
بين العوالم والقيم القديمة والجديدة، بين التقاليد والحداثة، بين الانفصال والاستمرار. وحتى بين التقهقر والوثب إلى الأمام. هل من المفيد أن نذكر أن كل حضارة ستواجه يوما ما، عن وعي أم لا، هذا النوع من الاختيارات الذي يمس كل أنشطة المجتمعات، سياسية كانت أم ثقافية وعلمية؟ وهل يمثل العرب استثناءً؟ نستحضر صورة البدوي الذي يفضّل تأمل القمر في وسط الصحراء، فقليلا ما يهمه استكشافه! ومع ذلك.. على غرار ثقافات أخرى، اضطرت ثقافات المجتمعات العربية إلى إعادة تعريف نفسها بالنسبة لماضيها خلال نهضتها التي واكبت انهيار الإمبراطورية العثمانية عام 1922. وينطبق ذلك أيضاً على موسيقاها، وهو ما نميل أحيانا إلى نسيانه. وفي هذا الخصوص، هل كان أبدا للعرب هوية؟ سؤال شاسع..
يعود ذلك فعلا إلى ما يقارب القرن، كما يمكن لنا أن نقرأه في هذا الكتاب الذي صدر مؤخّراً بشأن المؤتمر الأول للموسيقى العربية عام 1932 في القاهرة، وهو من أهم الأحداث في التاريخ العالمي للموسيقى، تحت عنوان “الموسيقى العربية تبحث عن هويتها”، للباحث اللبناني-الفرنسي وأستاذ الأدب العربي برنار موصلي (1953-1996). يستند هذا العمل إلى أطروحته غير المكتملة، التي كانت موضوع طبعة نقدية وموسعة من طرف الأستاذ في علم موسيقى الشعوب جان لامبير، الذي أضاف مقدمة وخاتمة له.
يفسر برنار موصلي: “جاء مؤتمر الموسيقى العربية إجابة لدعوة العديد من الموسيقيين والملحنين والمنظرين المصريين وأيضا السوريين-اللبنانيين. وبالنسبة للكثير من هؤلاء المثقفين، كان يُفترض من المؤتمر أن يكون مناسبة لتجاوز الموسيقى”الشرقية“، وكانوا يقدرون أنه سيكون موجهّا للمستقبل، وأنه سيجسّد نيتهم في تأسيـس موسيقى جديدة بمباركة علماء الموسيقى الأوروبيين الذين من المفترض أن يفصلوا في النزاع بين القديم والجديد.”
وشارك في المؤتمر الملحن وعازف البيانو المجري بيلا بارتوك. وننقل على لسان أستاذ موسيقى الشعوب ومدير معهد الموسيقى المغربية بمدينة الرباط ألكسي شوتان: “يبدو هذا المؤتمر وكأنه مجلس الطبقة العامة1، يطالبه الشرقيون بوضع قانون ثابت ودستوري فعلي للموسيقى العربية.”
من 14 آذار/مارس إلى 3 نيسان/أبريل 1932، جمع مؤتمر القاهرة علماء الموسيقى والموسيقيين من مختلف أنحاء العالم العربي، بمبادرة رئيسية من البارون الفرنسي رودولف ديرلانجي وتحت رعاية الملك فؤاد. لم تكن جامعة الدول العربية قد وُلدت بعد. لكن الخبراء كانوا يجتمعون بالفعل لتوحيد أشكال التعبير الموسيقي التي ستتحرر بذلك من قرون من التقاليد. وهو يمثل مشروعا واسعا للتحرر.
هيمنة مصر
وقد تصادمت هناك عدة رؤى للموسيقى العربية الحديثة. من ناحية، المحافظون المخلصون لتقاليد الارتجال والطرب، ومن ناحية أخرى، الإصلاحيون الذين أرادوا استخدام الوسائط من اختراع الغرب، وخاصة الراديو والسينما ووسائل الاستماع الجماهيري.
كانت هذه فرصة لإجراء العديد من التسجيلات على إسطوانات 78 دورة من الموسيقى المصرية الكلاسيكية الشعبية المقدسة، إلى الموسيقى العربية، خاصة من العراق والجزائر وتونس والمغرب (والتي لم تكن دولا مستقلة بعد). وبالرغم من نشرها بالكامل من قبل مكتبة فرنسا الوطنية في عام 2015، بالاعتماد على أبحاث برنار موصلي وتحت إشراف جان لامبير، فإن هذه التسجيلات المعاد صياغتها لم تفش بعد عن كل أسرارها، كما يظهر لنا الكتاب.
