة عدة حملات عسكرية التي قضت على عدة بؤر تكفيرية تنتمي لجماعات إرهابية في شمال سيناء. وقد لقي مصرعه مع عدد من أفراد كتيبته في 7 يوليو/تموز 2017 في كمين البرث بمدينة رفح شمال سيناء.

يتميز المسلسل بكونه عملا شديد الإتقان من عدة نواحي أهمها أداء الممثلين والإخراج للمصري بيتر ميمي والسيناريو المحكم للمؤلف المصري باهر دويدار، وهذا أمر نادراً ما يحدث مع الأعمال الدرامية والسينمائية التي تقدم وجهة نظر النظام السياسي الحاكم في مصر، لا سيما وأن لجنة خاصة من الشؤون المعنوية في الجيش المصري أشرفت على العمل بدءاً من كتابته ووصولاً إلى نوع الأسلحة والديكورات. وقدّم المسلسل الذي يلعب دور البطولة فيه الممثل أمير كرارة مجموعة من أهم النجوم في مصر، جمعيهم من الرجال في ذكورية طاغية لا تختلف عن ذكورية الجيش المصري الذي يخلو من العناصر النسائية.

واجب وطني وديني

ومن هنا، من الطبيعي أن يصبح المسلسل الدراما المفضلة للنظام المصري، بل دعت بعض مؤسساته أولها دار الإفتاء المصرية إلى مشاهدته وكأنها فتوى شرعية إلزامية على كل مصري ومصرية، ناهيك عن المديح المتواصل من قيادات مصرية في النظام والجيش المصريين، والتغطية المتواصلة من الصحف المحلية.

فهذا العمل الدرامي ينبني فعلا على فكرة الفريضة أو الواجب الوطني المقدس -ما ينجر عليه تقسيم للمجتمع المصري نتبينه من خلال عنوان المسلسل “الاختيار”، اختيار وجب على المصريين بين طريقين لا ثالث لهما، فإما أن تكون مع الجيش المصري أو أن تكون ضده -أي أنك مع الإرهابيين. ودون مفاجأة، حسم المسلسل أن جماعة الإخوان المسلمين اختاروا الانضمام إلى شق العدو، ويتضح هذا في عدة حوارات بين شخصيات المسلسل أشارت إلى قرارات العفو أصدرها الرئيس المخلوع محمد مرسي للإفراج عن سجناء سياسيين، وأعضاء في تنظيمات جهادية أدينت في حوادث عنف وإرهاب، ومدى غضب الجيش من ذلك.

انتقاد الجيش...للإثناء عليه

ويبدو أن ما كان غير مسموح بالقول عن الجيش المصري أصبح الآن يعرض في مسلسل يشاهده الملايين، وأهم هذه المحرمات -والتي ناقشها المسلسل بذكاء- تفريخ التكفيريين من عباءة الجيش المصري، إذ يتناول المسلسل قصة واحد من أشهرهم وهو هشام عشماوي. وكان الباحث إسماعيل اسكندراني أول من حذر من عشماوي حين كتب على صفحته في فيسبوك بشهر أكتوبر/تشرين الأول عام 2014:

احفظوا اسم #‏هشام_عشماوي‬ كويس.. أو مش لازم يعني.. كده كده الفترة الي جاية هيتكرر اسمه وهتحفظوه بالعافية، هشام عشماوي ضابط صاعقة سابق، تم تسريحه على رتبة مقدم، لف كتير بعد الخروج من الجيش وحالياً يقوم بمهمة رئيس عمليات #‏أنصار_بيت_المقدس1. [...] هو مهندس عملية الفرافرة ونجا من معركة طريق السويس في سبتمبر [2014] [...] وصدق من قال، #‏كل_مصيبة_سودا_وراها_ضابط_جيش‬.

وهجوم الفرافرة هو كمين وضعته مجموعة من الإرهابيين لحرس الحدود المصري التابع للكتيبة رقم 14 بمنطقة “الدهوس” بالوادي الجديد في 19 يوليو/تموز 2014، وذلك أثناء تواجد أفراد الكمين بالمنطقة الواقعة بين واحة الفرافرة والواحات البحرية، ما أسفر عن مصرع ثلاثة أفراد من المجموعات الإرهابية التي هاجمت الكمين، واستشهاد 28 ضابطاً وجندياً.

