في العالم العربي، الثقافة في زمن انكماش الحيّز السياسي
هل تشهد الأردن نهاية المسرح؟
كان العرض المسرحي في الأردن في بداياته في الستينيات، وبرز في السبعينيات، ثم ذاع صيته سياسيًا وازدهر في التسعينيات والألفينيات، ليشهد اليوم تراجعًا. ومن مرحلة إعادة الإحياء إلى مرحلة الاعتراف بالفشل، يسعى القطاع إلى إعادة هيكلة نفسه، رافضاً إسدال الستار.
وقفَ الفنان الأردني موسى حجازين على المسرح مرتديًا شخصية “سمعة” من جديد، وهي الشخصية التي اعتاد الجمهور الأردني طرحها نقدًا سياسيًا يشتبك مع تفاصيل حياتهم اليومية بخفة ظل وسخرية. في المسرحية، “سمعة” مواطن أردني يعيش حياة بسيطة، يعمل في مقهى صغير اسمه “مقهى الشعب”، يرتاده أهل الحارة من أبناء الطبقة المتوسطة والفقيرة. بفطنة وبداهة، يسأل سمعة كل الأسئلة التي تُحيّره ويحرّض الآخرين على طرحها، فيما يحاول كلُّ من هم حوله إسكاته. لينتهي به المطاف أخيرًا في شعبة “خبز وأعلاف” بالسجن، حيث يقابل مسؤولًا ويصرخ في وجهه: “هذا البلد كان يطعم روما بحالها قمح، وبس على دوركو خليتوه يشحد رغيف الخبز.. حرروا الرغيف بتحرروا الإنسان”.
في السجن يعاتبه زملاؤه على تمرده ورفضه المستمرّ أن يكون “مواطنًا حسب الطلب”.
عُرضَت المسرحيّة أول مرّة عام 1997، وتفاعلت مع احتجاجات الخبز في الأردن عام 1996، وهي من تأليف وإخراج محمد الشواقفة، وتنتمي لمجموعة من مسرحيات سياسية ساخرة أنتجها الثنائي شواقفة وحجازين بإنتاج ذاتي مشترك، ما بين العامين 1992 و2006. كان حجازين قد التقى شواقفة بعد عودة الأخير من الدراسة في يوغوسلافيا، ويصفه بأنه قارئ ومثقف يحمل هموم الناس، ومهمومٌ بالعدالة الاجتماعية، كما يحمل رغبة جادة بالعمل على إنتاج ثقافي نوعي في الأردن.
أنتج الثنائيُّ مسرحيتهم الأولى بعنوان “هاي.. أمريكا” عام 1992. وذلك بعد نجاح سابق لهما في مسرحية «زمان الشقلبة» من إنتاج نبيل المشيني، والتي عُرِضت في خمس ولايات أمريكية، بعد نجاح عرضها في محافظات عديدة في الأردن. تكرّرت التجربة لسنوات، في كل مرّة ينتجان عملًا من جيبهما الخاص، ويعتمدان على شباك التذاكر لتسديد تكاليف الإنتاج من أجرة مسرح وفنيين وتكاليف الإضاءة والديكور وغيرها. لم يخذل الجمهور تجربتهما الطموحة، فكانت التذاكر تنفد ويمتلئ المسرح حتى يضطّر البعض للجلوس على أدراجه الجانبية حتى لا يفوتهم العرض. كانت شعبية هذه المسرحيات مؤشر النجاح الأهم بالنسبة لهما، وساهم تكرارها وعرضها عربيًا ودوليًا في استمرارها حتى نهاية التسعينيات. في العامين 2011 و2012 عرضَ حجازين آخر مسرحياته “الآن فهمتكم” والتي تناولت الأحداث المتصاعدة في المنطقة العربية، وكانت هذه المرّة من كتابة أحمد حسن الزعبي وإخراج محمد الضمور. لتُغلق الستارة بعدها وللمرة الأخيرة في مسرح الكونكورد، وتبقى مغلقة حتى العام 2017 حين قرر المخرج والكاتب عبد السلام قبيلات تحويل مسرح الكونكورد لمسرح جديد في عمّان يحمل اسم مسرح الشمس.
