اقترب أبي. كنت ألعب مع أصدقائي أسفل مجمّعنا السكني الكبير في مدينة رمات غان الإسرائيلية في شرق تل أبيب. كان يومًا صيفيًّا حارًا، وكنّا نرتدي أنا وأصدقائي سراويل قصيرة وصنادل. أما أبي فكان يرتدي بدلة من ثلاث قطعٍ وربطة عنق. كان ذلك في منتصف الخمسينيات، عندما كنت في العاشرة من عمري. ولدتُ في بغداد عام 1945 في أسرةٍ يهودية، قبل نشأة دولة إسرائيل بثلاثة أعوام. تركَت أسرتي بغداد للاستقرار في إسرائيل عام 1950، حين كنت في الخامسة. كنّا نتحدّث العربية في المنزل، وكانت العبرية المعاصرة - التي تعدّ امتدادًا للعبرية التوراتية - لغة الدولة اليهودية الناشئة. سرعان ما تعلّمت أنا وأخواتي العبرية في المدرسة، وكنا نتحدّث بها مع رفاقنا وفيما بيننا. كان أبي الذي يبلغ من العمر آنذاك خمسين عامًا يجد صعوبةً في تعلُّم تلك اللغة المعقَّدة. كان من الطبيعي إذًا أن يخاطبني أبي بالعربية، لكن ذلك كان يشعرني بضيقٍ شديد؛ كان الأمر يشبه المعاناة. تأسّست إسرائيل على أيدي يهودٍ من أوروبا الوسطى والشرقية، وكانت تفتخر بأنها تنتمي إلى الغرب، ما كنّا نسمّيه آنذاك العالم الحرّ. كنّا يهودًا من بلدٍ عربي كان رسميًّا في حربٍ دائمة مع إسرائيل، وكان اليهود الأوروبيون ينزعون إلى اعتبارنا أدنى منهم مرتبةً اجتماعيًّا وثقافيًّا، ويلصقون باللغة العربية دلالاتٍ سلبية. فلم تكن العربية بالنسبة لهم لغة “العدوّ” فحسب، بل كانوا يعتبرونها قبيحةً وبدائية.
إحساسٌ بالعجز والخزي
كطفلٍ مرهف الأحاسيس، تبنّيت معتقدات وتحيُّزات بيئتي الجديدة وآمنتُ بها. أردتُ أن أدير ظهري لإرثي العربي، ولثقافة وعادات الشتات، وأن أتحوّل إلى “إسرائيلي جديد” يتحدّث العبرية. لم تكن العربية تتلاءم مع الهوية الجديدة التي كنت أعمل على اكتسابها. ولكن بما أن أبي كان يتحدّث إليّ بالعربية، لم يكن لدي خيارٌ آخر سوى أن أجيبه بالعربية. غمرني إحساسٌ بالعجز والخزي، وشعرت بالحمرة تكسو وجنتيّ. أجبت أبي بغمغماتٍ بالكاد يمكن سماعها. وددتُ أن أقول له أنه من الطبيعي أن نتحدّث العربية في المنزل، ولكنني أفضّل أن أكلّمه بالعبرية أمام أصدقائي. لكن في وجودهم، لم أقدِم على ذلك. لم أستطِع قط أن أواجِه أبي بهذا الكلام، لا في تلك اللحظة ولا فيما بعد في المنزل. كنت أتمنّى أن تنشق الأرض وتبتلعني. ظل هذا الصمت يكتنف علاقتي بأبي حتى مماته، ولم أستطع بكل تأكيد أن أتصوّر الإهانة التي كان من الممكن أن يشعر بها في هذا الموقف.
تعكس تلك الواقعة الصغيرة المشاعر التي صاحبتني طوال فترة طفولتي في إسرائيل. إذا كان عليّ أن أختار العامل الرئيسي في علاقتي بالمجتمع الإسرائيلي أثناء طفولتي، سيكون الإحساس بالدونية لأنني كنت طفلاً عراقيًا. قد يبدو ذلك صادمًا، لكن في سنواتي الأولى، لم يثِر هذا الإحساس في نفسي أي نفورٍ أو تمرّد. على العكس من ذلك، كان هذا الأمر الواقع يبدو لي وضعًا طبيعيًا، حيث تقبّلت دون مقاومة الهيراركية الاجتماعية التي كانت تضع اليهود الأوروبيين على رأس السلم الاجتماعي، ويهود الدول العربية والإسلامية في أسفله. لم أكن أرى كذلك أنني أمتلك أي مقوّماتٍ أو ملكاتٍ خاصة يتجاهلها المجتمع الإسرائيلي. لم يكن لدي هذا الشعور الملحّ بالظلم الذي يدفع بعض الأشخاص المهمّشين إلى إثبات أنفسهم. كنت في قرارة نفسي أراني طفلاً عاديًا، لديه بعض المعوّقات والحدود، وليس لدي أي رؤيةٍ للمستقبل. كنت كسولاً وسلبيًا، غريبًا على مجتمعي، ولكن في الوقت نفسه مستسلمًا لمصيري. كانت فكرة “الإمساك بزمام أموري” مستبعدة تمامًا من تفكيري.