وعلى ضوء الأبحاث الأخيرة، يبرز اقتراح لتفسير الإرث التاريخي والأنثروبولوجي لهذا المؤتمر. ويتساءل مؤلف هذا العمل الهائل والمثير: “كيف نوافق بين صلة القرابة و الحضارة الموحدة التي يشعر بها العرب تلقائيا، وبين تنوع تقاليدهم الموسيقية؟ كيف نخلق موسيقى عربية مستقبلية بطريقة جامعة، تكون في آن واحد مبدعة وشاملة لثروتها الثقافية الغنية؟”
يشرح جان لامبير لموقع “أوريان”21:
برنار موصلي، الذي كان يعدّ في أطروحة الدكتوراه الخاصة به تحليلا لمناقشات المؤتمر، قام أولا بوضع هذا الحدث الجوهري في سياق الفترة العثمانية المتأخرة، والنهضة العربية في مجال الآداب والثقافة، بالإضافة إلى رعاية الخديوية المصرية. ومكّن المؤتمر خاصة من “تعريب” الذخيرة الموسيقية العثمانية، ووافق على إدخال الكمان، لكنه رفض البيانو لأنه بعيد جدًا عن “الأذن” العربية. وتم فيه تأييد (رغم التحفظات) إنشاء سلم نظري موسيقي عربي مكوّن من 24 ربع تون (وبالتالي أكثر ثراءً من السلم الغربي المكون من 12 نصف تون)، مستندا في ذلك إلى المنظرين العثمانيين من الفترة المتأخرة. لكن يتمثل عيب هذا النظام في أنه كان يمحو الاختلافات المحلية للنغمات الدقيقة المستخدمة في القاهرة أو دمشق أو حلب، ما جعلها تفقد تجسيدها (ومن المفارقة أن آلة التوليف تمكنت بعد عقود من إعادة إنتاج هذه الفروق للنغمات الدقيقة..).
ومن خلال تحليله الصريح لمناقشات المؤتمر، أدرك برنار موصلي مدى تأثير الموسيقى العثمانية في نظيرتها العربية، بالإضافة إلى الدور الهام، والذي أخُفيَ فيما بعد، الذي لعبته عديد الأقليات المسيحية واليهودية.. وإزاء الهيمنة المصرية، أبرز موصلي الأهمية التاريخية لسوريا في القرنين الثامن والتاسع عشر، والتي لم يعرها المؤتمر الأهمية الكافية.
وفي الواقع، كان النقاش بين التقليد القديم والحداثة الجديدة، والمقترن بالنقاش بين الشرق والغرب، قد أثار بالفعل مسألة الهوية الثقافية العربية، وذلك قبل أن تحصل معظم البلدان العربية على استقلالها. كما طُرحت أيضا مسألة هيمنة مصر في علم الموسيقى (حيث تحتلّ 10 من أصل 18 قرصا مدمجا في مجموعة المكتبة الوطنية الفرنسية)، بسبب مركزيتها الجيوسياسية والاقتصادية، على الأجزاء الأخرى من الأمة العربية التي كانت لا تزال في طور التكوين.
تأثير الموسيقى العثمانية
لا يزال مصطلح “الموسيقى العربية” إشكالياً حتى يومنا هذا، في وقت كانت فيه فكرة “الأمة العربية” نفسها تبحث عن جذورها. وفي الوقت نفسه، كما ذكّر برنار موصلي، “واجه المنظّرون الشرقيون صورة الموسيقى الغربية المهيمنة، المختلفة تماماً والقريبة في آن واحد بحكم جوارها للحضارات العربية لأكثر من ألف عام”. علاوة على ذلك، لاحظ المنظّرون الشرقيون “تعايش التقليد العربي والتقليد التركي (العثماني) في البوتقة ذاتها منذ خمسة قرون على الأقل”. ويضيف جان لامبير:
حتى وإن كان حديثاً، فإن هذا المصطلح [الموسيقى العربية] يحيل إلى ظواهر فنية متنوعة للغاية تجلّت منذ أكثر من ألف وخمسمائة عام في فضاء لغوي ممتد على ثلاث قارات: آسيا وأفريقيا وأوروبا [..]. وكان لها “مرجعية تاريخية رئيسية تتمثل في تطور موسيقى البلاط خلال السلالات الأولى للإمبراطورية الإسلامية، من القرن السابع إلى القرن الثالث عشر، وخاصة في البلاط العباسي [..] مع استخدام اللغة العربية الفصحى أو العامية” كـ“علامة ثقافية رئيسية”.