كان قبيلات قد عاد للتو من روسيا بهدف الاستثمار بمسرح يقدم عروضًا مستمرّة للجمهور على طريقة مسرح الـ“ريبيرتوار”، مُعتقدًا أنه ربما هناك ما يمكن لمسرح من الأردن أن يقدمه، بالتزامن مع كل ما يحدث في المنطقة من حروب وتغيرات سياسية. لا يقصد قبيلات بالاستثمار استثمارًا اقتصاديًا بالطبع، بل استثمارًا يدفع عجلة الإنتاج الثقافي محليًا، آملًا أن تفهم الدولة أهميته وتتلقف مشروعه وتبني عليه. لكن ذلك لم يحدث. دفع قبيلات من جيبه الخاص على المسرح لثمان سنوات دون أي مردود مادي، يقول “كان توقعي ساذجًا باهتمام الدولة بمشروع مسرحي مشابه. بالثمانينيات والتسعينيات كان في مسرح بلش ينمو بالأردن، لكن سرعان ما أُجهضت هذه الحالة”.
كانت أولى محاولات خلق نشاط مسرحي مع تأسيس الجامعة الأردنية عام 1962. عندما بدأ عدد من الفنانين مجموعة سُمّيت أسرة المسرح الجامعي، ضمت نبيل المشيني ونبيل صوالحة وسهى عواد وقمر الصفدي وغيرهم. وبعدها أُسّست دائرة الثقافة والفنون عام 1966 ومن ثم أسرة المسرح الأردني. وفي السبعينيات بدأت ملامح مشهد مسرحيّ محلي تبدو أكثر وضوحًا، مع عودة عدد من الخريجين الذين درسوا التمثيل والإخراج من معاهد وجامعات عربية وعالمية. لاحقًا أُسّس قسم الفنون المسرحية في جامعة اليرموك، ومركز تدريب الفنون التابع لوزارة الثقافة. في التسعينيات قلّ الطلب على الدراما الأردنية عربيًا، كواحدٍ من آثار حرب الخليج التي انعكست على علاقة الأردن ببعض دول العربية، مما دفع الفنانين للتوجه للمسرح محليًا. وفي هذه الفترة دعمت وزارة الثقافة العديد من الإنتاجات.
تُنفق وزارة الثقافة هذا العام ما يقارب 11 مليون دينار أردني على برامجها، ويُعتبر هذا ارتفاعًا بعد انخفاض استمر لسنوات وصل أدناه في العام 2020 بميزانية سبعة ملايين دينار. رغم أن أغلب هذه النفقات يكون على مشاريع تنمية ثقافية (في المسرح ومجالات ثقافية أخرى)، تهدف في مجملها للتوسع في تدريبات الفنون ورعاية المواهب الشابة والمساهمة في دعم المشاريع والهيئات الثقافية، إلا أن هذه المشاريع لم تتمكن من إحداث تأثير ملموس لدى العاملين في المسرح، يقول قبيلات، مضيفًا أن تدنيَ حجم الميزانية المرصودة للثقافة في الأردن جزء من مشكلة أكبر، همّشت المسرح والقطاعات الإبداعية عمومًا.