رواياتٌ منحازة عن الصراع
لم يكن لدي أدنى فكرة في ذلك الوقت عن أوضاع العراقيين في إسرائيل، والمزايا والعيوب التي تصاحبها. كانت ميزتها الأساسية التي اتّضحت لي فيما بعد القدرة على تجاوز الصور النمطية القومية، وتبنّي وجهة نظرٍ أكثر توازنًا، لا بل حيادية، عن الصراع العربي الإسرائيلي. ليس هذا بصراعٍ عادي، بل هو من أكثر الصراعات المريرة والطويلة والعصيّة على الحل في العصر الحديث، بما يثيره من انفعالاتٍ حادة وانحياز لدى طرفيّ الصراع. فالمدارس ووسائل الإعلام الإسرائيلية ما زالت تروِّج لروايةٍ منحازة عن الصراع، لا ترتكب فيها إسرائيل أي سوء، ولا يفعل فيها العرب أي خير. وتسير المدارس وووسائل الإعلام العربية على نفس النهج، بنقل صورةٍ منحازة تصوِّر الفلسطينيين كضحايا أبرياء، واليهود – مصطلح دائمًا ما يُستخدَم للإشارة إلى الإسرائيليين – كأشخاصٍ سيئين أنانيين، قساة القلب عديمي الضمير، بل وأشرار. يؤمن كلّ معسكرٍ إيمانًا شديدًا بأنه على حقّ، ويتبنّى كلاهما سرديةً قوميّة أحادية للتاريخ. وكغالبية السرديّات القومية، غالبًا ما تكون سطحية وانتقائية ووعظية ونفعيّة. كطفلٍ نشأ في بلدٍ عربي، كنت أعي إمكانية التعايش السلمي بين العرب واليهود. لم أكن أنظر إلى العرب كأعداء، ولكن كشعب، شعب أبيّ النفس وحسّاس. ساعدتني أصولي العراقية إذًا، بعد أن كبرت، على تكوين رؤيةٍ أكثر دقة، تقوم على التعاطف مع جميع أطراف هذا الصراع المأساوي الذي يبدو غير قابل للحل.
في هذا الشأن، لا تمثّل حالتي السواد الأعظم من اليهود العرب، حيث إنّ عددًا لا يُستهان به من اليهود العراقيين الذين استقرّوا في إسرائيل أصبحوا قوميين يمينيين يحتقرون العرب. وقد غازلتُ أنا أيضًا في شبابي أفكار اليمين. لا أتصوّر كيف كنتُ سأتطوّر سياسيًّا وأيديولوجيًّا لو بقيتُ في إسرائيل، لكن الواضح أن الفترة التي اعتنقتُ فيها الأفكار اليمينية لم تدُم طويلاً. فقد كوّن لديّ ابتعادي عن إسرائيل موقفًا أكثر استقلالية وعقلانية تجاه المجتمع الإسرائيلي. إن السنوات التي قضيتها كطالبٍ في إنكلترا عشية حرب 1967 مكّنتني من رؤية ما وراء القناعات البسيطة، واكتساب منظورٍ أكثر نقدًا عن القومية بشكلٍ عام، فضلاً عن فهمٍ أكثر تعقيدًا لمكوّنات الصراع العربي الإسرائيلي المختلفة، التي تجعل منه واحدًا من أسوأ الكوابيس على الإطلاق. أدركتُ تدريجيًّا أن القومية هي أساس غالبية الصراعات الدولية. مشكلة القومية، كما كتبت مارلين مونرو في مذكّراتها، هو أنها تمنعنا من التفكير.
تجربةٌ واقعية وتاريخٌ طويل
يتناول كتابي السيرة الذاتية ليهودي عراقي شاب، يرويها مؤرّخٌ متخصّص تلقّى تعليمه في كامبريدج. حيث يسرد الكتاب قصة حياتي حتى سن الثامنة عشرة في العراق وإسرائيل وإنكلترا، لكنه كُتِبَ من منظوري الحالي، منظور رجلٍ يبلغ من العمر 75 عامًا، أصبح خبيرًا مرموقًا في الصراع العربي الإسرائيلي، وأستاذًا فخريًّا في العلاقات الدولية بجامعة أوكسفورد. بحسب فيرجينيا وولف، تمثّل كثيرٌ من المذكّرات تجارب فاشلة، لأنها “تنحّي جانبًا الشخص الذي عاش تلك الأحداث”. في حالتي، بطل الرواية هو ذلك الطفل مرهف الأحاسيس والمراهق المضطرب، لكن السياق الدرامي يصفه الرجل الجامعي الناضج. في واقع الأمر، أهدف من هذا العمل إلى استخدام تجربتي الشخصية للحديث عن حقبةٍ تاريخية أهمّ، تؤرّخ لنزوح اليهود من العراق بعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948. وقد نتج عن ذلك جزءٌ من السيرة الذاتية للكاتب، وتاريخ عائلة، ومساهمة في فهمٍ أفضل لتاريخ اليهود العرب كما آمل.
يسعى هذا الكتاب إلى استعادة وإعادة إحياء حضارة يهودية فريدة من نوعها في الشرق الأدنى، عصفت بها في النصف الأول من القرن العشرين رياح القومية الباردة. أسعى إلى استرجاعها بسرد تاريخ عائلة، لا بأبحاث وتحاليل أكاديمية. كنّا عائلةً يهودية عراقية من الطبقة الوسطى العليا، نزحت من العراق تحت ضغوط القومية العربية واليهودية معًا، دفعتها كراهية الأجانب لمغادرة البلاد، واستقطبتها الدولة اليهودية الوليدة. غادرنا البلاد في خضمّ موجة النزوح الجماعي لليهود العراقيين إلى إسرائيل بين عامي 1950 و1951. أُجبِرنا على ترك وطننا بفعل قوى جبرية خارجة تمامًا عن إرادتنا، بل وعن فهمنا. شرعتُ في تدوين هذا الكتاب لأحاول أن أعطي معنى لبداياتي، ولجمع شظايا تاريخ عائلتي، وكانت الحصيلة النهائية دراما عائلية جرت أحداثها في حقبةٍ مضطربة من تاريخ الشرق الأدنى.
