كيفَ يعملُ اقتِصادُ الحربِ في سوريا

كارثةٌ مناخيَّة، دمارٌ وفساد · من مخزن القمح الذي كانته منذ القدم، أصبحت سوريا على وشك التحوّل إلى صحراء بعد نحو خمس سنوات من حرب دموية تلت سنوات من الجفاف والمخاطر المناخية. وبينما تدمّر المعارك آثار الحضارات الأولى المولودة على أراضي الخصب هذه، تعاني الزراعة للبقاء. ومن الواضح أن الجفاف المتعاقب وحركات السكان والهجرات الناتجة عن ديموغرافيا مستكينة وعن الفقر ــ بصورة أفرغت الريف الزراعي لحساب المدن ــ تعدّ من أسباب الصراع الأساسية.

أرضُ رعيٍ متصحِّرة
Jeff Werner, 2003. جيفّ فرنر

في سياق محلي وجيوسياسي غير مستقر في سوريا، كما في مجمل الشرق الأوسط، لا تنذر سنة 2016 بالخير وفقاً لتوقعات مدير الموقع الاقتصادي “سيريا ريبورت”، جهاد يازجي، الذي يقول إنّ “حالة الاقتصاد ستزداد خطورة، مع ارتفاع نسب السكان المفقّرين الذين يعيشون تحت ظروف اكثر بؤساً، ويبحثون بأعداد أكبر عن سموات أكثر رحمة”.

وعلى عكس ما حصل في تونس ثم في مصر، لم تكن “الثورة” السورية حتمية. في البدء، ورغم ثقل الإرث ونقاط الضعف في نظامه، كان الديكتاتور الشاب يمتلك مميزات افتقدها حسني مبارك وزين العابدين بن علي المتقدمين في السن. كانت سوريا تعمل بشكل سيء نوعاً ما، لكنها لم تكن على حافة الانفجار كما كان واقع بقية بلدان “الربيع العربي”. فقد كان اقتصادها يتمتع باستثمارات متأتية من بلدان الخليج وباتفاقيات تجارية وباتفاقية تبادل حر مع تركيا ــ الجار القوي وحليف الشمال. كما كان القطاع السياحي، الذي بقي مقفراً لمدة طويلة، يزدهر. من تدمر في الصحراء إلى “دورا اوروبوس” المدينة القديمة على الفرات، مروراً بحلب، كان البلد بصدد الانفتاح وجلب الاستثمارات. ولم يكن معدل النمو ليضع البلد على حافة الهاوية، برغم كونه غير كاف لاستيعاب بطالة الشباب. غير أنّ الازدهار النسبي، لم يكن موزعاً بالتساوي.

ثقافة الاستثراء

كانت الثورة السورية سلمية في البداية، وهي نقطة لم تكن لتحسب مع نظام غير قادر على اعتماد إصلاحات حقيقية، خاصة لفائدة المزارعين والطبقات المحرومة. وهو نظام يعاني من جنون الشك والارتياب، متصلب ومنطو على ذاته، ومحكوم بثقافة الاستثراء بأي ثمن. يضاف إلى ذلك أن هاجس البقاء مهما كلف الأمر ــ بعد نصف قرن من سلطة الأقلية العلوية التي نجحت مع ذلك في نسج تحالفات مع طبقة التجار والصناعيين المنتمين للغالبية السنية والأقلية المسيحية ــ قد كلف النظام الكثير. لقد استطاع نظام آل الأسد أن يحيا، دون شك، على الأقل في صورته التي كانت ما قبل اندلاع الصراع.

وليُسمح لكاتب هذا المقال، أصيل حلب حيث كبر، أن يطرح هذا السؤال (الذي قد يعطي للوهلة الأولى انطباعا بالحنين): أين أصبحت سوريا، البلد الذي عرفه أبي صائد الغزلان؛ سوريا التي كانت تعطي في سنوات الخير والسنوات العجاف محاصيل جيدة من الحبوب والقطن، مما جعلها من المنتجين الرئيسيين في العالم تزامناً مع ولوج البلاد إلى مرحلة التصنيع؟

في الواقع، تتجه الزراعة السورية راهناً إلى أن تصبح سراباً في صحراء تتمدد. أكثر من نسبة سوري من بين اثنين، من أصل عدد سكان بلغ قرابة 21 مليون (أربع مرات أكثر من الخمسينيات)، قد نزح في بلده أو لجأ إلى الخارج (حوالي 7 ملايين نازح و4 ملايين لاجئ). لقد جعلت الحرب من السوريين “أكبر عدد من اللاجئين لصراع واحد، في جيل”، وفق المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، انطونيو غوتيريس.

ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض التساقطات

حديثاً، قام باحثون أميركيون بطرح نظرية تقول بأن الجفاف القياسي الذي اجتاح القطاع الزراعي في سوريا بين 2007 و2010 قد ساهم في اندلاع الانتفاضة. إذ ضرب هذا الجفاف ــ الأكثر حدة في السجلات المناخية ــ المنطقة الزراعية الرئيسية في شمال سوريا، مجبراً مئات آلاف المزارعين ومربي الماشية المفلسين على النزوح نحو مدن، على غرار حمص ودمشق ودرعا حيث غذى الفقر الثورات وفق دراسة الأكاديمية الأميركية للعلوم1. عالم المناخ في جامعة كولومبيا والمشارك في إنجاز هذه الدراسة، ريتشارد سيغار، يوضح: “نحن لا نقول إن الجفاف هو سبب الحرب، لكنه أضيف إلى جميع العوامل الأخرى، ليساهم بهذا الشكل في الصراع” الذي خلف أكثر من 250000 قتيل ونزوح ملايين الأشخاص. ويضيف أنّ “الاحتباس الحراري الناتج عن الأنشطة البشرية ساهم على الأرجح في شدة الجفاف في هذه المنطقة”.

منذ عام 1900، عرف الهلال الخصيب وفقاً للخبراء، زيادة بدرجات الحرارة بنسبة واحد إلى 1.2 درجة مئوية، وانخفاضاً بنحو %10 من التساقطات. يضاف ذلك إلى الخلافات المستمرة بين انقرة، دمشق وبغداد حول اقتسام مياه الفرات التي تنبع من تركيا. الأكيد أنّ المنطقة عرفت جفافاً مهماً في الخمسينيات والثمانينيات والتسعينيات، لكنّ جفاف 2007-2010 كان الأسوأ والأطول، وهي ظاهرة لا يمكن تفسيرها بمنئى عن الاحتباس الحراري، وفقاً لعلماء المناخ الذين يشيرون أيضاً إلى الانخفاض الحاد في مخزون المياه الجوفية التي كان يمكن أن تحد من الآثار. وكانت دراسات أخرى قد أعزت، بصورة جزئية، للتغيرات المناخية هذا الاتجاه على المدى البعيد نحو جفاف الحوض المتوسطي.

وكانت النتيجة أن انخفض الانتاج الزراعي بأكثر من %30 قبيل الحرب. وبينما كانت الزراعة تساهم قبل ذلك بربع الناتج المحلي الإجمالي لسوريا، مثلت منه بالكاد 16% في 2010. “عند نقطة معينة، انخفض انتاج القمح إلى النصف”، كما يلاحظ الاقتصادي السوري جهاد يازجي في موقع اسبوعيته الالكترونية “ذي سيريا ريبورت” The Syria Report2. واليوم، أصبح البلد مستورداً صافياً للحبوب ولم يعد مكتفياً بصورة ذاتية.

أمن غذائي غير مضمون

في المناطق الأكثر تضرراً في شمال شرق البلاد، تم ذبح قطعان الماشية، بالكامل تقريباً، وتضاعفت أسعار الحبوب، ما أجبر 1.5 مليون شخص على مغادرة الأرياف باتجاه ضواحي المدن التي سبق وأن اجتاحها لاجئون من الحرب في العراق. لم يفعل النظام شيئا يذكر لمساعدة هؤلاء النازحين المجبرين على ترك أراضيهم، وقد كان مقصراً بصفة كبيرة قبل فترة طويلة من “ثورة الفقراء” هذه. وفي عام 2008، بعد ثلاث سنوات متتالية من الجفاف، لم تجد الحكومة أفضل من أن تعلن “رفع أسعار مضخات الري، التي ضُربت بثلاثة، إلى جانب رفع أسعار الأسمدة إلى المستويات العالمية”، وفقا ليازجي.

بعد محصول سيء آخر في 2014 بسبب جفاف جديد ضرب كل المنطقة، تساقطت الأمطار بغزارة في 2015 مما أعطى محاصيل جيدة. لكنها بقيت مع ذلك أقل مما يلزم لضمان الأمن الغذائي لسكان مفقّرين الى حد كبير.