والاسكندراني -نسبة إلى مسقط رأسه الإسكندرية- باحث في علم الاجتماع السياسي ومتخصص في الحركات الجهادية في شبه جزيرة سيناء، ولكن لم يستمع أحد إلى تحليلاته بل احتجزته الأجهزة الأمنية المصرية بعد عودته من برلين عام 2015 وحكم عليه بالسجن لعشر سنوات في 2018 بعد اتهامه بالانضمام لجماعة مخالفة للقانون، وإذاعة أخبار كاذبة، ونشر سر عسكري رغم اختلافه المعروف مع حركات الإسلام السياسي.

ومثال على آخر هذه الانتقادات في الحلقة التي يُقتل فيها المنسي، حين يتم وضع اللوم على تقصير الجيش في حماية أفراده وتقديم التسهيلات، وهو أيضاً ما أشار إليه الاسكندراني في وقت سابق حين قال في مقال على موقع المدن بعنوان “استخلاص الدروس المستفادة من الفشل المتكرر” بتاريخ 25 أكتوبر/تشرين الأول 2014: “عدد القتلى والمصابين الليلة الماضية هو الأكبر في سجل مواجهات الجيش في سيناء، لكنه غير مستغرب بسبب تكرار الأخطاء التكتيكية التي يقع فيها الجيش منذ أكثر من سنة. لا يزال الجنود يتحركون أحياناً في إجازاتهم من دون حراسة، فيتم اختطافهم وتصفيتهم جماعياً مرةً بعد مرة. [...]”.

وهكذا كسر المسلسل بعض الخطوط الحمراء لدى الجيش. ويبدو أن هامش الحرية هذا كان سبباً كافياً، لتصبح فجأة هذه المؤسسة فخراً لنخبة مصرية لم تكن يوماً تمدحه أو تذكره حتى، وكأنها رأت في ذلك حيادية للعمل وحرفيته، ما يعني أنه يبرز حقيقة ما ووطنية الجيش المصري الذي كان عُرضة لاتهامات جسيمة في السنوات الأخيرة. وقد شهدت مواقع التواصل الاجتماعي بعد حلقة مقتل المنسي في المسلسل تفاعلاً كبيراً أغلبه يعبر عن تعاطف مع الجيش المصري الذي يراه جيشا وطنيا أنقذ مصر من الإرهاب، في حين انتقد البعض الجيش الذي سرق ثورة 25 يناير/كانون الثاني، وسيطر على البلاد.

طريق مفتوح باسم الحرب على الإرهاب

من جهة أخرى، يعاب على المسلسل تهميشه لأهل سيناء -والحال أنه من المفترض أن يتحدث عنهم- فلم يُظهر حياتهم الحقيقية ومعاناتهم من الجيش المصري إلى جانب معاناتهم من الإرهابيين. كما لم يشر العمل إلى أخطاء الجيش المصري بحقهم، وأكثرها فداحة حين هجّر أهل شمال سيناء وخاصة من يسكنون على الشريط الحدودي مع فلسطين، وكانت مدينة رفح المصرية أكثر المناطق تضرراً. وبالفعل أزال الجيش مئات آلاف المنازل والمنشآت بعد إنذار أهلها، دافعاً الجميع إلى مدينة العريش لإقامة منطقة عازلة وفق خطة لمكافحة الإرهاب، ناهيك عن القصف المستمر لتلك المناطق وسقوط القتلى من المدنيين الأبرياء، وفرض حالة الطوارئ دون أن يسمع أحد صوتهم لسنوات عديدة.

كما لم يخل المسلسل من كليشيهات متعالية كالتي نراها في مشهد بين بطل المسلسل المنسي وتلاميذ مدرسة بشمال سيناء حين يقول لهم أن حلمهم الوحيد يجب أن يكون بأن يصبحوا مثله ويخرجوا التكفيريين من أرضهم كما أخرجوا الإسرائيليين، أو حين يصور كل متعاون مع الجيش من أهل سيناء خائنا في منطقته، دون الخوض في حقيقة اختلاط هذه الجماعات في تلك المنطقة وتعقيدات تعايشهم مع العائلات، فلا يمكن أن يكون الواقع ثنائياً كما يراه المسلسل.

وهنا لا بد أن يظهر الكاتب إسماعيل الاسكندراني مرة أخرى فقد كان أحد النادرين الحريصين على إسماع صوت هؤلاء الفقراء من أهل سيناء، وكتب عدة مرات عن ممارسات الجيش واعتبار محافظة شمال سيناء أرض عمليات عسكرية وسط صمت الأغلبية، إذ تكفي عبارة “نحارب الإرهاب” ليسكت الجميع. ومما كتبه الاسكندراني في واحد من مقالاته بموقع المدن:

تمت تهيئة الرأي العام لقرار التهجير بهستيريا إعلامية عبر الفضائيات والصحف الموالية للسلطة القائمة، والتي تتلقى تعليمات صريحة ومباشرة من مكاتب الاتصال العسكري وإدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة والمخابرات العسكرية. وقد وفّر الهجوم الأخير مسوّغاً كافياً لفرض حالة طوارئ جزئية على المنطقة الشمالية الشرقية من شبه جزيرة سيناء.

