مسلسلات

مصر. “الاختيار 2” أو حدود دعاية الدولة الأمنية

في الموسم الثاني لمسلسل “الاختيار” الذي تم بثه خلال شهر رمضان الماضي، يُسلّط الضوء على فترة عزل الرئيس محمد مرسي والأحداث التي تلت. لكن سعي المسلسل لتلميع صورة النظام المصري بجميع الطرق جعله يحصد سخرية المشاهدين أكثر من إعجابهم.

في الوقت الذي كان يتطلع العالم إلى ميدان ساحة القدس أمام مسجد الأقصى قي العاشر من مايو/أيار 2021 واشتداد المواجهات، كان موقع فيسبوك يضج بشكاوى المصريين من إغلاق ميدان التحرير، بعد أن احتله ممثلون وممثلات من مسلسل “الاختيار” لتصوير الحلقة الأخيرة من الموسم الثاني الذي تم بثه خلال شهر رمضان. كان ذلك يتم برعاية الدولة ووسط حراسة أمنية مشددة. فهذا الجزء الثاني للمخرج بيتر ميمي يعرض رؤية الدولة للأحداث الأمنية الكبيرة التي مرت بها مصر خلال السنوات الأخيرة، وهي أول مرة تقدم فيها الجهات الرسمية عملًا دراميًا بذكاء وإنتاج عال.

يتناول هذا العمل أحداث الفترة التي أحاطت بعزل الرئيس المصري السابق المنتخب محمد مرسي في شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز 2013، خاصة في مذبحتي ساحة “رابعة العدوية” و“النهضة” اللتين سقط خلالهما آلاف القتلى والجرحى.

وكما الأول، صُنع هذا الجزء بحرفية، وتم اختيار الممثلين بعناية في مشاهد لمعارك حامية، وسيناريو محبوك ومصادر متعددة لاستقاء ما حدث في اعتصام “رابعة”، الذي بدأ يوم28 يونيو/حزيران بالتزامن مع مظاهرات معارضي حكم مرسي بميدان التحرير -أو ما أطلق عليه “ثورة يونيو”- التي خرجت لتندد بسياسة الأخير ومطالبته بالتنحي، وانتهى في يوم 14 أغسطس /آب 2013 بعد التدخل الأمني والانقلاب العسكري.

سرد المسلسل خروج المؤيدين للساحة، ونصبهم للخيام في ساحة رابعة وفي مواجهة المهلة والشروط التي فرضتها القوات المسلحة عليه، لكنه لم ينج من السقوط في الدعاية المتكاملة للدولة المصرية الأمنية، وهي توازي ما يطلق عليه المسلسل “أيديولوجيا” أو “عقيدة الإخوان”.

دعاية عكسية

يُذكّر المسلسل المتفرّج بالأفلام الأميركية التي تدافع عن مهام الجيش الأميركي في العراق أو أفغانستان، وتقدم الجانب الإنساني من الجنود على حساب الشعب المحتل. وفي هذا استحضار للصورة الفيلمية الغربية في نظرتها إلى الجندي، أي تقليد أفلام “الباتريوت” (أي الأفلام الوطنية) التي يتوافق أغلبها مع رواية الدولة.

أثار المسلسل فضول الناس في الأسبوع الأول وأحبوه بالفعل، وهو أمر ليس بالهين بالنسبة لمسلسلٍ يعتمد على الحكاية الأمنية ويكاد يخلو من وجوه نسائية ومن قصة اجتماعية. انتظر الجميع من معارضين ومؤيدين الحلقة التي سيفض فيها الأمن الاعتصام بميدان رابعة. وهنا قدّم المسلسل رجال الأمن في إطار أسطوري، وجعل منهم أبطالا يتميزون بالثقافة والتاريخ ونبل الأخلاق والمهارات القتالية العالية.

عند هذه النقطة بدأ المسلسل يتحول إلى مادة أساسية للفكاهة على وسائل التواصل، من صور وعبارات “الميمز” الساخرة، واعتبره البعض أنه يصنف تحت بند مسلسلات الخيال، وآخرون قالوا إنها سلسة من قصص الأنبياء الدينية باعتبارها مقدسة. وتوالت الصور الساخرة من المسلسل وبطله الضابط زكريا يونس والذي أدى دوره الممثل كريم عبد العزيز، وهو يجري تحقيقاتٍ مع شباب معتقلين فيقول لهم عبارات مثل “لن توقّع سوى على ما قلته”، “لن نؤذي عائلتك، بل سنحميها”، أو “ماذا تريد أن تشرب أو تأكل”، وهو بالتأكيد ما لا يحدث بالواقع إطلاقًا، فهناك عائلات بأكملها في السجون المصرية عقابًا لما اقترفه أحد أبنائها. وجاءت واحدة من الصور الساخرة عن المسلسل تقول إن “مشكلة الأمن المصري أنه لا يطلب لك بيتزا بالببرويني”.

