الإسلاميّون المغارِبة في الحكم: تجربةٌ براغماتيّة مُحافِظة

تبدو تجربةُ الإسلاميين المغاربة على رأس أوّلِ حكومةٍ ائتلافيّة شُكّلَت بعدَ التعديلات الدستوريّة عام 2011 ناجحةً، مقارنةً بتَجارُبِ الإسلامِ السياسي التي عرفَتها المنطقةُ على إثر الثورات العربية. وقد استطاعَ إسلاميّو حزبِ العدالة والتنمية الاستمرارَ في الحكم، علماً أن حكومتَهم سَنَّت تعديلات اقتصاديّةً مؤلمةً بضغطٍ من الصندوق الدولي، وأن الحراكَ السلفيَّ مستمرٌّ ويُقلقَ القصر، وتَجاوزوا صعوبات عديدةً كان من المُمكنِ أن تؤدّي بهم إلى خيباتٍ مُماثلةٍ لخيباتِ حلفائهم الإيدلوجيين في البلدان العربية الأخرى.

.الوزير الأول عبدالإله بن كيران خلال الجمعية العمومية للضريبة في صخيرات، 3 ماي/أيار 2013

يتَّسم الوضعُ السياسي في المنطقة بتراجعِ الإخوان المسلمين. ومع ذلك، فإنْ كانَ لزعيمِ العدالة والتنميةِ عبدِ الإله بنكيران ما يفخرُ به، على حدِّ قولِه في أكثرِ من مقامٍ، فهو صمودُ حكومتِه أمامَ محاولاتِ إسقاطِها من طرفِ خصومِه السياسيّين، كما هي الحالُ في آخرِ [تجمُّعٍ خطابيٍّ لأنصارِ حزبِه في مدينةِ الرشيديّة في 16 آذار الشهر الفائت في مارس . ويحاولُ الحزبُ التسويقَ بشكلٍ استعراضي لشعبيَّة الإسلاميّين ودعمِ المواطنينَ لسياساتِهم الإصلاحيَّة التي تواجهُ مقاومةً شديدةً من مراكزَ النفوذِ و“لوبيات” الفساد (وِفقَ ادِّعاءاتهم) عبرَ خطابٍ شعبيِّ وبسيط.

وهكذا حاول إسلاميّو المؤسسات1 تعويضَ النقاط ِالتي يخسرونها في معتركِ التسيير العام واتخاذِ القرارعن طريقِ التواصلِ الشعبيِّ المُستمِرِ، أو عبرَ اعترافٍ- لا يخلو من شعبَويّة في أحيانَ كثيرةٍ - بعدم قدرتِهم على الإصلاحِ والوفاءِ بجميعِ وعودِهم أو بارتكابِهم بعضِ الأخطاء. وهم يَبدون اليومَ منتشين بقدرةِ خطابِهم السياسي الحماسيّ والعاطفي الذي مكَّنهم على الأقل، من تحصينِ كتلتِهم الناخبةِ التي منحَتهم الأسبقيَّة في انتخابات سنة 2011 السابقة لأوانِها. إذ تُظهِرُ استِطلاعاتُ الرأيِ الأخيرةُ أنّ شعبيّة إسلاميّي العدالةِ والتنمية لا تزالُ عاليةً .

استِرضاءُ القصر

“لقد قلتُ للمغاربة بكلِّ وضوحٍ منذُ أنْ عيَّنني جلالةُ الملك، إذا كانَ المغاربةُ يبحثون عن رئيسِ حكومةٍ يصطدمُ بملِكِهم بسببِ الصلاحيّات وغيرِها، فليبحثوا عن شخصٍ آخر”. الكلام هنا لزعيم إسلاميّي“حزب المصباح” (المصباح رمز حزب العدالة) في إحدى حواراتِه. إذ يحرصُ بنكيران دائماً على تكرار هذه اللازمةِ الصارِمةِ في توصيفِ العلاقة بينه وبين الملكِ، وإظهارِ حرصِه على احترامِ التراتبيَّة التي تجعلُ القصرَ يعلو على الحكومة.