إن مصير عائلتي ما هو إلا مصير مجتمع بأكمله، مجتمعٌ اجتُثّت جذوره من عالمٍ كان يشعر فيه بالألفة، ليعيش في عالمٍ اضطرّ فيه للقيام بمواءماتٍ مؤلمة للتأقلم. وبالتالي فإن تاريخ عائلتنا يصنع جزءًا من سياقٍ أكبر، ألا وهو تاريخ الجالية اليهودية في العراق. تدور قصتنا حول الحياة المستقرة والرائعة التي كنا نعيشها بجانب المسلمين في العراق، والحزن والألم الناتجَين عن النزوح، ومشاكل التكيُّف مع حياةٍ جديدة في “أرض الميعاد”، وفشلي الدراسي في إسرائيل الذي دفع أهلي إلى إرسالي لإكمال تعليمي في انكلترا، والسنوات الثلاثة، البائسة في معظمها، التي قضيتها في لندن، التي كانت بمثابة “منفاي” الثاني عن وطني الأم.
بين ضفّتي بابل
تصنع مسيرة عائلتي التسلسل الزمني للكتاب، وتعطيه نكهته البشرية. ولعلّ ما يضفي على قصّتنا أهميةً تاريخية واجتماعية أكبر هو انتماؤنا إلى فرعٍ من المجتمع اليهودي لم يعُد له وجودٌ اليوم تقريبًا. كنّا يهودًا عرب، نعيش في بغداد في انسجامٍ مع المجتمع العراقي. كنا نتحدث العربية في المنزل، وكانت عاداتنا عربية، وأسلوب حياتنا عربي، وكانت أكلاتنا شرق-أوسطية شهية، والموسيقى التي يستمع إليها والداي مزيجًا رائعًا من الموسيقى العربية واليهودية.
على حدّ علمي، تعود شجرة عائلتي إلى حقبة نفي اليهود من يهودا إلى بابل منذ ألفين وخمسمائة عام. يعبّر المزمور 137 من الكتاب المقدّس عن رغبة الشعب اليهودي، أثناء منفاه في بابل، في العودة إلى صهيون: “بينما كنّا جالسين على ضفاف أنهار بابل، بكينا عندما تذكّرنا صهيون”. وصهيون هو واحدٌ من الأسماء التوراتية للقدس، ولأرض إسرائيل ككل. لكن بالنسبة لعائلتي، لم يكن لصهيون أي جاذبية. كانت جذورنا راسخة بعمق بين نهري بابل، ولم يكن لدينا أي سبب يدعونا إلى اقتلاع تلك الجذور. كنّا عراقيين ندين باليهودية، وبالتالي كنّا أقليةً مثل اليزيديين والكاثوليك الكلدان والآشوريين والأرمن والشركس والتركمان والأقليات العراقية الأخرى. قبل عصر القومية، كانت العلاقات بين هذه المجتمعات المتنوّعة، على الرغم من بعض التوترات الحتمية التي شابتها، تتّسم بالحوار أكثر ممّا تتّسم بـ“صدام الحضارات”. عُرِفت بغداد بـ “مدينة السلام”، وكان العراق أرض التعددية والتعايش. داخل الجالية اليهودية، كانت تجمعنا بشركائنا في الوطن قواسم لغوية وثقافية مشتركة، أكثر من التي تجمعنا بإخواننا الأوروبيين في الدين. لم نكن نشعر بأي تقاربٍ مع الحركة الصهيونية، ولم تكن لدينا أي رغبة في مغادرة وطننا للذهاب إلى إسرائيل والعيش فيها.
هبوطٌ في السلّم الاجتماعي
مع ذلك، لم نكن عائلة يهودية عراقية نموذجية تمامًا. فمن ناحية والدتي، كنّا رعايا للإمبراطورية البريطانية العظمى. حيث غادر جدّي الأكبر لأمي العراق في شبابه متوجّهًا إلى بومباي، وهناك جمع ثروته وأصبح من الرعايا البريطانيين، ثم عاد إلى العراق ليتقاعد هناك، وبنى معبدًا يحمل اسمه. ثم قام جدّي لأمي، المولود في بريطانيا، بمغادرة بومباي مع والديه في سن السادسة عشرة للعيش في العراق، وعمل مترجمًا فوريًّا في القنصلية البريطانية في بغداد. لاحقًا، تم تجنيد اثنين من أبنائه الثلاثة في الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية، وعملوا كضبّاط في سلك المخابرات. عاشت العائلة بأكملها في العراق، الدولة التي أسّستها الإمبراطورية البريطانية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. في النهاية، أُجبِرَت العائلة على مغادرة البلاد، ولعل أبرز الأسباب مساهمة بريطانيا في تأجيج عداء المسلمين لليهود في جميع أنحاء العالم العربي في مساعيها لتسهيل استيلاء الصهاينة على فلسطين. كان أفراد العائلة من ناحية والدي جميعهم من اليهود العراقيين. كانت جدّاتي لأبي وأمي، واللتان أتَيتا معنا إلى إسرائيل، يشعران بحنينٍ شديد إلى العراق، حيث عاشتا هناك طفولتهما وشبابهما، وكانتا تسميّان العراق “جنة الله”. كان هذا البلد وطنهما الحبيب، بينما كانت إسرائيل أرض المنفى. يمكن وصف شعورهما الحقيقي من خلال مزمور 137: “بينما كنا جالسين على ضفاف أنهار صهيون، بكينا عندما تذكرنا بابل”. إن المأزق الذي عاشتاه يسلّط الضوء على مفارقةٍ رئيسية في قلب الصهيونية التي شدّدت على ارتباط الشعب اليهودي التاريخي بأرض أجدادهم في الشرق الأوسط، لكنها أسفرت عن دولةٍ تكاد ترتبط حصريًّا بالغرب في توجّهها الثقافي والجيوسياسي. كانت إسرائيل تعتبر نفسها، كما كان يعتبرها أعداؤها، امتدادًا لاستعمار أوروبا للشرق الأدنى، لكنه امتدادٌ “داخل” الشرق الأدنى وليس “له”. في هذا النوع من الدول المتمحور حول أوروبا، كان من الصعب على أشخاصٍ كجدّتي أن تشعرا بالانتماء.