هكذا، بعد أن كانت الدولة تسعى إلى تحسين صورتها عبر هذا المسلسل، وجد أصحاب العمل أنهم يُقدّمون دعاية عكسية. إذ بدأ كثيرٌ من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يشاركون قصص المعتقلين والشهداء في السجون المصرية وماذا فعلت أجهزة الأمن المصرية بهم، وأشهرهم طالب الدكتوراة الإيطالي الذي كان يقيم في مصر جوليو ريجيني وقد قُتل في 2016 خلال التحقيق معه من قبل ضباط أمن مصريين.

خطاب سياسي في قالب فني

من السهل ملاحظة أن خطاب المسلسل يعتمد على تقسيم الشعب المصري بين الأخيار -أي رجال الأمن ومن والاهم- والأشرار -وهم المعتصمون في رابعة وكل منتم إلى جماعة الإخوان المسلمين أو متعاطف معها-، في خطاب متعال ومتكبر. نلمس ذلك في عباراتٍ عديدة وردت في الحوار، مثل قول الممثل المصري أحمد مكي الذي لعب دور ضابط: “ناس شبهك.. عاوز تساعدهم فتمد ايدك ليهم عشان تنقذهم تلاقيهم عاوزين يقتلوك”.

وكان أحمد مكي قد كسب في السابق جماهيرية كبيرة في أدائه الغنائي لفن الراب ومسلسله الكوميدي “الكبير قوي”. إلا أنه يعرض الآن في دور شديد الجدية، لم يضف له الكثير، بل أثقله في بعض الخطابية الوطنية المباشرة، والدينية أحيانًا، وكأنه أراد إثبات قدرته على أداء الأدوار الصعبة والخطابات التنويرية. بيد أنه كان واعظا وعنصريًا تجاه أبناء بلده، ولم يكن يُمثّل بل يسعى أن يكون جديًا، ما أفقده جزءا كبيرا من جمهوره من شريحة مثقفة من الشباب، كانت تؤمن به بالفعل، وصُدمت حين قدّم نفسه كبطل في دراما تدافع عن نظامٍ قاتل.

لم يكن أحمد مكي وحده الذي صدم الجمهور بظهوره في هكذا عمل، بل كذلك الممثل ماجد الكلدواني، والكوميدي أحمد حلمي. وفي عرض أحداث أعقبت الثورة، نرى في كل حلقة ممثلا جديدا، غالبيتهم لم يكن موقفهم واضحًا من ثورة يناير، لكنهم اليوم يساندون الرواية الرسمية للدولة، حتى لو كان من الممثلين المثقفين وأصحاب الأصوات المتميزة والنادرة مثل محمد فراج وأشرف عبد الباقي الذي أدى دور ضابط يقتل مع أفراد مركز شرطة كرداسة.

الإخوان أصل كل داء

ليس خافيًا أن المسلسل يحاول أن يقدم وثيقة للتاريخ حول ما حدث أكثر من كونه عملًا فنيًا، ليس لأنه فقط يدمج التصوير الحقيقي للأحداث بالتصوير الفني، بل لأنه يتعمد كذلك تقديم معلومات عن الضباط ودورهم، أو وضع عبارة “تصوير حقيقي”. هذه المقاطع كثر ظهورها في وقت فض رابعة ليبين أن تسلح المعتصمين كان كبيرًا، لكن كثيرا من المؤسسات الحقوقية كذّبت ذلك، بدليل تفاوت أعداد القتلى من الجانبين.

وقد حاز حادث مركز شرطة كرداسة اهتمامًا خاصًا على وسائل التواصل الاجتماعي، الذي جد في الساعات التي عقبت فض اعتصام رابعة، حين أضرم متظاهرون غاضبون النيران في المركز وقتلوا لواءين وعقيدا ونقيبين وسبعة آخرين من الأمنيين، سبقه سحل وتعذيب. وقد شاركت المتظاهرين امرأة اسمها سامية شنن، وهي بائعة خضروات، أظهرها المسلسل في مشهد تسقي فيه أحد الضباط “ماء النار” أو سائل الأسيد الحارق، رغم أن التحقيقات نفت استخدام أي مواد كيميائية.

بل يذهب المسلسل إلى أبعد من ذلك ليظهر معارضين ومشاركين في الاعتصام متورطين في أحداث إرهاب وعنف، على الرغم من أن قضاياهم لا تزال محل متداول ولم يتم الحكم فيها بعد، وكأن المسلسل يُقدّم مسوغًا لمحاكمتهم بأقصى العقوبات. في حين يُحاط رجال الأمن والشرطة بهالة من القداسة بحجة أن ممارساتهم كانت بدافع خوفهم على مصلحة البلد.