يكمنُ السببُ الرئيسيُّ لنجاحِ الحزبِ في الاستمرارِ في تجربتِه ، في تعاملِ مسؤوليه ببراغماتيَّة مع التوزيعِ الذي تفرِزُه طبيعةُ النظامِ السياسي المغربي للقوى المتواجدةِ على الساحة السياسية. لقد فهِم قياديوه أنَّ مفتاحَ ديمومتِهم هوَ تفادي الاصطدامَ مع القصرِ والتنازعَ معهُ حولَ السلطات. لذلك حرِصَ رئيسُ الحكومةِ، غيرَ ما مرَّةٍ، على بعثِ الإشارات الإيجابيّة للقصرِ والتأكيدِ على أنه يشتغلُ تحتِ سلطةِ الملك دونَ أدنى نيَّةٍ له لاختراقِ مجالاتِ النفوذِ الملكي. لا بل وتخلَّى رئيسُ الحكومةِ عن بعضٍ من صلاحياتِه لصالحِ الملك، فالإسلاميّون أذكياء في تبريرِ تلك التراجُعات، وذلك بزعمِهم إنَّهم على ثقةٍ أنَّ المؤسّسةَ الملكيّةَ لن تخرقَ الدستور وأن روحَ العملِ المشتركِ أقوى من النصوص .

من الواضحِ أنَّ حزبَ بنكيران حريصٌ على تطبيعِ العلاقةِ مع القصرِ أكثرَ من أيِّ شيءٍ آخرَ. وتكشِف حوادثُ ومؤشراتٌ عديدةٌ عن الاستثمارِالكليِّ للعدالةِ والتنميةِ في الاستحواذِ بثقةِ القصر ورِضاه. فقد اضطُرَّ رئيسُ الحكومة، على سبيلِ المثال، إلى الانصياعِ لإرادةٍ الملكِ الذي كلَّفه بحضورِ القمَّة العربيَّة الأخيرةِ في شرمِ الشيخ المصريّة ( 28 آذار/مارس 2015). فأُلزِم بنكيران بالتالي بلقاءِ الرئيسِ المصريِّ عبد الفتاح السيسي، خِلافاً لموقف حزبه الطبيعي الذي وَصف تغييرَ 30 يونيو 2013 في مصر على أنه “انقلاب عسكري”. وقد برَّر ذلك لاحقاً بقولِه إنَّ السياسةَ الخارجيّةَ مجالُ الملك حصرِيّاً وأنَّ الحكومةَ مُلزَمةٌ بالنزولِ عند هذه خِياراته.

ورغمَ سياستِهم الاسترضائيَّة للقصر، لم يكن طريقُ العدالة والتنمية محفوفاً بالورود، ومن الصعبِ القول إنَّ العلاقةَ بين الطرفين صافيةٌ تماما. فقدعكست عدةُ أزماتٍ احتكاكاتٍ وتشنُّجاتٍ بين القصر والحزب، نذكرُ منها أزمةَ دفاترِ تحمُّلات القنواتِ التلفزيونيّة العموميّة التي تدخَّل فيها الملكُ كطرفٍ حكَمٍ، لنقضِ وإجراءِ تعديلٍ على المشروعِ الذي حمله وزيرُ الإعلامِ المُنتمي لحزب العدالة والتنمية مصطفى الخلفي ( نيسان/ أبريل سنة 2012). ومارسَ القصر في أكثرَ من مناسبةٍ سلطاتِ رئيسِ الحكومة، كما كان شأنُ قرارِ الملك سنة 2013 بتوقيفِ عددٍ من رجالِ الأمن والجماركِ، لثبوتِ ارتشائِهم وإساءةِ معاملةِ المهاجرين المغاربة في المراكزَ الحدودية. ولابدَّ أن نذكرَ واقعةَ منعِ وزارةِ الداخليةِ لنشاطٍ حزبي لحزب العدالة والتنمية في مدينةِ طنجة، وكان يفترض أن يحضرَ هذا النشاطَ رئيسُ الحكومة نفسُه (1أيلول/سبتمبر2012).

لكن الحزبَ عملَ على امتصاصِ الضرباتِ وحرصَت قياداتُه الحكوميّة على تجنُّب أيِّ صراعٍ مع القصرِ أو محيطِه، تاركاً لقياداتِ الصفِّ الثاني، في الحزبِ أو في الحركةِ الدعويّة التابعةِ له (التوحيد والإصلاح)، مُهمّةَ الخروج إعلاميّاً لانتقادِ هذه “التجاوزات”، وذلك في توزيعٍ واضح ٍللأدوار.