دائمًا ما تحكي لي والدتي، التي تبلغ من العمر 96 عامًا وتعيش في إسرائيل، عن أصدقائها المسلمين الذين كانوا يزوروننا في بغداد. ذات يوم، سألتها ما إذا كان لدينا أصدقاء صهاينة. نظرت إليّ باستغراب، ثم ردّت بحسم: “لا! لا! الصهيونية هي شأن الأشكيناز. لم يكن لها يومًا أي علاقة بنا!”. كان هذا رأي من يكبرونني سنًّا في الصهيونية، قبل أن يُلقَى بنا في إسرائيل، وهو ما يُعدّ إنجازها الرئيسي. كانت صهيون بلدًا بعيدًا لم نعلم عنه الكثير. كان نزوحنا إلى صهيون بحكم الضرورة، لا بدافعٍ أيديولوجي. يمكن القول دون مبالغة أننا جُنِّدنا قسرًا في المشروع الصهيوني. كما أن الهجرة إلى إسرائيل عادةً ما توصف بأنها “عليا” أو صعود. لكن في حالتنا، كان الانتقال من العراق إلى إسرائيل بلا ريب “يريدا” أو نزولاً، نزولاً إلى أسفل السلم الاجتماعي والاقتصادي. لم نخسر أصولنا وممتلكاتنا فحسب، ولكن في أثناء رحلتنا إلى هوامش المجتمع الإسرائيلي، فقدنا أيضًا إحساسنا القوي بهويتنا التي كنّا نعتزّ بها كيهودٍ عراقيين.
صراع الحضارات والادّعاءات الكاذبة
في مرحلةٍ لاحقة من حياتي، خلال مسيرتي المهنية في انكلترا وبصفتي خبيرًا في العلاقات الدولية في منطقة الشرق الأوسط ومفكِّرًا، طعنتُ في صحّة سرديّتَين سائدتين: أطروحة “صراع الحضارات” لصامويل هنتنغتون، والسردية الصهيونية عن يهود الدول العربية، والتي تستبعد ضمنيًّا إمكانية وجود هوية يهودية عربية. تؤكّد السردية الصهيونية على أن معاداة السامية متأصّلة في الدين الإسلامي، وأن الإسلام طالما اضطهد اليهود، وأن العداء تجاه اليهود مستفحلٌ في جميع الدول العربية، وأن اليهود في تلك الدول تعرّضوا للتهديد بالإبادة بمحرقةٍ جديدة، وأن دولة إسرائيل الناشئة هبّت ببسالة لنجدتهم وقدّمت لهم ملاذًا آمنًا. كما تؤكّد السردية الصهيونية أن معاداة السامية في العالم العربي تقف حجر عثرة أمام أي إمكانية لتسوية سلمية للصراع بين إسرائيل وجيرانها العرب. تُعزي تلك القراءة هجرة اليهود العرب إلى إسرائيل بشكل أساسي إلى الاضطهاد والوصم الذي تعرّض له اليهود في موطنهم الأصلي، وإذا كانوا يتّخذون في إسرائيل مواقف متشدّدة أحيانًا، فذلك يرجع إلى ما اختبروه أثناء عيشهم مع العرب. إلا أن التفكير بعمق في الدور الذي لعبته تجربتي الشخصية في تشكيل رؤيتي للعالم، والتشكيك في كلٍّ من “صراع الحضارات” والسردية الصهيونية، لم يراودني سوى في السنوات الأخيرة.
كان لنظرية “صراع الحضارات” لصامويل هنتنغتون صدىً في أوائل التسعينيات. كان هذا الأستاذ في جامعة هارفرد يرى أن الصراعات الثقافية بين الشعوب ستسيطر على العالم مثل ذي قبل، بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي. وفقًا له، لن تعود الفروق الكبرى بين الشعوب سياسية أو أيديولوجية، وإنما ثقافية، حيث ينقسم البشر على أسُسٍ ثقافية وغربية وإسلامية وهندوسية، إلخ. وهو يرى أن الثقافة الإسلامية معادية للغرب بشكل أساسي، وأن مواطني العالم الإسلامي سيرفضون القيم الغربية لارتباطهم بدينهم أكثر من ارتباطهم بدولتهم القومية، والذي يتعارض مع المُثُل الغربية كالفردية والتعددية والحرية والديمقراطية.
كان لهذه الأطروحة، التي فقدت اليوم جزءًا كبيرًا من مصداقيتها، تأثيرٌ كبير على مقاربة بعض المؤرخين الصهاينة للصراع العربي الإسرائيلي. حيث يعتبر هؤلاء المؤرخون أن الصراع متجذّر في العقيدة الإسلامية وكراهية اليهود، ويتبنّون منظور هنتنغتون بتأكيدهم على البعد الديني والروحي للصراع1. أحد هؤلاء المؤرّخين هو مارتن غيلبرت، المؤرّخ اليهودي البريطاني والصهيوني المتعصّب، الذي كرّس آخر كتابٍ له لسرد تاريخ اليهود في البلاد الإسلامية. وهو كتابٌ جريء لكونه يغطّي 1400 عام من التاريخ اليهودي العربي، منذ ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي حتى يومنا هذا، لكنه ليس سوى استعراض لكراهية وعداء وعنف المسلمين إزاء اليهود. وفق غيلبرت، تمثل معاداة السامية القوة الأساسية والضمنيّة التي شكّلت أساس العلاقات بين المسلمين واليهود. بتكديس القصص المروّعة الواحدة فوق الأخرى، رسم غيلبرت صورةً مضلِّلة. كان غيلبرت مهيَّئًا نفسيًا لرؤية معاداة السامية في كل مكان، وقد نتج عن ذلك تشويه لتاريخ العلاقات بين اليهود والمسلمين لخدمة البرنامج السياسي الصهيوني2. ولعل العامل المشترك بين هنتنغتون وهؤلاء المؤرخين الصهاينة هو العقلية الاستشراقية، باستنادهم إلى صورٍ نمطية عن الشرق. فهم يفسّرون عداء المسلمين للغرب، وبالتالي عداءهم لإسرائيل، بأنه نتاجٌ حتمي لديانتهم وثقافتهم وليس لظروفٍ تاريخية معيّنة، ويرون أن صراع الحضارات سيكون بين الحضارة اليهودية المسيحية والحضارة الإسلامية. تقود النظرة الماهيوية لما يعنيه أن يكون الشخص مسلمًا إلى وصفٍ يختزل رؤية المسلمين للعالم الخارجي عمومًا ولليهود خصوصًا. هذا النوع من التحليلات لا يمتّ بصلة إلى التاريخ، لكونه يختزل تنوّع العالم الإسلامي في كتلةٍ صمّاء من الجهل والغضب، ويتجاهل الظلم الحقيقي، وغير الوهمي، الذي يشعر به المسلمون تجاه القوى الغربية وإسرائيل.