تقدّر محاصيل القمح “الجيدة” لهذا العام ب 2.44 مليون طن، وهو رقم أقل من 40% من مستوى ما قبل الصراع، لاسيما مقارنة مع 2002-2011. ووفقا لمنظمة الامم المتحدة للأغذية والزارعة (فاو)، فإن البلاد تعرف عجزاً بثمانمئة ألف طن، بينما تقدر الاحتياجات السنوية بخمسة ملايين طن. ووفقاً للخبراء، فإن تفتيت البلد إلى مناطق حرب جعل، راهناً، استيراد القمح عن طريق البحر الأسود أقل كلفة من شرائه من الحسكة في الجزيرة ونقله الى دمشق.

ووفق آخر توقعات “الفاو” (منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة)، كانت الحكومة السورية بحاجة لاستيراد ستمائة ألف طن في 2015 ومئتي ألف طن للقطاع الخاص. وفي الفترة الأخيرة، جرى شراء مئتي ألف طن من روسيا، التي أمدّت الحكومة السورية بمئة وخمسين ألف طن كمساعدة غذائية.

آخر المفارقات، في بلد مفتت تسيطر عليه قوات تتداخل ويخترق بعضها البعض في احيان كثيرة، استفادت المناطق المسيطر عليها من قبل المجموعات المتمردة من المحاصيل، كما في الرقة أو في دير الزور الواقعتين تحت سيطرة تنظيم الدولة الاسلامية (داعش)، أو في منطقة الأكراد شمالاً. وكما هو حال النفط الموجود في المنطقة المتمردة، يقع في أحيان كثيرة بيع نفس هذه المحاصيل للطرف الخصم وقد توضع عليها، وفق الظروف، ضرائب حرب. وتشير دراسة، تم الاستشهاد بها مؤخرا في جريدة لوموند الفرنسية، أجرتها آن لو لينجي ريو، المختصة في التموين الدولي للمنسوجات والملابس، إلى أن 6 في المئة من واردات القطن في تركيا تأتي من الحقول التي تسيطر عليها داعش بنسبة 90%. مما ضمن للتنظيم 150 مليون دولار من المداخيل خلال فترة الاثني عشر شهرا الأخيرة، فيما يفاوض الصناعيون الأتراك خفض الأسعار خصوصاً أن هذه المادة الأولية لا يمكن تتبع مصادرها. وتقدّر الخبيرة أن 1/5 من القمصان (T-shirt) المصنوعة في تركيا مصنوعة من قطن مزروع في شمال سوريا، لدرجة أنّ 1.2% من تلك التي تباع في فرنسا تغذي خزينة تنظيم “داعش”. مما يجعلنا نتساءل متى سيدخل داعش إلى منظمة التجارة العالمية?

ووفق تقارير منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) والمنظمة العالمية للصحة، فإن 9.8 مليون من السوريين في وضعية انعدام الأمن الغذائي، من بينهم 6.8 مليون وصلوا الى حد بالغ الخطورة ــ مستوى يتطلب مساعدة دولية مناسبة. كذلك، استناداً إلى وكالات الأمم المتحدة، فقد نزح أكثر من نصف مليون شخص منذ يناير/كانون الثاني 2015، ليواصل استمرار الصراع في تعطيل النشاط الزراعي والأسواق. «على الرغم من كون محصول هذا العام افضل من المتوقع بفضل أمطار غزيرة، يبقى القطاع متهالَكا»، كما يستنتج احد مسؤولي الفاو، دومينيك بورجون، الذي يؤكد على ضرورة مساعدة عاجلة من المانحين للمزارعين للموسم الذي يبدأ في تشرين الأول.

وقد تفاقمت حالة انعدام الأمن الغذائي بسبب جميع انواع النقص، كالنقص في الوقود واليد العاملة والمعدات والبذور الزراعية، دون احتساب الاضرار الملحقة بنظم الري. كما تقلصت المساحات الزراعية المخصصة للحبوب لتصل إلى أدنى مستوى لها منذ الستينيات، دائما حسب الفاو. و«من الواضح أن خمس سنوات من الصراع قد دمرت الاقتصاد السوري وقدرة الناس على شراء المواد التي يحتاجونها للبقاء على قيد الحياة»، وفق تقدير عارف حسين، مسؤول الشؤون الاقتصادية في برنامج الغذاء العالمي. وفي الجانب الواقع تحت سيطرة قوات النظام في حلب، وبينما تطل قسوة الشتاء، يحرم سكان ثاني أكبر مدينة في البلد من الكهرباء منذ شهرين ونصف كما أسرّ بعضهم للكاتب في نهاية كانون الاول.