القطيعة مع الإخوان المسلمين في مصر

أظهرَ حزبُ العدالةِ والتنميةِ نزوعاً براغماتيا غيرَ متوقَّعٍ، تجلّى في محطاتٍ عديدةٍ، أبرزُها اضطرارُه لتقديمِ تنازلاتٍ مؤلمةٍ وصعبةِ التبرير، حين تحالفَ مع أشدِّ خصومِه السياسيّين لترميمِ أغلبيَّتِه الحكوميّةِ وإنقاذِها من السقوطِ، على خلفيَّة انسحابِ حزبِ الاستقلالِ من الحكومةِ منتصفَ سنةِ 2013 ، بعدَ اشتدادِ الخلافاتِ والتراشقِ الإعلامي بين الحزبَين.

كان الضغطُ آنذاك على تجاربِ الحركات الإسلاميّة التي وصلتْ إلى الحكم، في أعقابِ الاحتجاجاتِ، قد بلغَ مستوياتٍ غير مسبوقةٍ، بعدَ إسقاطِ حكمِ الإخوانِ المسلمين في مصر. أدركَ حزبُ العدالة والتنمية حينَها أن تجربته أيضاً قد أصبحَت على المحكِّ رغم اختلافِ السياقات، فأخذَ مسافةً واضحةً من حركةِ الإخوان المسلمين وحاولَ إظهارَ هذا التمايزَ بين التجربتين. واختارَ الحزبُ الاستمرارَ في التجربةِ الحكوميّة. ودفعَ ثمناً مريراً بالتحالفِ مع حزبِ التجمُّع الوطني للأحرار المقرَّبِ من السلطة، والخصمِ اللدودِ الذي لطالما شكَّكَ الإسلاميّون في نزاهة قِياديّيه، واصفينهم بالفاسدين والمنصاعين في قرارِهم السياسي لمراكزَ نفوذٍ تعاديهم . وقبلَ بنكيران إعطاءَ حقائبَ وزاريّةٍ هامّةِ لمقرَّبين من القصر، أكانوا أفراداً محسوبين على حزبِ التجمُّع الوطني للأحرار، أو وزراءَ غير حزبيّين شهدْت النسخةُ الثانية من الحكومة عودتَهم القوية، متخلِّياً بذلك عن وزاراتِ الخارجيَّةِ والداخليّةِ والماليّةِ بعد مفاوضاتٍ قاسيَةٍ ومذلَّة.

ليس خيارُ التأقلُم مع إكراهِ الواقعِ خياراً جديداً لإسلاميّي حزب العدالة والتنمية. يجدُ هذا السلوكُ تفسيراً في تاريخِ تشكُّلِ حزب العدالة والتنمية نفسه. فمن غيرِ الدقيقِ القولُ إنه ليس إلّا امتداداً لتنظيمِ الإخوان المسلمين الأم في مصر. إذ إنّه تأسَّس بدايةً باندماجِ مجموعةٍ من النُشطاءِ الإسلاميّين المغاربة في حزبِ الحركة الشعبية الدستورية المقرَّبِ من القصر ومؤسِّسِه عبد الكريم الخطيب، الذي وفَّرَ لهم الوعاءَ الفارغَ لممارسةِ العملِ الحزبي. قدَّم هؤلاءُ الإسلاميون سلسلةَ تنازلاتٍ لقاءَ قبولِ طلبِهم بالمشاركةِ في الساحةِ السياسية، كان أبرزُها التخلّي عن أفكارِهم “القطبيّة” السابِقة والاعتِراف بالسلطةِ القائمة. وقد رضخَ الحزبُ في محطّاتٍ انتخابيّةٍ عديدةٍ لضغوطٍ من وزارةِ الداخليّة في سعْيِها لتقليصِ مشاركتِه.

محاربةُ الفسادِ المالي

سيكون من الصعبِ نَسبُ الحصيلةِ الحكومية بسلبيّاتها وإيجابيّاتها إلى إسلاميّي حزب العدالة والتنمية وحدِهم، إذ يقودون تحالفاً حكومياً من أربعةِ أحزابٍ متضاربةِ المرجعيّات (حزب التقدُّم والاشتراكيّة اليساري، حزبَا التجمُّع الوطني للأحرار والحركة الشعبية، الإداريّين المقرَّبين من السلطة).إنما يُمكنُ القولُ إن الحصيلةَ تبقى متواضعةً، على الأقلِّ مقارنةً بسقفِ البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، خلالَ انتخابات 2011 الذي حملَ وُعودا كبيرةً بمحاربةِ لوبيات الفسادِ ومراكزَ الاستبداد في جميعِ القطاعات.