تلك الرؤية القائمة على المركزية الأوروبية والساذجة للعالم لها ما يقابلها في رؤية بعض النشطاء الإسلاميين الراديكاليين. حيث يرى الإسلاميون المتشدّدون أن تاريخ العرب والمسلمين يقوم على صراعٍ جوهري بين الدين والثقافة. فاليهود بالنسبة إليهم لم يكونوا يومًا جزءًا من نسيج المجتمع العربي، بل كانوا دخلاء، وطالما شكّلوا عنصرًا معاديًا، بل وطابورًا خامسًا في المجتمع الإسلامي. كما يعتبرون دولة إسرائيل كيانًا غير شرعي زُرِع بينهم من قبل القوى الاستعمارية بهدف تشتيت صفوفهم وإضعافهم. وبالتالي فإن استخدام كل من الصهاينة والإسلاميين لتاريخ العلاقات بين اليهود والمسلمين انتقائي، يخدم برامجهم العلمانية أو الدينية على حدٍّ سواء، إذ يدعو كلا المعسكرين إلى التشكيك في العدوّ والتعبئة المستمرة في صراعهما من أجل الهيمنة والسيطرة. لا يتماشى تاريخ عائلتي مع أي من السرديّتين الصهيونية والإسلامية لتجربة اليهود تحت الحكم الإسلامي. وإذا تعمّقنا فيه، سنجد أنه يخالف منطلقات أطروحة “صراع الحضارات” التي تشكّل أساس هاتين السرديّتين. وبناءً عليه، فإن سيرة عائلتي ليست مثيرة للاهتمام في حد ذاتها فحسب، وإنما تنطوي على عناصر من شأنها أن تساعدنا على فهم مسار تاريخ الشرق الأوسط الحديث. وبصورةٍ أدقّ، تُعَدّ تصحيحًا للسردية الصهيونية التي ترى أن المسلمين والصهاينة غير قادرين بالسليقة على العيش معًا بسلام، وأنه كُتِبَ عليهم العيش في صراعٍ إلى أبد الآبدين.
ثلث سكان بغداد
الصهيونية حركة أوروبية نشأت في القرن التاسع عشر، قدّمت حلّاً لليهود الذين كانوا يعانون من التمييز والاضطهاد في أوروبا بتأسيس دولةٍ لهم في فلسطين. في المقابل، كان التسامح الديني سائدًا في العراق منذ القدم، وكان تاريخه الطويل يتّسم بتناغمٍ نسبي بين طوائف المجتمع المختلفة. لم يكن اليهود وافدين جدد أو أغراب في العراق، ولم يكونوا بلا شك دخلاء. فقد كانوا يعيشون في بابل منذ العام 586 قبل الميلاد، بعد أن هدم الملك نبوخذنصر مملكتهم في القدس ونفاهم. بعدها بقرون أصبحت بابل المركز الروحي للشتات اليهودي، ومقرًا لاثنين من أبرز أكاديمياته الدينية، وهما سورا وبومبديتا (الفلوجة حاليًا). هناك جُمِع تلمود بابل وكُتِبَ القانون اليهودي. هكذا وجد اليهود مستقرّهم في بابل قبل مجيء الإسلام في القرن السابع الميلادي. وبعد أن أصبحت العراق بلدًا ذا أغلبية مسلمية، ظل اليهود جزءًا لا يتجزّأ من نسيج المجتمع العراقي. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، كان اليهود يمثّلون ثلث سكان بغداد، ودائمًا ما كانت تلك المدينة توصف بأنها مدينة يهودية. في أعقاب الحرب، استمر اليهود في لعب دورٍ كبير في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والأدبية والفكرية في العراق. ولعل هذا الدور على وجه التحديد هو ما أجّج عداء المسلمين تجاههم مع تصاعد القومية والطائفية.
مورست العديد من أشكال التمييز بحق الأقلية اليهودية في ظل الإمبراطورية العثمانية، لكنها لا تقارَن بما كانوا يتعرّضون له في أوروبا المسيحية. في عهد العثمانيين، تمكّن اليهود العراقيون من تحسين أوضاعهم بشكلٍ كبير، والاستفادة من التنظيمات، وهي الإصلاحات التي جرت في القرن التاسع عشر. حيث أصبح لهم ممثّلون في البرلمان العثماني، وهيمنوا على حركة التجارة. وفي ظل مملكة العراق الحديثة التي تكوّنت من ثلاث ولاياتٍ عثمانية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، ظل اليهود أقليةً من بين أقلياتٍ أخرى. أما في أوروبا، فكان يُنظر إليهم باعتبارهم “الآخر”، وبالتالي كانوا يمثّلون مشكلة. كانت أوروبا تواجه ما اصطلح أعداء اليهود على تسميته “المسألة اليهودية”. وقد قاد “الحل الجذري” الذي توصّلت إليه النازية لتلك المسألة إلى إبادة ستة ملايين يهودي أوروبي. على عكس أوروبا، لم يعرف الشرق الأوسط “المسألة اليهودية”. كانت معاداة السامية داءً أوروبيًّا، انتقلت عدواه إلى الشرق الأدنى. لم يكن اليهود العراقيون يعيشون في غيتوهات، ولم يشهدوا القمع والعنف والاضطهاد والتطهير العرقي الذي شهدوه في أوروبا. لم تأتِ تسمية مارك مازوفر لتاريخ القرن العشرين في أوروبا بالـ“القارة المظلمة” Dark Continent من فراغ3. كان يلزم أوروبا وقتًا أطول بكثير ممّا لزم العالم العربي لتقبُّل اليهود كشركاءٍ في الوطن لهم نفس الحقوق. صحيحٌ أن العراق شهد صعوباتٍ وتوتّرات، ومذبحةً مؤلمة شهيرة لليهود في يونيو/حزيران 1941، بيد أن الكوزموبوليتانية والتعايش السلمي والتفاعل المثمر كانت هي السمات المسيطرة على المشهد. لا يعني ذلك أن وضع اليهود في البلدان الإسلامية كان يخلو من المشاكل، لكن جمع كل تلك المسائل تحت مسمّى “المسألة اليهودية” سيصنع حيرةً والتباسًا.