غياب شبه تام للجمهور
خلال عمل قبيلات على إعادة تأهيل مسرح الشمس، أعيد تمديد الكهرباء والماء، وبنيت خشبة المسرح من جديد، واستبدلت المقاعد الخشبية، كما أضيفت غرف البروفات والكواليس. ثلاثة شهور من الجهد الذاتي هدفت لمحاولة طرح صيغة مسرح جديدة تعمل بخلاف الوضع السائد الذي يعتمد على المهرجانات. بحسب قبيلات فإن الاعتماد على المهرجانات أدى لانفضاض الجمهور عن المسرح، والذي يفترض أن يكون الناقد الأول والأساس للعمل المسرحي. لكن ما يصفه بالسياسات الثقافية «العرجاء» كرست نموذج المهرجان خلال ما يقارب 25 سنة مضت، ففرضت المهرجانات سلطتها كمناسبة سنوية تأخذ طابعًا استعراضيًا يحضره الفنانون ويغيب عنه الجمهور. تُعرض المسرحية فيها لمرة واحدة أو مرتين، في حين أن نضج العمل المسرحي لا يمكن أن يحدث إلا بعد عرضه لخمس مرات على الأقل يقول قبيلات. “الجمهور كان يحضر مسرح لأنه المسرح بحكي عنه وعن قصصه، أمّا الآن هو مستنثى تمامًا”.
في محاولة سابقة لخلق مساحة أكثر حرية، عملت فرقة الفوانيس في منتصف التسعينيات على تنظيم أيام عمّان المسرحية، كمهرجان مسرحي مستقل، تَعرض فيه الفرق العربية والعالمية المستقلة أعمالها. بحسب الفنان محتسب عارف، أحد مؤسسي المهرجان، فإن الهدف كان خلق حالة جديدة أقل ارتباطًا بالمجموعات الثقافية التي تعمل بغطاء رسمي، تَعرض خلالها الفرق أعمالها بحرية وتتحمل مسؤولية هذا العرض من ناحية موضوعه ورد فعل الجمهور عليه. استمر المهرجان بالعمل لـ16 دورة، ولم يصمد بعدها أمام قلة الدعم المادي واللوجستي.
كالعديد من الهيئات والجمعيات الثقافية آنذاك، استفاد المهرجان خلال سنوات عمله من تمويلات تكاد تكون رمزية من وزارة الثقافة وأمانة عمّان، وفي أوقات أخرى من مؤسسات تمويل عالمية، قبل أن يتعثّر ويعلن إفلاسه بعد تراكم الديون وازدياد الأعباء المادية. يقول عارف إن الاعتماد على عدد محدود من المهرجانات الرسمية لا يعتبر كافيًا، كما أن كثرة المهرجانات أو المسرحيات ليس معيارًا للتحسن كذلك. فكثرتها لا تشكل حالة ثقافية حقيقية، فقد تكون هذه المسرحيات فارغة من حيث المضمون ولا تحمل رسالة حقيقية.
ويتابع مضيفًا أن بناء عمل مسرحي متكامل أمر مكلف، لا يكفيه الدعم الذي ترصده له وزارة الثقافة أو أي جهة أخرى داعمة، ما يتطلب من الفنانين أن ينفقوا على العمل من جيوبهم الخاصة. هذا ما قام به أعضاء فرقة الفوانيس خلال أغلب سنوات عملهم.
إن إنتاج عمل مسرحي جيد أو حتى جعل فكرة المهرجان فعّالة يتطلب أن يكون الفنان مثقفًا صاحب رسالة وقضية، وأن يدافع عن رسالته هذه للنهاية. ومن يقرر تحمل هذه المسؤولية بإنتاج عمل فني نوعي يحاكي هموم الجمهور، يجد نفسه وحيدًا ومن دون سند مادي أو معنوي، يختم عارف.