فسُرعان ما ظهرَ التمايُزُ بينَ الخطابِ الانتِخابي والمُمارسةِ على أرضِ الواقعِ، تحديداً في سياسات وزراءِ العدالة والتنمية. ودافعَ رئيسُ الحكومةِ، في تصريحٍ شهير له، عن عجزِ الحكومةِ في الوفاءِ بتعهُّدِها بمحاربةِ الفسادِ المالي والريعِ الاقتصادي الذي شكَّل عصبَ الدولةِ لعقودٍ، بقولِه إنَّه يَعتمدُ في سياستِه على ما تقولُه الآيةُ القرآنية: “عفا االله عمّا سلَف، ومن عادَ فينتقمُ الله منه” (المائدة: 95 ).

هكذا أرسل إسلاميّو العدالة والتنمية رسائلَ طمأنةٍ واضحةً مفادُها أنّه ليسَ في نيَّتهم الاصطدام بمراكزَ النفوذ المالي أو التضييق عليها ، على الأقلِّ خلالَ هذه المرحلة، كي لا بتسبَّبوا بتعطيل عجلةِ الإنتاج، أو بإثارة حفيظة حاملي رؤوسِ الأموالِ في الداخلَ والخارج. وكانَ نشرُ قوائمَ مأذونيّات النقلِ، من طرفِ وزارةِ التجهيزِ، بمثابةِ اختبارٍ لقياسِ ردة فعل حزبِ العدالةِ والتنمية تجاه ملفّات الفساد. فاختارَ هذا الأخيرُ المهادنةَ، لأن المواجهةَ كانت ستُدخِلُه في حربِ استنزافٍ مع منظومةٍ كاملةٍ مستعدّةٍ للقتالِ بشراسةٍ للحفاظِ على امتيازاتِها. ورفع الخطابُ الرسمي شعاراً بديلا، ألا وهو “لم نأتِ لمطاردة الساحرات”، وباتَ ممثلوه في الحكومةِ أكثرَ حرصاً على تجنُّب الاصطِدام بمراكزِ القرار.

في المقابل، لم يمانع حزب العدالة والتنمية في سنِّ إصلاحاتٍ اقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ صعبةٍ لم تتجرّأ الحكومات السابقةُ على القيامِ بها، خوفاً من الاحتِجاجات الشعبيّة المعارِضةِ، لما تُسبِّبُه تلك القراراتُ من ضررٍ بالقدراتِ الشرائيّة للمواطنين. وشملَت تلك الإجراءات - التي أملاها تغيُّر أسعارِ النفطِ في السوق الدولية- الشروعَ التدريجيَّ في تغييرِ دعمِ الموادِّ الأساسيّةِ ورفعِ الدعمِ النهائيِّ عن أسعارِالمحروقات، فضلاً عن إقرارِ عددٍ من الزياداتِ في أسعارِ الموادِّ الغذائيّة وأسعارِ استِهلاكِ الكهرباء، بالإضافةِ إلى قرارِ رفعِ سنِّ التقاعد. وهي إجراءاتٌ دافعَ عنها الإسلاميّون بضراوةٍ أكثرَ من غيرِهم من وزراءِ الحكومةِ، معتبِرين تلك الإصلاحات ضروريةً رغمَ قسوتها، للتحكُّم في التوازُنات الاقتصاديّة.

يمكن أن نَخلُصَ إذاً إلى أنَّ إسلاميّي العدالة والتنمية أبدوا سلوكاً مبالَغاً في براغماتيَّته، محاوِلين الحفاظَ على موقعِهم في هرمِ السلطةِ بأيِّ ثمنٍ، حتى لو تطلَّبَ ذلكَ التخلّي شبهَ الكلِّيِّ عن مواقفِهم السابقة. ففي نفسِ الوقتِ الذي يُبدي فيه الحزبُ حرصَهُ على إظهارِ نظافةِ ذمَّتِه من تُهمِ المشاركةِ في استشراءِ الفسادِ واستمرارِالاستبداد، لم يبذل أيَّ جهدٍ للدفعِ بتحديثِ بنيةِ النظامِ السياسي واعتمَد استراتيجيّة المهادَنة في مواجهةِ بُنى النفوذِ والتحكُّم السياسي والاقتصادي.

1تعبير يطلق على في المغرب إسلاميي حزب العدالة والتنمية لتمييزه عن بقية إسلاميو المغرب الذين لا يمكن تصنيفهم كجزء من تنظيم الاخوان والذين رفضوا المشاركة في الحكومة.