لم تهاجر عائلتي من العراق إلى إسرائيل بسبب صراع بين الحضارات أو تعصّبٍ ديني. لم ينهَر عالمنا لأننا عجزنا عن التفاهم مع جيراننا المسلمين. كان الدافع الرئيسي لنزوحنا سياسيًّا، وليس دينيًّا أو ثقافيًّا. لقد زُجَّ بنا في الصراع بين الصهيونية والقومية العربية، أيديولوجيّتان علمانيّتان متصارعتان، وأُقحِمنا عنوةً في النزاع بين اليهود والعرب على فلسطين. نشأ هذا الصراع عشية الحرب العالمية الأولى، واشتدّ في أعقاب الحرب العالمية الثانية. عام 1948، شارك الجيش العراقي في الحرب العربية ضد دولة إسرائيل حديثة النشأة، وأسفرت هزيمة الجيوش العربية عن ردّ فعلٍ عنيف ضد اليهود في كامل الوطن العربي. كانت الصهيونية أحد الأسباب الرئيسية لردّ الفعل هذا، حيث منحت اليهود قاعدةً إقليمية للمرة الأولى منذ أكثر من ألفي عام. وقد أعطى ذلك الفرصة للمسلمين الأصوليين وأنصار القومية العربية المتعصّبين لوضع شركائهم في الوطن من اليهود في خانة العدو الصهيوني الذي يبغضونه، والمطالبة بطردهم. من كانوا يومًا من أعمدة المجتمع العراقي أصبح يُنظَر إليهم يومًا بعد يوم كطابورٍ خامس يُخشَى وجوده.
لطالما وضَع الصهاينة نصب أعينهم هدفَ استقدام أكبر عددٍ ممكن من اليهود من جميع أنحاء العالم لبناء الدولة اليهودية. كان هدفهم منذ البداية تأسيس دولةٍ يهودية مستقلة على أكبر مساحةٍ ممكنة من فلسطين، بأكبر عددٍ ممكن من اليهود وأقل عددٍ ممكن من العرب داخل حدودها. حتى الحرب العالمية الثانية، كانت أنشطة الصهاينة تركّز بشكلٍ أساسي على تجمّعات اليهود الكبرى في أوروبا الشرقية. لم يكن يهود الشرق الأوسط بالنسبة لهم سوى “عناصر بشرية” أدنى مرتبة، لا يمكنها أن تقدّم سوى مساهمة محدودة في بناء دولة يهودية حديثة في فلسطين. أحدث الهولوكوست نقلةً نوعية في المواقف الصهيونية في هذا الصدد. بإبادته للمصدر البشري الأساسي للدولة اليهودية، أجبِر قادة الحركة الصهيونية على الاتجاه نحو الشرق. بعبارةٍ أخرى، في أعقاب الهولوكوست، أصبح يهود الشرق الأدنى لأول مرة عنصرًا أساسيًا في المشروع الصهيوني لتأسيس دولةٍ يهودية دائمة في فلسطين.
الضحايا الفسطينيون
أثناء الحرب الإسرائيلية العربية في 1948، ترك حوالي 750 ألف عربي منازلهم في فلسطين أو تم تهجيرهم قسرًا. في اللغة العربية، أطلِق على هذا العام المشؤوم “النكبة”، وبالعبرية أطلِق عليه “حرب الاستقلال”. بالنسبة للصهاينة، لم يكن عام 1948 نصرًا عسكريًّا فحسب، بل علامةً تاريخية سجّلت بلوغهم مرتبة الدولة والسيادة، واللحظة التي أعيد فيها إدراج اليهود في تاريخ العالم. وبناءً عليه، أصبحت لدينا روايتان وطنيتان مختلفان كل الاختلاف عن عام 1948. ولكن ما لا يمكن إنكاره هو أن نشأة دولة إسرائيل تسبّبت في ظلمٍ فادح للسكان الأصليين. لا شك أن الفلسطينيين هم المتضرّر الأول من المشروع الصهيوني، حيث أصبح أكثر من نصفهم لاجئين، ومُحيَ اسم فلسطين من على الخريطة. إلا أن هناك فئةً أخرى من الضحايا، غير معروفين ولا يجري الحديث عنهم كثيرًا، هم يهود الدول العربية. إذ قضى مزيجٌ سام من القومية العربية والصهيونية على التعايش السلمي بين اليهود والمسلمين في العالم العربي بعد نشأة دولة إسرائيل.
