يطرحُ تعبيرُ “الدولة الإسلاميّة” مجموعةَ تساؤلاتٍ لُغويّة: هل هو دولة؟ تنظيمٌ إرهابيّ؟ خِلافة؟ فحَسب تعبيرِ أوليففيه هان Olivier Hanne ، “تثيرُ بُنيتُه الداخليّةُ من الفرضيات بقدرِ ما تثيرُ من الفنتازيا”.وللإلمام أكثرَ بذلك “الصحن الطائر السياسي”، يفترَضُ عدمُ التوقُّف عند التحليلات الخارجية، بل دراسةُ الركيزة الأساسيّة التي يعتمدها للترويجِ وبثِّ أيديولوجيّته، ألا وهي مجلَّة “دابق”، وهي ليست فقط عبارةً عن منصّةٍ للتجنيد، لا بل أيضاً لإثارة ردودِ أفعالٍ عالميّة. فمن خلالِ “دابق”، تُعرِّف الدولةُ الإسلامية عن نفسِها وتَعرِض نفسَها في دورٍ تقومُ فيه بالترهيب والترغيب. فهي تضعُ في المقام الأول مهامَّها السياديَّة لتعطي معنىً لكلمةِ “دولة”. من هنا، فهي تَستخدِمُ الدولة كأداة. ومن خلالِ “الخلافةِ الافتراضيّة”، تُحرِز تَقدُّماً في المعركة الإعلاميّة، وخاصَّةً في الأذهان.
تتضمَّنُ كلمةُ “دابق” حيِّزاً تنبُّئياً مُزدوِجاً تَعتمِدُ عليه دِعاية الدولة: فهي تُشير في الوقتِ نفسِه إلى قريةٍ سوريّةٍ تقعُ في أقصى شمال سوريا، كما تشيرُ إلى معركةٍ يذكرُها حديثٌ في العددِ الأول من الجريدة، ينبِّئ فيها بمعركةٍ حاسِمةٍ بين المسلمين والمسيحيّين، تدورُ أحداثُها في دابق وتنتَهي بانتِصار جيشٍ إسلامي آتٍ من المدينة.
لن تأتي الساعةُ إّلا حين يأتي الرومُ إلى الأعماق أو إلى دابق. سيأتي حينَها جيشٌ مكوَّن من أفضلِ جنودِ الأرض من المدينة لردِّهم.
تشكِّل هذه المعركةُ إحدى مقاطِع ملاحمِ آخر العالم، وهو المرادِفُ الإسلاميُّ لهرمجدّون، المكانِ الرمزيِ للصراعِ الأخير بين الخير والشرِّ المذكورِ في الكتابِ المقدَّس( كتابُ نهاية العالم).
وعلى خلافِ القاعدة، فإنّ الدولةَ الإسلامية تطمحُ إلى تثبيتِ نفسِها على أرضٍ ذاتِ حدودٍ: سوريا والعراق. من هنا، يشكِّل “بناءُ الجهادِ على أرضٍ ما مشروعاً سياسيّاً جديداً” .ممّا يميِّز التنظيمَ عن غيرِه في الكوكَبة الجهاديّة ،إذ إنّه يستمِدُّ توسُّعَه من شرعيّة الحركةِ التي يُعطيها لنفسِه. ولذلك نرى أنّ أوّلَ عددٍ لدابق مليءٌ بأعلامٍ ترفرِفُ على مَناظرَ طبيعيّة متنوِّعة.
كما أنَّ حدودَ الدولةِ محدَّدةٌ بوضوحٍ وبالطريقةِ نفسِها. مبادئٌها الأساسية مُعرَّفة كالآتي: التوحيد، المَنهج، الهِجرة، الجهادُ والجماعة. وتُسخَّر هذه المفاهيم لإعادة بناءِ الخلافة. وكأنَّ التنظيم “ينتقِل من منطقِ بناء الشبكة إلى منطقِ السيطرة على الأرض وإدارتِه”، ومن هنا ضرورةُ“طرحِ مهامِّه السيادية على نحوٍ خاص” يكرِّس العددُ الأوَّل مقالةً لِوَصفِ الإدارة الجهاديّة. فتحتَ عُنوان “جمعيّات حلب القبلية”، تصفُ المقالةُ ما بَدأ التنظيم ببذلِه من “جهدٍ في سبيلِ توحيدِ صفِّ المُسلِمين، وتوحيدِ القبائل تحتَ سَلطةِ إمامٍ والعملِ معاً لتحقيقِ نُبوءةِ الخلافة”. يقدِّمُ التنظيمُ عَرضاً لقدرتِه على جمعِ قبائلَ متنوِّعةٍ وكتائبَ محاربةٍ تحتَ الراية الدينيّة. فنداءُ التجمُّع تحتَ سلطةٍ سُنِّيّة يُجسِّدُها الخليفة تبدو وكأنَّها المخرجُ من الوضعِ الذي كانت عليه القبائلُ السوريّة والعراقيّة من ذي قبل، عبارةً عن "عَشائر فقَدت قيمتَها وقادةٍ سُنَّة ذليلون تحتَ أمرةِ السلطاتِ العلويَّةِ ونور المالكي.
أحدُ الواجبات، الهجرةُ إلى أرضِ الإسلام
في نظرِ التنظيم، تشكِّل الهجرةُ المرحلةَ الأولى لبناء الخلافة، كما يشيرُ إليه العددُ الثالثُ لمجلَّة دابق : “نداء الهجرة”. في العددِ الأوّل، يُنادي أبو بكر البغدادي “الأطبّاء والمهندسين والعلماء والأخصائيين” للالتِحاق بالتنظيم، بذَريعةِ أنّه من واجبِ المُسلمِ أن يعيشَ في كنفِ الخلافةِ التي تمَّ الإعلانُ عنها.