كانت تلك أيضاً حقبة كبار المنظّرين الناطقين بالعربية في الموسيقى - مثل ابن سينا والفارابي وصفي الدين الأرموي - الذين كانوا غالبا من أصول إيرانية.
ولتزداد الأمور تعقيداً، واجه المثقفون العرب في القرنين التاسع عشر والعشرين لغزا تاريخيا محيّراً: “منذ تدمير بغداد على يد المغول عام 1254، لم تعد هناك سلطة سياسية عربية ولا رعاية عامة واسعة النطاق يمكن أن تكون مرجعاً ’عربياً’ لهذه الظواهر الثقافية”. وهو ما لم يتحسن مع الهيمنة العثمانية الطويلة التي استمرت خمسة قرون على الشعوب العربية.
يجب أيضاً التذكير بأن مصطلح “موسيقى” طرح هو الآخر إشكالية، إذ لم يصبح مرادفاً للـ“موسيقى” بمعنى فن الأصوات إلا في العصر الحديث. على مدى قرون، “دفعت الدلالة العلمانية لهذا المفهوم اليوناني الأوساط الدينية إلى الابتعاد عنه”، لأن الطرب كان بالنسبة لهم شيئاً خطيرا، وكذلك الملاهي التي قد تصرف المؤمنين عن الصلاة. تغيرت الأمور منذ ذلك الحين لحسن الحظ، وتكيّفت الثقافات الموسيقية العربية.
أما مفهوم “الموسيقى الشرقية” الذي استُخدم إلى حدود مؤتمر القاهرة، فقد طرح بنفسه إشكالية الاستشراق، التي ندد بها لاحقا المنظّر الأدبي والناقد الفلسطيني-الأمريكي إدوارد سعيد، لخضوعها لفكر أوروبي مهيمن. يخبرنا جان لامبير:
يبدو أنّ ظهور مصطلح “الموسيقى العربية” نشأ من التقاء تياريْن فكرييْن في مصر: من جهة المفاهيم النظرية والمجموعات الموسيقية القادمة من سوريا والقسطنطينية، والترويج لها من قِبل علماء الموسيقى المستشرقين والغربيين؛ ومن جهة أخرى، رغبة المصريين، بعد الثورات الوطنية عامي 1879 و1919، في تموضعهم كمركز لعالم كان حينها في صحوة سياسية وثقافية.
وأعيد اكتشاف منظّري الموسيقى العرب من العصور الوسطى، وتمت تعريب مفردات تقنية كاملة ولغة جمالية.

الصدمة الموسيقية الأوروبية
في خضم الصحوة الوطنية، واجه مؤتمر القاهرة تحديا صعبا، وهو تحديد “هوية عرقية في الموسيقى استنادا إلى ماضٍ مجيد لكنه انقضى، وحاضر متعدد الأشكال ويصعب الإمساك به”، كما نقرأ في كتاب برنار موصلي. وهي إشكالية (أو معضلة) ما زالت قائمة حتى يومنا:
تتردد النقاشات باستمرار بين قطبين متطرفين للثقافة الموسيقية العربية: تعريف واسع ومثالي (“من المحيط إلى الخليج”)، وتعريف ضيق (الموسيقى المصرية وربما الجزء السوري-اللبناني). وتنشأ عن ذلك سوء تفاهمات كثيرة. ويضاف إلى ذلك الإصرار على إعطاء الأولوية للأنواع “المتعلمة”، واستبعاد الأنواع الشعبية، وقلة الاهتمام بالأنواع الدينية [...]“، التي”ستشكل علامات على تعريف شوفيني [وبرجوازي] أكثر تقييداً وأقل سخاء ممكن للموسيقى العربية.
وتتناول فصول مثيرة للاهتمام “اقتحام الموسيقى الأوروبية في القرن التاسع عشر”، والذي شكل “صدمة أو سلسلة من الصدمات الثقافية والموسيقية في الإمبراطورية العثمانية”. يكفي أن نذكر كمثال على ذلك التأثير المحلي لإنتاج أوبرا “عايدة” لفيردي في دار الأوبرا بالقاهرة عام 1870.