تتمحور تلك المذكّرات حول الفئة الثانية من ضحايا الحركة الصهيونية، التي يعبّر عنها تاريخ عائلتي. أكرّر، كنّا يهودًا عرب. هذا هو التعريف الأمثل لهويّتنا قبل النزوح. بيد أن مصطلح “يهودي عربي” يلقى رفضًا شديدًا في إسرائيل. يمكنكم أن تصفوا أنفسكم بيهودي فرنسي أو يهودي روسي أو يهودي روماني أو حتى يهودي ألماني، رغم ارتباط ألمانيا المشؤوم بالهولوكوست. ولكن إذا وصفتم أنفسكم بيهودي عربي كما أفعل، ستلقون معارضةً على الفور. يجب الفصل بين الصفتَين، إذ يعتبَر مصطلح “يهودي عربي” في نظر معارضيه خلطًا بين هويّتين مختلفتين. أما في نظري، ينتِج الجمع بين الصفتَين هويةً موحّدة: يمكن للعربي أن يكون يهوديًّا، ولليهودي أن يكون عربيًّا. يتنافى ذلك مع القناعة الإسرائيلية السائدة بأن العربي لا يمكن أن يكون يهوديًّا، واليهودي لا يمكن أن يكون عربيًّا. إذ تعتبر مفهوم اليهودي العربي أمرًا مستحيلاً من منطورٍ أنطولوجي، فاليهود والعرب يجري تصويرهم في المعتاد كشخصياتٍ متنافرة، عالقة في صراعٍ أبدي. من ناحيتهم، يؤيّد المتطرفون العرب كذلك تلك الرؤية المباشرة ثنائية القطب. إن وجود صراع حضارات وصدعٍ لا يمكن رأبه بين المسلمين واليهود أمرٌ يُردَّد على مسامعنا بلا انقطاع. أدّى ذلك إلى ترسيخ أطروحة “صراع الحضارات”، وهو ما وفّر مادةً ثرية لأنصار رفض الوجود اليهودي العربي في كلا المعسكرين.
سيرتي الشخصية، تحدٍّ للسرديّة السائدة في إسرائيل
يرسم تاريخ عائلتنا في العراق – والكثير من العائلات المنسية كعائلتنا – لوحةً مختلفة جذريًّا. فهو يستدعي فترةً كان فيها الشرق الأوسط أكثر تعدّدية، يسوده قدرٌ كبير من التسامح الديني وثقافةٌ سياسية تقوم على الاحترام المتبادل والتعاون بين الأقليات العرقية المختلفة. إن سيرة عائلتي بمثابة تذكير قوي بالهويّات الشرق الأوسطية التي كانت مزدهرة فيما مضى، والتي تم إحباطها، بل وطمسها، لتنفيذ أجنداتٍ سياسية قومية. أما سيرتي الشخصية فتتتبّع جذور إحساسي بخيبة الأمل تجاه الصهيونية، إذ يتّضح من خلالها كيف ساهمت تجربتي الشخصية في تكوين رؤية متشكّكة تجاه الخطاب الصهيوني، ولماذا، بعد مرور أعوام كثيرة، جعلت منّي مؤرّخًا إسرائيليًّا تنقيحيًّا.
من هذا المنطلق، تُعد مذكراتي بيانًا تنقيحيًّا، ووثيقةً مخالِفة، وتاريخًا بديلاً، وتحدّيًا للرواية الصهيونية التي تلقى رواجًا شديدًا عن يهود الدول العربية. وهي تقترح كذلك أن تاريخ العلاقات بين اليهود والمسلمين في العراق تم تشويهه عمدًا لخدمة الدعاية الصهيونية.
فالكتاب هو شهادةٌ شخصية عن ماضٍ معقّد ودراسةٌ مدعومة بحجّةٍ سياسية في آنٍ واحد. إن العوالم الثلاثة التي يشير إليها العنوان هي بغداد، التي عشت فيها حتى سن الخامسة، ورمات غان التي عشت فيها حتى سن الخامسة عشرة، ولندن التي عشت فيها حتى سن الثامنة عشرة. وفي خلفية الرواية نشهد فترةً مضطربة من التاريخ اليهودي، شهدت انتشار الدعاية النازية في العراق، والتطهير العرقي الذي راح ضحيّته يهود أوروبا، وتقسيم فلسطين، وميلاد دولة إسرائيل، ونشأة أزمة اللاجئين الفلسطينيين، والنزوح الجماعي ليهود العراق والدول العربية الأخرى إلى إسرائيل، والتوتّرات بين الأشكناز والسفرديم في السنوات الأولى لتأسيس الدولة، والتي استمرّت بشكلٍ أو بآخر حتى يومنا هذا. بشكلٍ شخصي، كان عليّ مع كل انتقالٍ من مكانٍ إلى آخر أن أتأقلم مع مجتمعٍ جديد، وأن أتعلّم لغةً جديدة؛ العبرية في البداية، ثم الإنكليزية. لم تكن تلك العملية سهلةً أو مباشرة أبدًا. على حد تعبير إيلا شوحط، تتناول تلك المذكرات “مشاهد لغوية” و“رسم خريطة عاطفية للانخلاع من الجذور”. إيلا شوحط لمن لا يعرفها هي ناقدة ثقافية بارزة من أصلٍ يهودي عراقي، تطعن منذ عقود في الرواية التقليدية للتاريخ اليهودي، وانحيازها للمركزية الأوروبية على وجه الخصوص. ويغطّي تحليلها النقدي مجموعةً واسعة من القضايا، على رأسها طبيعة الصهيونية، ومكانة المزراحيين أو اليهود الإسرائيليين في المجتمع الإسرائيلي، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وغيرها من حالات النزوح والشتات في الشرق الأوسط. وهي تؤكّد أن الروايات الكلاسيكية للتاريخ اليهودي تميل إلى إسقاط تجارب اليهود في أوروبا المسيحية على تجارب اليهود في العالم الإسلامي رغم اختلافها التام. وهي ترفض ما تسميه “إلصاق صفة الغيتوهات” بتاريخ يهود الشرق الأدنى و“تلطيخه بالدماء”؛ أي الافتراض الخاطئ بأن يهود الشرق الأدنى كانوا يعيشون في غيتوهات، وأن تاريخهم عبارة عن سلسلة لا تنقطع من المذابح. ويأخذنا عملها إلى ما وراء الرؤى الثنائية والمستقطِبة، حيث يسلّط الضوء على شخصية اليهودي العربي المركزية، ويتناول العلاقة بين قضيتي فلسطين واليهود العرب، ويقدّم أوجه تشابه مؤثّرة بين الصدمة والتشريد اللذين راح ضحّيتهما الفلسطينيين واليهود العرب على حدٍّ سواء. ولعل أكثر استنتاجات شوحط إثارةً للانتباه هو أن المؤسسات الاستعمارية والاستشراقية التي شكّلت أساس المشروع الصهيوني لم تكن موجّهة ضد السكان العرب الأصليين في فلسطين فحسب، بل كانت موجّهة كذلك ضد المهاجرين اليهود من الدول العربية المجاورة.