المسلم المعتدل والمسلم المتطرف

أما حين يأتي الحديث عن الخطاب الديني للمسلسل ومعالجة السيناريو له، فإنه يبدو شديد السطحية خاصة ما يقدمه على لسان الجماعات الإرهابية والرد عليها، وهذا إنما ينم عن جهل في نقل العقلية الجماعية لهذه الحركات وكيف تفكر، أو حتى كيف يحاور بعضهم بعضاً. من العبارات التي جاءت في حوار بين اثنين من الإرهابيين في سيناء أحدهما لبناني والآخر مصري، حين يقول الأخير “هايص ولايص مع حور العين”، ويرد عليه اللبناني متحدثاً عن زوجاته “إنه جهاد النكاح”. فهل من المعقول أن يصف إرهابي ما يحصل بـجهاد النكاح؟ فهذه التسمية تأتي من خارج هذه الجماعات، علاوة على النزعة الاستشراقية للمصطلح.

كذلك حين أتى المسلسل على ذكر ابن تيمية الذي يعتبر مرجعية للمجموعات السلفية الجهادية، على الرغم من أن هذه الجماعات تستشهد بما هو أكثر من ذلك في السيرة النبوية، باعتبار أن الرسول محمد حُملت له بعض رؤوس أعدائه.

وبشكل مواز وربما لاستعطاف الجماهير أو هو السبب بأن هذه الجماهير أحبت المسلسل، فقد قدم الجيش المصري على أنه “متدين بطبعه” وهي العبارة الأشهر التي تطلق على الشعب المصري، لكن المسلسل تجاوز عفويتها، وقدم الجيش كجماعة دينية معتدلة تحارب جماعة دينية متطرفة.وحرص المخرج وكاتب العمل على إظهار تدين أفراد الجيش والتزامهم بالصلوات والصيام وقراءة القرآن، ونقاش رجال الدين حول انحراف الإرهابيين، وكثير من المَشاهد التي تشعر أنها فجأة تم إدخالها على الخط الدرامي الرئيسي للعمل، كمشهدين برّأ فيهما أحد شيوخ الأزهر ابن تيمية، مرة أمام الضابط المنسي ومرة أمام أفراد الجيش، وأصر أنه ليس بالإرهابي بل المُجاهد العظيم الذي جاءت بعض فتاويه وقتها خلال المعارك مع التتار.

وهنا يجب اقتباس رأي مهم كتبه الحقوقي شريف عازر على صفحته بموقع الفيسبوك خلال عرض العمل:

صناع المسلسل قرروا إن عقيدة الجيش المصري هي مجرد إحدى مدارس العلماء السلفيين زي ابن تيمية بس اللي يفرق بينهم وبين الإرهابيين هو مجرد اختلاف في تفسير ابن تيمية. الإرهابيين شايفينه حد بيحارب انظمة الطواغيت عشان مش بيقيموا دولة الإسلام، لكن الجيش شايفه رمز وطني في مقاومة التتار. [...] يعني مثلا من الكلمات اللي ضايقتني جدا لما بيقول ما تقولوش عليهم إرهابيين، اسمهم تكفيريين، طب ليه ليه؟؟؟ هما في في القانون متوصفين بالإرهابيين والجريمة اسمها الإرهاب. ليه تخلي حد ممثل للسلطة يخطب في عساكره كلام غير قانوني وبياخد الصراع لصراع ديني ... بصراحة مذهول وحزين إن مسلسل زي ده كان ممكن يقوم بدور قوي جدا في إرساء فكرة سيادة القانون والشرعية القانونية لمكافحة الإرهاب ودور الجيش في مكافحة الجريمة بحسب نصها القانوني. لكن المسلسل حول الصراع لصراع ديني بين مدرستين دينيتين.

قد تكون سيناء بالفعل “أجمل مكان على وجه الأرض” كما يكرر بطل المسلسل في إعلانات كثيفة بالقنوات السعودية، لكن لن يعرف أحد كيف تحول إلى أكثر مكان تُبتلع فيه الحقيقة على وجه الأرض.

1مجموعة جهادية تنظم عمليات في سيناء وقد انضمت سنة 2015 إلى تنظيم الدولة الإسلامية تحت اسم ولاية سيناء.