أدى الممثل من أصل أردني إياد نصار دور المقدم بجهاز الأمن الوطني محمد مبروك، والذي قد قُتل في المسلسل نتيجة تعاون ضباط من داخل جهاز الأمن مع عناصر من الإخوان. هناك فعلا إصرار من المسلسل على إلصاق التهم بالإخوان، على الرغم من أن جماعة “أنصار بيت المقدس” -وهي إحدى الجماعات الجهادية في سيناء - أعلنت مسئوليتها عن حادث اغتيال مبروك أمام منزله بمدينة نصر شرق القاهرة. شخصية مبروك هي لضابط مثقف يتحدث في المسلسل عن كتابين للسيد قطب، وهما “معالم في الطريق” و“في ظلال القرآن”. يوجد في هذا المشهد خلط رهيب بين فكر الجهاد التكفيري وبين فكر الإخوان، حيث تؤكد الشخصية أن كتاب “معالم في الطريق” دستور التكفيريين. وهذا ليس صحيحًا فالفكر التكفيري لا يرى حركة الإخوان تمثل الشريعة الإسلامية بالشكل المفترض، أو كونهم من أهل السلف الصالح.

الدولة راعية للإنتاج الدرامي

ومن المؤسف بعد مرور 10 سنواتٍ على الثورة المصرية، وما دفعه الناس من دماء وتضحيات، أن يكون من الطبيعي تقديم هكذا مسلسل، بل مدحه، في مقابل أن يكون ذمه ونقده أمرًا نادرًا وليس محبذًا، وكأنك تنتقد الدولة في العلن. وهو بالفعل ما حدث بالنسبة لرجل الأعمال السابق أشرف السعد الذي غادر مصر منذ سنواتٍ بعيدة هربًا من الملاحقة بعد تورطه في الاستيلاء على أموال مئات المصريين فيما عُرف بقضية توظيف الأموال. وقد غرّد الأخير واصفًا المسلسل بالبطولي، وما هي إلا أيام حتى عاد إلى مصر دون أي محاسبة.

أما البرلماني والصحفي مصطفى بكري فقد ذهب إلى أبعد من ذلك، ووصف حادث انقلاب قطار بنها شمال القاهرة في الأسبوع الأول من أبريل/نيسان هو في الحقيقة “مؤامرة للتغطية على نجاح الحلقة التي تتناول فض اعتصام رابعة”، وهذا الهوس هو نوع من إبراز فروض الطاعة لدولة السيسي وجهازها الأمني.

من المهم الإشارة في هذا السياق أنه منذ حوالي العامين احتكرت مجموعة“إعلام المصريين” ممثلة في شركة “سينرجي” للإنتاج الفني سوق الدراما المصرية، ويترأس هذه الشركة تامر مرسي الذي انتشرت أخبار غير مؤكدة عن إزاحته عن منصبه في مايو/أيار الفائت والمعروف بقربه من أجهزة الدولة. ما جعل الرئيس عبد الفتاح السيسي يثني في أحد مؤتمرات الشباب على تدخل الدولة في الأعمال الدرامية، قائلًا إنها قدمت “عناصر بناء إيجابي” ولم تسعَ إلى المكسب فقط.

وكانت الدولة فيما سبق تتدخل في إنتاج بعض الأفلام والمسلسلات، مثل أفلام “الإرهابي” و“الإرهاب والكباب” و“طيور الظلام” بمشاركة الممثل الشهير عادل الإمام، وهي أعمال تدعي انتقاد فكر الجماعات الإرهابية. أما اليوم، فقد فاقت سيطرة الدولة على الدراما والسينما ذلك المستوى بكثير.

وبلغ الفخر بهذه الأعمال أن المخرج بيتر ميمي قام بإدخال مشاهد من مسلسلي “الاختيار1” و“هجمة مرتدة” في مسلسل “الاختيار2”، باعتبارها مسلسلات تخدم فكرةً واحدة، وتقدم الوطنية كما تراها الشركة المنتجة والدولة الأمنية والرئيس السيسي.

لكن مسلسل “الاختيار2” لم يحقق ما حققه الجزء الأول من نجاح جماهيري عال حين قدم محاربة الجماعات الإرهابية في سيناء. فقد بات تقديس رجال الأمن مبالغًا به، في وقتٍ يحتك فيه هؤلاء دائما بالشعب المصري الذي بات من الصعب عليه أن يصدق كل هذه الملائكية. كما أنه يغير رواية تاريخ قريب لا يزال معاصروه على قيد الحياة، والمؤسسات الحقوقية والصحافية وأبناء القتلى شاهدين عليه.

في ميدان التحرير، أدى الممثلون أغنية “احنا مش بتوع حداد”، وتقول كلماتها: “إحنا مش بتوع حداد، إحنا بركان غضبه قاد، حق كل شهيد هيفضل في رقبتنا وليه معاد.. إحنا 100 مليون مبروك، منسي ده ابنك وأخوك، كل شهيد ضحى لينا حي عمره في يوم ما مات”. كانت هذه الأغنية ستكون مناسبة وميدان التحرير سيكون الرمز الأشهر الذي يستحق إغلاقه أمام سيارات المرور، لو كان المقصود جميع الشهداء دون تمييز، ولو كان ميدان التحرير رمزا في المسلسل لثورة يناير وليس لثورة يونيو فقط. أي لو كان المسلسل لكل المصريين بالفعل.