وإذا كان إدوارد سعيد قد حلّل الحركة الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها الفلسطينيين، فقد قدّمت إيلا شوحط منظورًا جديدًا بتحليلها من وجهة نظر ضحاياها المزاحيين أو الـ“مزراحيم”، وهو المصطلح المستخدم للإشارة إلى يهود الدول العربية. لقد فتح عملها عينيّ، لا سيّما على طبيعة الهوية الملتبِسة والمحيِّرة. تقول شوحط في دراسةٍ تاريخية لها عن اليهود العرب: “الحرب صديقة الثنائيات... فهي لا تترك مجالاً للهويات المركَّبة”. ساعدتني آخر مجموعة مقالاتٍ صدرت لها على فهم القوى السياسية التي شكّلت مسار حياتي بصورةٍ أفضل، وأعطتني دفعةً قوية لمواصلة التفكير في الأسئلة الوجودية التي تتجاوز مسيرتي الشخصية4.
من الكتب الأخرى التي أثّرت فيّ بعمق، كتاب أوريت باشكين: “البابليّون الجُدُد: تاريخ اليهود في العراق الحديث”5. وباشكين أستاذة جامعية إسرائيلية من الأشكناز، حاصلة على الدكتوراة من جامعة برينستون، وتدرّس حاليًا التاريخ في جامعة شيكاغو. يقدّم كتابها وصفًا مثيرًا للتعاطف والتأمّل للحياة الفكرية والاجتماعية والثقافية ليهود العراق في النصف الأول من القرن العشرين. حيث تحلّل النصوص التي أنتجها يهود العراق، وتستكشف السياقات التاريخية التي شكلّت عالم مؤلفيهم. نقابل في كتابها العديد من اليهود “الذين اعتبروا العراق وطنهم، واللغة العربية لغتهم، والتعايش بين الجاليات العراقية المختلفة رؤيتهم السياسية”. أتاحت لي قراءة كتاب باشكين معرفة تاريخ مجتمعي، كما ساعدتني على التغلب على إحجامي عن كتابة قصة حياتي والحديث عن نفسي. ذكّرتني الكاتبة بأن التاريخ هو مجموعة من السير الذاتية الفردية، وفي الوقت نفسه، زوّدتني دراستها بسياقٍ وإطار عملٍ يمكن أن أدرِج فيه تاريخي الشخصي.
تشكّل معاداة السامية أساس خطاب المظلومية الذي يتبنّاه اليهود حول العالم. استحدث المؤرّخ اليهودي الأمريكي سالو بارون تعبير “بكائية التاريخ اليهودي”، الذي يصف التاريخ اليهودي باعتباره سلسلةً لا نهائية من معاداة السامية والاضطهاد والتمييز والقمع والتعذيب التي طالت اليهود، بلغت ذروتها في الهولوكوست. وقد استخدم بارون هذا المصطلح للتعبير عن استهجانه لتلك البكائية، لكونها تسطّح تاريخ يهود أوروبا وتشوّهه، وتضخّم أوجه العجز وتتغاضى عن العناصر الإيجابية والإنجازات. ولكن حتى لو قبلنا جدلاً أن تلك البكائية تعبّر عن تاريخ يهود أوروبا، فهي لا تنصِف بكل تأكيد تاريخ يهود الشرق الأدنى. لذا من المهم تذكّر وتسجيل الفترات التي كان فيها اليهود، كعائلتي، يعيشون في أجواءٍ من التعددية الثقافية والتعايش التي سادت الدول الإسلامية قبل نشأة دولة إسرائيل. إنه أفضل نموذجٍ يمكن تقديمه في مواجهة حالة الدمار المزري التي يعيشها الشرق الأدنى المعاصر، من أجل مستقبلٍ أكثر إشراقًا. سأعود لتلك النقطة في الخاتمة.
1يصف بيني موريس على سبيل المثال حرب الجيوش العربية على إسرائيل عام 1948 بأنه جهاد، أي حربٌ مقدّسة. في خاتمة كتابه عن الحرب الأولى بين العرب وإسرائيل، كتب موريس أن تلك الحرب لم تكن فحسب صراعًا بين حركتين قوميّتين على قطعة أرض، لكنها كانت “جزءًا من صراعٍ أعمّ وأشمل بين الشرق الإسلامي والغرب” (بيني موريس، 1948: “الحرب العربية الإسرائيلية الأولى”، نيو هيفن، إصدارات جامعة يال، 2008، ص. 394.)
2مارتن غيلبرت، “في بيت إسماعيل: تاريخ اليهود في الأراضي الإسلامية”، نيو هيفن، إصدارات جامعة يال، 2010.
3“القارة المظلمة، تاريخ القرن العشرين”، دار نشر كومبليكس، 2005.
4إيلا شوحط، “استعمار وتصدّعات. نصوصٌ حول اليهود العرب”، ترجمه من الإنجليزية جويل ماريلي، دار نشر لوكس كيبيك، مجموعة هومانيتيه، 2021.
5إصدارات جامعة ستانفورد، 2012.