بالعودة للحديث عن الجمهور، تؤكد حياة جابر، المديرة التنفيذية لمسرح الشمس، أن الجمهور ليس ناقدًا مسرحيًا أساسيًا فقط، وإنما مسؤولًا عن استمراره كذلك، وبالتالي فإن وجود شباك التذاكر الثابت للمسرح يعيد ترميم العلاقة مع الجمهور، فيتمكن الناس من وضع المسرح ضمن مخطط حياتهم، ويدفعون ثمن تذكرة حضورهم حتى وإن كانت قليلة أو رمزية. الأمر الذي يغني المسرح عن الاعتماد على التمويلات الجاهزة، التي تصفها حياة بالكارثة، والتي تجعل الفنان شخصية رعوية، تُنتج فقط ضمن ما يتاح لها من تمويل وما قد يحمله هذا التمويل من توجيهات أو أيدولوجيا. وهنا يصبح العامل الثقافي في حالة شبيهة بمثقف البلاط الذي يخضع لشروط السلطة أيًا كان نوعها. تتفهم جابر حتمية المنح في الوضع الراهن لاستمرار الإنتاج الثقافي، لكن جعلها المسار الوحيد يُفقد المؤسسة الثقافية استقلاليتها، ويُفقدها حساسيتها الاجتماعية تجاه جمهورها، وتصبح غير قادرة على الاستجابة للتغيرات والأحداث الطارئة التي تحدث في عالمها الذي من المفترض أن تكون معه وحدة واحدة.
في كتابها الأحدث تحدثت حنان طوقان، الباحثة وأستاذة السياسة ودراسات الشرق الأوسط في جامعة بارد، عن تأثيرات السياسة على عمل قطاع الفن والثقافة في عمّان ومدن عربية أخرى. تقول طوقان إن الاعتماد على “التمويل الأجنبي”، وهو وصف يحمل وصمة سلبية، من الممكن أن يخلق أشكالًا جديدة من الفن لا يشترط أن ترتبط برغبة الجمهور المحلي وتفضيله. فالمانح يهتم بتمويل فنون يرى أنها غير تقليدية أو «بديلة» على فنون أخرى تقليدية في شكلها. فقد يختار تمويل نوع محدد من صناعة الأفلام أو فنون الأداء على حساب المسرح بشكله التقليدي بغض النظر عن جذبه جمهورًا محليًا واسعًا. وبالتالي يُخلق مع أشكال الفن الجديدة نوع جديد من الجمهور يكون أكثر نخبوية. وبالفعل، يمكن ملاحظة هذا التغيير في المشهد الثقافي في عمّان خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وهو تغيير صاحبه اعتماد أكبر على صناديق المنح الدولية في قطاعات مختلفة في الأردن، وإن كان من المهم الالتفات لمسألة أن هذا الاعتماد لا يقتصر فقط على الشأن الثقافي.
شهدت العقود الماضية محاولات لافتة لتأسيس مجموعات وفرق مسرحية، منها ما صمد ومنها ما توقف عن العمل، كفرقة المسرح الرحالة، وفرقة المسرح الوطني الأردني التي أسسها حجازين وشواقفة في التسعينيات. وفي الثمانينيات كانت هناك فرقة الفوانيس التي أسستها نادر عمران وخالد الطريفي وعامر ماضي. إضافة لمجموعات شبابية عديدة ما زال بعضها يعمل حتى اليوم يديرها فنانون صاعدون غالبا ما يضطرون للعمل بوظائف أساسية ويكون عملهم بالمسرح هو العمل الجانبي الذي يستمرون به بمجهود فردي.
بحسب نقيب الفنانين محمد يوسف عبيدات، ينتسب لنقابة الفنانين ما يقارب 1300 فنان، يعملون في خمس مهن أساسية، وهي التأليف والتلحين، العزف والغناء، والإخراج، والتمثيل إضافة إلى مهن تقنية ومساندة أخرى، ويعمل عدد من المنتسبين بالتعليم في الجامعات والمدارس والمعاهد الخاصة. تنفذ النقابة ثلاثة مهرجانات أساسية، للطفل والشباب والكبار. إضافة لست مهرجانات أخرى لفرق خاصة تابعة للنقابة، ومهرجان أو اثنان تنفذهما فرق هواة، أي ما معدله عشر مهرجانات سنوية. رغم هذه المهرجانات، يؤكد عبيدات أن لا حالة مسرحية مستمرة طوال العام، كما أن هذه المهرجانات تعاني من ضعف الإقبال عليها. ويرجع هذا بحسبه لمشاكل مالية مستمرّة تواجهها النقابة التي يعتمد دخلها فقط على اقتطاعات رسوم المهن الفنية حيث تقتطع 2% من أجور الفنانين من أعضاء النقابة و4% من غير الأعضاء، و10% من الفنانين العرب، و15% من غير العرب حين يقيمون حفلاتهم في الأردن. ترفد هذه الاقتطاعات ثلاثة صناديق أساسية وهي صندوق الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي والمعونة العاجلة التي يستفيد منها الفنانون أعضاء النقابة.