متى ينضم تنظيم الدولة الإسلامية إلى منظمة التجارة العالمية؟

وفقا لدراسة شاملة لآثار الحرب نشرها في آذار/مارس 2015 المركز السوري لبحوث السياسات بالتنسيق مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الاونروا)، خسر الاقتصاد السوري 202.6 مليار دولار بين بداية الصراع في آذار/مارس 2011 ونهاية 2014 ــ ما يقارب أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للبلد. كما تشير الدراسة إلى أن عجز الميزانية كان في حدود 35.7% في 2013 مقابل 40.5% في 2014 وأن نسبة تغطية الصادرات للواردات قد تراجعت من 82.7% في 2010 إلى 29.7% في 2014. وقد حمل العجز التجاري الحكومة السورية في الشتاء الماضي إلى أن تحد من رخص التوريد الممنوحة للتجار بينما يستمر سعر الدولار في الارتفاع، اذ انتقل من 50 ليرة سورية للدولار الواحد قبل الصراع الى 400 ليرة سورية حاليا.

بعض تلاعبات “رجال الظل” بسعر الصرف تفتح المجال أمام أنواع من المضاربات التي يدفع ثمنها السوريون من الطبقة المتوسطة والتجار والصناعيون، أو عالأقل، أولئك الذين يصمدون إلى حد الآن بما أن الصناعة أيضاً قد انهارت في جانب كبير منها أو نهبت أو اندثرت. ومن بين آلاف المصانع المختفية نذكر الشركات متعددة الجنسيات، نيستلي وتوتال، وكانت هذه الأخيرة تصنّع زيوت التشحيم في المنطقة بين دمشق وحمص.

«انهار حجم أعمالنا بفضل ما نورده ونوزعه إلى 20% مقارنة بما كان عليه قبل الصراع» كما يصرح أحد مسؤولي المشروع السوري الفرنسي المشترك لاوريونت XXI. مصانع أخرى، لاسيما مصانع المنطقة الصناعية في حلب، العاصمة الاقتصادية، دمّرت أو فككت وتم اعادة تركيبها في بلدان أخرى كما تركيا.

وهناك تفصيل طريف، إذ وفقاً لاحصاءات رسمية تركية، فإن ربع الشركات التي انشئت في تركيا خلال سنة 2014 على شكل استثمارات أجنبية تمت عن طريق رجال أعمال سوريين. وفي داخل “المناطق المفيدة” في غرب البلاد (الواقعة تحت سيطرة النظام)، تلقى صناعيين وتجاراً وجدوا لأعمالهم ملاذا في منطقة تقع بمنأى نسبيا عن المعارك الضارية، لكنها مناطق تشتعل فيها أسعار العقارات. أمام هذه الوضعية الكارثية لاقتصاد أصبح مفككاً، حيث أنشأت كل مجموعة من المجموعات المسلحة نوعاً من حالات الطوارئ للسيطرة والتحكم بالمؤسسات والموارد على أراضيها، اعتمدت الحكومة المركزية، المعدمة أكثر فأكثر، تدابير ليبيرالية كرفع الدعم عن عدد من المنتوجات والخدمات الأساسية مما أدى إلى ارتفاع بقرابة 87% في ثمن الخبز في بعض المخابز الحكومية، وفقا للفاو.

ورغم إبقاء السرية حوله، فقد انهار احتياطي العملة الأجنبية وفق رأي أغلب الخبراء الاقتصاديين، وقد كان مقدراً ب21 مليار دولار قبل الصراع. وبوجود خزينة فارغة تقريباً، تواصل الحكومة في ظلها دفع الرواتب لموظفيها ومنحهم زيادات في الأجور (سرعان ما يلحقها التضخم)، زادت الدولة بشكل مذهل من اعتمادها على حلفائها الرئيسيين، مثل روسيا، حيث يتم طبع العملة بسبب العقوبات الدولية على النظام، وإيران التي يرتبط بها البقاء المالي والسياسي والعسكري.

مساعدة ضخمة من إيران

«لقد أصبحنا تابعين تماماً لطهران»، يتذمر عدد من السوريين ممن قابلهم أوريان XXI في سوريا أو خارجها، وهو ما يرد عليه المدافعون عن السلطة بالقول إنه «من الأفضل أن نكون تابعين لطهران على أن نكون تابعين لممالك الخليج». إلى هنا وصل التفكير لدى المواطنين! والموالون للنظام هم في أحيان كثيرة هؤلاء الذين يكنون مشاعر الاستياء تجاه هؤلاء المفترسين الماليين المتمثلين بالسعودية وقطر وحتى تركيا، وهي ثلاث دول كانت تستثمر حتى سنوات قليلة ماضية بمليارات الدولارات في سوريا. لكننا لا نتوقف عند مفارقة واحدة في بلد تصل فيه الأمور الى التمزق داخل عائلة واحدة.