مساءَ الأحد الأوَّل من أيّار/ مايو الجاري، اقتّحمت قوّات الأمن مبنى نقابةِ الصحفيّين في وسط ِالقاهرة واعتَقلت صحفيَّيْن صدرَ بحقهِما أمرُ ضبطٍ وإحضارٍ من النيابة العامة، بتُهمةِ التحريض على التظاهرِ يومَ 25 نسيان/ أبريل الماضي ضدَّ اتفاقيَّة ترسيمِ الحدودِ البحريَّة بين مصرَ والسعودية، وهي الاتفاقيَّةُ التي تتنازلُ بموجبِها مصر عن جزيرتَيْ تيران وصنافير في مدخلِ خليجِ العقبة.
حادثُ اقتِحامِ النقابةِ في حدِّ ذاتِه لا يعدُّ غريبا على النظام الحاكمِ في مصر، فإجراءاتٌ سابقةُ اتَّخذَها نفسُ النظامِ تجعلُ اقتحامَ نقابةِ الصحفيّين أمراً غيرَ مستبعَد عليه. فقبلَ شهورٍ، أقالَ عبد الفتاح السيسي رئيسَ الجهاز المركزيَّ للمحاسبات في مصر، بعد أن أعلنَ عن مؤشِّرات الفسادِ في مصر في الفترة السابقة. كما حاصرَت قوّات الأمنِ مقرّات أحزابٍ سياسيَّة لاذَ بها متظاهِرون يوم 25 نيسان/ أبريل الماضي. وكانت صدرَت أحكامٌ بالإعدام على عدّة مئاتٍ في جلسة واحدةٍ في واقِعة غيرِ مسبوقة. وقبلَ كلِّ ذلك لم يتردَّد النظام عقب 30حزيران/ يونيو 2013 في تنفيذِ مذبحةٍ راحَ ضحيَّتها المئاتُ لفضِّ اعتصامٍ لجماعة ِالإخوانِ المسلمين وأنصارِها في 14آب/ أغسطس 2013.
لا يمثِّلُ اقتحامُ النقابة أيَّ استثناء أو شذوذٍ في الأداء العام للنظام، ولكنَّ السؤال لماذا قام بهذا الاقتحام؟
إنَّ مسألة اعتِقال مطلوبَين لاذا بالنقابة لا يمثِّل مبرراً منطقياً لعمليّةِ الاقتِحام قبلَ يومينِ من اليومِ العالميِّ للصحافة. فمجرَّد لجوءِ مطلوبَين لنقابةِ الصحفيين يَعني نيَّتَهما اتِّباعَ الإجراءات القانونِيَّة للمثولِ للتحقيقِ عبر نقابتِهما. كما أنَّ لجوءَ مطلوبين للنقابةِ من قبلِ لم يَستدعِ اقتحامَها بل التفاوضَ مع المطلوبين ومجلسِ النقابة لإجراءِ عمليَّة تسليمٍ قانونية.
وفي كلِّ الأحوال إذا كان الأمر يتعلَّقُ بضبطِ مطلوبين بقرارٍ من النيابةِ لكان اتَّبعَ الأمنُ الإجراءاتِ التي ينصُّ عليها القانون في هذه الحالة، وهي اصطِحابُ ممثِّلٍ للنيابةِ العامَّةِ لمقرِّ النقابة، وإتمام ُعمليّة الضبطِ والإحضار من داخلِ النقابة في حضورِ نقيب الصحفيين أو من يفوِّضُه. ولكن اقتِحامَ النقابة على هذا النحوِ يؤكِّد أنَّ الأمرَ لم يكن هو الدافعُ الرئيسيَّ للاقتِحام.
اعتِقالات مُتَعمَّدة
الأمر الذي أثارَه اقتحامُ النقابة هو تعمُّدُ الدولةِ الاعتداءَ على الصحافةِ ممثَّلة في نقابتِها، كراهيَّتها لحريَّة الرأي والتعبير، ولكنْ لماذا تريدُ الدولة الدخولَ في صِدامٍ وتحدّي مع الصحافة والصحفيّين، باقتِحامها مقرَّ نقابة الصحفيين.
سيكونُ هذا الصدامُ مبرَّراً لو مثَّلت الصحافةُ إزعاجاً حقيقياً للسلطةِ الحاكمة. ولكنَّ واقعَ الأمرِ قد يكونُ غيرَ ذلك. فقبلَ أسابيعَ قليلة كانت نقابةُ الصحفيّين تدعو رئيس الجمهوريّة عبدَ الفتاح السيسي لأنَ يكونَ الراعي الرسميّ لاحتِفالات نقابةِ الصحفيّين بعيدِها الماسيِّ بمناسبة مرورِ 75 عاماً على تأسيسِ نقابة الصحفيّين، وهو الطلب الذي رحَّب به رئيس الجمهوريَّة.
وبشكلٍ عامٍ لم تشكِّل الصحافةُ في مصر، سواءً الخاضعة للدولة أو الخاصّة، خروجاً يُذكر عن الاتِّجاه العامِّ الذي أراده النظامُ الحاكم. فالصحفُ في مُجملِها كانت مؤيِّدة للسياساتِ الرسميّة للنظام، منذ الثلاثين من حزيران/ يونيو 2013، ولبّت جميعُها نداءَ الاصطِفاف الوطنيِّ ضدَّ الإرهاب، وتمَّ تأجيلُ أي ِّخلافاتِ حتى يزولُ الخطر. ولم يخلُ الأمرُ من مفارقاتٍ، مثلَ صدورِ جرائد الصباح في أكثر من مناسبةٍ بنفسِ العنوان، كما لو أنَّ شخصاً واحدا اختار لها العنوان. وتغيير عناوين بعضِ الصحفِ بعد دخولِها للمطبعة. الكثيرُ من الصحف تخلَّصت بالتدريج من كتَّابها المعارضين للنظام أو حتى الناقِدين له. ومُنعت مقالاتُ الكتّاب المعارضة من النشر في الصحف القومِيّة أو الخاصة، وصلَ الأمرُ لدرجة المفارقة عندَ منعِ مقالٍ لرئيسِ مجلس إدارة مؤسّسة الأهرام، كبرى المؤسّسات الصحفية في مصر، من النشر في جريدةِ الأهرام اليومية، واضطرَّ لنشرِها على صفحتِه الشخصيَّة على موقعِ التواصل الاجتماعيّ "فيسبوك".