يقول عبيدات إن السنوات الخمسة الأخيرة تسببت بالكثير من التعطيل لعمل النقابة ورفد صناديقها، بدءًا بجائحة كورونا وإغلاقاتها وبعدها الحرب على غزة وتداعياتها، ما أثر على استمرارية عمل القطاع وإقامة الحفلات كما تجري العادة، لا سيما حضور الفنانين من خارج الأردن، الأمر الذي أضعف دخل النقابة بدرجة كبيرة. هذا التأثر يطال الفنانين والممارسين الثقافيين في مختلف مجالاتهم، لكن تأثيره الأكبر ينعكس على الحراك المسرحي وإنجازاته، ما يدفع فناني المسرح للهروب للتلفزيون أو السينما بحثًا عن دخل مادي أفضل وانتشار أوسع. وهنا لا يبقى للمسرح سوى الوفي جدًا لهذا الفن والمسكون به، والذي يعي أن لا ربح مادي هنا، لكنه يرضى بالربح المعنوي ويعتبره غذاء روحيًا له.
لكن كم من الوقت يمكن أن يستمر هذا الفنان؟ فالغذاء الروحي “ما بطعمي خبز”! ضعف التمويل وشح الفرص يؤثران بالضرورة على المشهد الدرامي في الأردن، ويستوي في هذا المسرح والتلفزيون والإنتاج السينمائي كذلك، يقول عبيدات. فالمواضيع الهادفة ليست بالضرورة الخيار الأول للمنتِج، لأن المعيار الآن هو عدد المشاهدات الذي يرتبط بشكل مباشر بتحقيق الربح، لتكون النتيجة مسرحًا هشًا، وأعمالًا تلفزيونية بنصوص ومواضيع ضعيفة. وفي هذا الوضع يضطرّ بعض الفنانين للموافقة على ما يُعرض عليهم من أعمال على مضض، فيما يرفضها آخرون ويدفعون ضريبة هذا الرفض بالقعود دونما عمل.
عقبات تعيد إنتاج نفسها عبر السنين
في كل عام، تبدأ مواهب جديدة محاوِلة شق طريقها للتمثيل والإخراج. لكن الوضع الحالي لسوق العمل في القطاع يعيد تأطير خياراتها ويحد فرصها. تقول جويس الراعي، المُدرّسة في قسم الفنون المسرحية في الجامعة الأردنية، إنها تعمل في التدريس الأكاديمي منذ العام 2007، والتحديات التي يواجهها خريجو القسم هي ذاتها التي اصطدم فيها الفنانون منذ عشرين عامًا تقريبًا، ما يشير برأيها لوجود مشكلة جوهرية في البنية التحتية لطريقة العمل وإدارته. تعرف جويس أن عددًا من الطلبة يسعون جديًا لإيجاد طرق للتكيف مع هذه التحديات والاستمرار ضمن المتاح، أو حتى خلق مساحة جديدة للعمل والإنتاج النوعي، لكن عددًا منهم يستسلم لهذه التحديات، فيختار التوجه لمهن أخرى بعيدة تماما عن الفن، أو الهجرة للبحث عن فرص في الخارج. أما من يشكل له المسرح قضية أساسية، فيختار العمل في وظيفة نهارية جانبية ويستمر في محاولته الجادة في المسرح، وهو أمر مرهق للفنان ويحد من حريته كذلك، وقد يكون محبطًا أحيانًا لبطئ لمسه أي نتائج لهذا الجهد المبذول في أي وقت قريب.