ولختم هذه التأملات حول الهوية الموسيقية، لنقرأ مجدداً ما كتبه جان لامبير:
يمكن القول إن المفهوم السائد لـ“الموسيقى العربية” كان مختزلاً إلى حد كبير في موسيقى الفن المصرية التقليدية إلى حدود ثلاثينيات القرن العشرين، بالاعتماد على ما يُسمى بالمجموعة الخديوية (مع استبعاد معظم الموسيقى الشعبية، على عكس القومية الموسيقية الكمالية التركية). كما تم دمج العديد من الموشحات وأشكال غنائية مهمة أخرى أوتي بها جزئيا من سوريا، دون الاعتراف حقاً بهذا الدَّين. وتم “تعريب” الجزء الموسيقي الآلي، العثماني البحت، عمداً [خلال أعمال المؤتمر].
وفي الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، تحت تأثير الموسيقى الغربية المعترف به، تحول هذا النوع إلى جنس من موسيقى المنوعات، وهو تحول أخفته جزئيا العبقرية الارتجالية للمغنية المصرية الكبيرة أم كلثوم.
آخر مشروع
تم أيضا إخفاء دور الأقليات التي ساهمت بكثافة في تأليف الموسيقى العثمانية، لا سيما الأرمنية واليونانية واليهودية. ولم يتم دمج التقاليد المختلفة المرتبطة بالبلدان العربية المجاورة، أي العراق وبلدان المغرب العربي، إلا جزئياً في هذه المركزية المصرية (وفقا لعبارة عالم موسيقى الشعوب فيليب فيغرو). وحاولت هذه التقاليد أن تتطور من جانبها كموسيقى وطنية لبعض هذه البلدان، مثل الموسيقى العربية الأندلسية في المغرب (انطلاقا من مؤتمر الموسيقى المغربية في فاس عام 1969).
وعلى أي حال، فإن جميع هذه الأشكال التي أنتجت حتى ثلاثينيات القرن العشرين، والتي أصبحت “قديمة” في مصر، لم تصمد أمام التطورات التكنولوجية لظهور الراديو والسينما والشريط المغناطيسي. وعجّل التقادم -المفاجئ نسبيا- لاسطوانات 78 دورة هذا النسيان الجماعي. كانت هذه آخر إنجازاته قبل موته، كما وصفها برنار موصلي.
لكن التأسيس الحكومي لمجموعة موسيقية “كلاسيكية” -وفقاً لمصطلح سيظهر لاحقا- ساهم في ظهور هوية موسيقية عربية شاملة ذات طابع جوهري، وحيث احتفظت مصر في الواقع بحصة الأسد. وبالتالي بُنيت الهوية الموسيقية العربية المعاصرة، المكونة من تجمعات غير متجانسة وجامدة، على عدة أساطير متعلقة بأصلها (انظر الفصل السابع)، وقررت إدراج واستبعاد أوجه بطريقة تكاد لا تكون مخفية. من هذا المنظور، ربما تكون الموسيقى هي المجال الثقافي الذي يمكن فيه ملاحظة هذه المحاولة للبناء القومي العربي الشامل بالعين المجردة، شريطة أن نتتبع المسار الطويل شبه الأثري الذي رسمه برنار موصلي. وكما يلاحظ جان لامبير “في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، انهارت هذه البناءات الموسيقية على نطاق واسع، ولا تزال تنقسم باستمرار إلى أشكال مختلفة أكثر اندماجا ثقافيا”.
في ختام هذه التأملات، يمكن للمرء أن يتساءل أين وصلت الموسيقى العربية اليوم؟ وأيضاً علم الموسيقى الخاص بها؟ لا تزال أسئلة حقبة المؤتمر تطرح على جميع الموسيقيين الذين ينتمون إلى تقاليد شفهية: هل الابتكار التكنولوجي أمر لا مفر منه؟ هل هو الضامن المطلق لـ“التقدم”؟ أم أنه محكوم عليه بإذابة أصالة النقل الشفهي؟ من ناحية أخرى، ألا يسمح التمسك بتقليد “أصيل” بمحافظة جمالية معينة تؤدي إلى الشلل؟ أسئلة مؤلمة يطرحها في محلها مؤلفاَ هذا الكتاب الذي نُشر بعد وفاة أحدهما.
1ملاحظة من هيئة التحرير: مجالس سياسية زمن المملكة الفرنسية، دامت من القرن الرابع عشر إلى حدود الثورة الفرنسية. يقوم الملك بدعوتها فقط في الظروف الاستثنائية، وتتكون من النبلاء ورجال الدين والطبقة الثالثة. وكانت هذه المجالس الهيئة الوحيدة المخولة بإصلاح الضرائب العامة أو التعامل مع الأزمات.