عِلاوةً على ذلك، يعرضُ التنظيمُ بالتفصيل المواردَ الأخّاذة التي يملِكُها. يركِّز بالتحديد على التأهيلِ التكتيكي والبَدَني للجنود، وعلى قوَّتِه العسكرية. عندما يستعرِض “أسلحةً مخصَّصةً عادةً للدول” ، يبدو التنظيمُ وكأنّه واجهةٌ للترسانة الجهاديّة. فصفحاتُ المجلّة تغطّيها صورُ المسلَّحين على متنِ آخرِ طرازٍ من سيّارات رباعيّة الدفع، وصورُ مدرَّعاتٍ وطائراتٍ عسكريّة وصواريخ، وكذلك صورٌعن تفجيرات مُذهلةٍ لأبنية. وإن لم يكن “ربما بإمكانِ التنظيم استخدامُ الأسلحةِ الأكثر تعقيداً، إلا أنه يُعطي انطباعاً بالقوة”.
في عدَدَيْها الرابع والخامس، تفتَح المجلَّةُ “نافذةً على الدولة الإسلامية”، نرى من خِلالِها نُصوصاً وصُوَراً لما يوصَف بأنَّها الحياةُ اليوميّة على أرضِ الدولة الإسلامية: جُسورٌ تبنى، شبكات الكهربائية يتمُّ تصليحُها في القرى، شوارع تُنظَّف ، وكذلك عملةٌ جديدةٌ تمَّ صكُّها ويتمُّ التداول بها. تشيرُ صُوَر لبيوتِ العَجائز أو لبُنى المستشفيات الصحِّيّة المتقدِّمة إلى قُدرةِ التنظيمِ على العِنايةِ بالمُسلمين وخاصَّةً على قدرتِه على الاستِحواذِ على قلوبِهم وأذهانِهم.
في العدديْن الرابع والسابع، تُركِّزُ المجلَّةُ على العدالة. وتُكرِّسُ مَقالةً كاملةً لعِقاب رجلٍ متَّهمٍ باللواط، وأخرى لرَجمِ امرأةٍ مُتّهمةٍ بالزنا. كما أنَّ مشاهِدَ إعدامِ وقطعِ رؤوسِ أعداءِ الدولةِ الإسلاميّةِ عديدة، بحكمِها إنذارٌ “للصليبيين”، كصورِ جثَثِ جنودِ حزبِ العمّالِ الكردستاني أو الجثةِ المُفحَّمة للطيّار الأردني. هذا النوعُ من المشاهدِ هو طبعاً مخالفٌ للنُّظمِ الغربيّة، ولكنَّها تسمحُ للدولةِ الإسلاميّة أن تطرحَ نفسَها على أنّها قادرةٌ على فرضِ قواعدَ ونظامِ ما “كي تؤسِّس فعلاً”دولةَ قانونٍ سلامية".
دينُ السيف
باسمِ تلكَ الهويَّة السياسيَّة، أصبحَ العنفُ مُسلَّمَة بُنيويّة من مُسلَّمات الهويَّة الجهادية، ومُكوِّناَ رَسميّاً من استراتيجية تواصُلِها وعَملِها الجهادي. ويَهدِف هذا العنفُ العَلَني إلى إخضاع المُجتمعاتِ بالقوّة، كما يَهدفُ إلى إثارةِ ردَّةِ فعلِ القوَّة الغربيَّة، كالتدخُّلِ العسكري الأميركي.
وبشكلٍ مُتناقَض، فإنّ هذا العنفَ يُغري المُجنَّدين الجُدد، حيثُ أنّ “معظمَ الرجالِ لا يستطيعون مقاومةَ ارتكابِ قتلٍ لا خطرَ فيه، مسموحٍ به، مُوصى به، ويشاركُ فيه الكثيرون” .بالإضافةِ إلى ذلك، يُقوّي التنظيمُ دعايَتَه من خلالِ استعمالِ الإسلام كأداةٍ: “الإسلامُ دينُ السيف، لا دينُ المُسالَمة”. يتَجلّى هنا أنَّ الدولةَ الإسلاميَّةَ تَتمكَّن من جعلِ العنف موقعَ انذِهال، ممّا يفسِّرُ حضورَه الكُلّي على للمشاهدِ الإعلاميّة والديبلوماسية والعسكرية.
تدلُ أعدادُ “دابق” المختلفة أنَّ الخطابَ الدعائيَّ يدمُجُ جانِباً عقلانياً وعمَلِياًّ – مشابِها لمشهَد مهامِّه السيادية-، مع جانبٍ لاعقلانيٍّ يتجلّى باستِعمالٍ دائمٍ للغةِ نهايةِ العالمِ المُروِّعة. وبوصفِ هذا الخطاب، فالجهاديون “فرسان”، بين أعداءُ الخلافَة “كافرون”، “صليبيون”، “مرتدّون”.
ومن بابِ التناقُضِ أنه، تأكيداً لشجبِ العدوِّ الغربي، تَنشرُ “دابق” مُقتطفاتٍ من فيلمين أميركيين حَظِيا بنجاحٍ كبير: “سيِّد الخواتم” (العدد 1) ونوح (العدد 2). فيظهرُ الخطابُ الجهادي مَجبولاً بالتناقُضات، ويأخذُ وصفُ بيتر هارلينغ Peter Harling للدولة الإسلاميّةِ على أنّها “فَزّاعة أرسلتها العنايةالإلهية” “ولم نفهمْ حتى فكرتها بعد”، حَسبَ تعبيرِ الجنرال الأميركي مايكل ك. ناغاتا، قائدِ العمليّات الخاصّة في الشرق الأوسط.