خلال سنوات عملها شهدت جويس أكثر من تغيير على الخطط الدراسية لطلبة المسرح. ثبتت هذه التغييرات على خطة دراسية جيدة إلى حد كبير، ويمكن مقارنتها بخطط في أعرق الكليات المسرحية، حيث يخوض الطلبة رحلة تعلم تطبيقية، يضاف لها عدد من القراءات والمواد النظرية التي توسع مداركهم وثقافتهم، واضعة إياهم على أول طريق الاحتراف. يُقبل سنويا عدد قليل لا يتجاوز العشرات من الطلبة في قسم الفنون المسرحية بالجامعة الأردنية، ويتخرج عدد أقل إثر انسحاب بعض الطلبة بسبب الجهد الذي يحتاجونه في الدراسة والذي يفوق تصورهم عند الانتساب للكلية. بحسب جويس فإن المشكلة ليست قلة عدد الخريجين سنويا، وإنما الاستمرار بالحفاظ على جديتهم وجودة عملهم في ظل الظروف الراهنة.
وجود سياسات مجحفة تجاه قطاع معين هو تدخل يُضعف هذا القطاع. والغياب التام لأي سياسات مُنظمة قد يلعب الدور نفسه أيضًا. يقول قبيلات إن المسرح بالأردن فقد أي دور مؤثر، والنهوض به يحتاج لإرادة سياسية واعية تُدرك أهمية الثقافة، وتنفتح على الحلول المقترحة من العاملين في القطاع الإبداعي.
بحسب الممثل والمخرج أحمد سرور، يمكن تلخيص المشهد اليوم بالقول إن كل فنان أو فرقة تعمل بشكل منفرد بلا مساحة حقيقية للتشبيك والتعاون. وهناك حاجة ماسّة لتنظيم رسمي جاد، إذ أن المحاولات الفردية للتنظيم لا تعوّض ما يمكن لتنظيم رسميّ مؤسسي أن يقدمه. ورغم انتسابه لنقابة الفنانين منذ العام 2011، إلا أن سرور لا يعرف حتى ما يجب أن يكون دورها الغائب.
يضيف سرور قائلًا إن السنوات العشرة الأخيرة شهدت غياب ملحوظ لعدد من المرشدين والآباء للعمل المسرحي، فقد غيب الموت الفنان خالد الطريفي الذي كان يؤثر على أجيال أصغر سنًا وأقل خبرة، وكذلك الفنان حسين نافع. بينما اتجه الفنان والمخرج غنام غنام للخليج منذ العام 2011، بعد نشاط وفاعلية في المجال منذ الثمانينيات أسس خلالها عددًا من الفرق والأعمال المسرحية الهامة. يقول غنّام إنه لم يغادر بحثًا عن وضع مادي أفضل، بل غادر طامحًا بواقع مهني أفضل وتنفيذ مشاريع مسرحية وثقافية ما كان ليتمكن أن ينفذها هنا.
يتفق صُنّاع المسرح في الأردن على ضرورة أن يُعطى العمل الثقافي الثقل الذي يستحق، وأن لا يستمر التعامل مع وزارة الثقافة بصفتها الوزارة الأقل أهمية. التغيير المستمر وقِصر عمر الوزارات يصعّب دور الفنان ويقتل أي محاولة لخلق مشاريع طويلة المدى ومستدامة. يقول سرور «اسأليني مين بدي وزير ثقافة؟ بدي وزير جاي من خلفية عمل ثقافي، بعرف الفنانين والمسارح بالإسم.. وما أضطّر أعيد تقديم نفسي من جديد مع كل تعديل وزاري».

تم إنتاج هذا الملف في إطار أنشطة شبكة إعلام مستقل عن العالم العربي، التي تضم "السفير العربي“،”باب الميد“(Babelmed)،”مدى مصر"، Maghreb Émergent، "ما شاالله نيوز“،”نواة“،”حبر“،”أوريان 21".