الحقيقة أنَّه لا توجد أسبابٌ واضحة ومؤكَّدةٌ تضطرُّ فيها الدولةُ للدخولِ في صدامِ من هذا النوعِ مع نقابةِ الصحفيّين تتعلَّقُ بصحافةٍ مناوئةٍ أو خارجةٍ عن السيطرة سواء قوميّة أو خاصّة، بما يستَدعي إجراءً متطرفاً لم تُقدِم عليه الدولة عندما كانت الصحافة تُمثِّل منابرَ معارِضة للسلطة ولا تتوقَّف عن نقدِ السلطة والهجومِ على كافَّة مستوياتها، في ظلِّ الأنظِمة المتتابعة.
تصويرُ الأمر أيضاً على أنَّه أحدُ أخطاء الداخليّة، والتي تتكرَّر بكثافةٍ في الفترة الحاليَّة ويروح ضحيَّتَها مواطنون برصاصِ أفرادٍ من ألأمنِ أو تحتَ التعذيبِ في مقرّات الشرطة، لا يبدو تفسيراً كافيا.
فعلى الرغمِ من أنَّ تجاوزات الشرطة بحقِّ المواطنين تتكرَّرُ بشكلٍ شبهِ يوميٍّ وتصلُ لحدِّ القتل، إلا أنَّ قرارَ اقتشحام نقابة الصحفيّين يتجاوَز تلك الأخطاء. فليس مُعتاداً أن تقرِّرَ الداخليَّةُ بشكلٍ منفردٍ القيامَ بإجراءٍ من هذا النوع، خاصةً دون وجودِ ضرورةٍ طارئة، فالصحفيّين اللذّيْن لاذا بالنقابة دَخلاها يوم 30 نيسان/ أبريل، والاقتِحام وقع مساءَ الأول من أيار/ مايو، أي أنَّ من قرَّر الاقتِحام كانت لديه الفرصةُ الكافِيةُ للاتِّصال بكافَّةِ الأجهزة وإخطارِها بنيَّة الاقتِحام، وطبعاً كان بالإمكان الاتِّصال بنقيب الصحفيين وممثِّلي النقابةِ للتفاهم على تسليمِ المطلوبين.
من ناحيةٍ أخرى، فإنَّ بيانَ النائب العام الذي صدرَ بعد الاقتِحام وانحازَ بالكامل لعمليَّة الاقتِحام وبرَّرها بوجودِ أمر ضبطٍ وإحضار من النيابة العام، وتضمَّنَ تهديدا غيرَ مباشرٍ لنقيبِ الصحفيّين بأنَّه خالفَ القانون بإيواءِ مطلوبين، ممَّا يضعُه تحتَ طائلة القانون، هذا البيان يشيرُ أنَّ الداخليَّة ليست وحيدة في القرارِ وأنّ الدولة تقفُ خلفّها.
نقابةُ الصحفيّين، مَلاذٌ للمتَظاهرين
اقتِحام النقابةِ واعتِقالُ اثنين من الصحفيّين على نحوٍ غيرِ مسبوق تبعَتهُ إجراءاتُ لم تكن أقلَّ منه. فقد قامت قوّات الأمنِ بإغلاق الشوارعِ المؤدِّية لمبنى النقابة رغمَ أنها شوارعُ حيويَّةٌ في وسطِ المدينة، ومنعِ دخولِ محيطِ النقابةِ إلا بإظهارِ الهويَّةِ الصحفيَّةِ لقواتِ الأمن التي تحاصرُ المنطقة، كما حشدَت قوّاتُ الأمن مؤيِّدي النظام وأعوانِها من أربابِ السوابق والمشردين، ليتجمِعوا في محيطِ النقابة ويتحرَّشوا بالصحفيّين ويهاجموهم أثناءَ توجُّهِهم للنقابة، وهي الإجراءاتُ التي استمرَّت حتى أثناء انعِقاد الجمعيَّة العموميَّة في الرابعِ من حزيران/ يونيو والتي دعا إليها مَجلسُ النقابةِ للردِّ على اقتِحام مقرِّها.
هذا التضييقُ الشديدُ على محيطِ النقابة والذي تضمَّن منعَ الشخصيَّات العامَّة والوفودِ الحزبيَّة وممثِّلي النقابات المهنيَّة من الوصول لمقرِّ النقابة للتضامن مع الصحفيَّين الذين اعتَصموا احتِجاجا على اقتِحامها، ولم يُستثنَ من الأمرِ حتى وفدُ المجلسِ القوميِّ لحقوقِ الإنسان الذي ذهبِ للنقابةِ، ولم يَنجوا من هجوم أعوانِ الأمن.
كما نشِطت أجهزةُ الدولة في محاولة خلق انقسام بين الصحفيّين تجاه الأزمة. فالاقتِحام الذي قام به الأمن للنقابة ردَّ عليه الصحفيّون بجمعيّة عموميّة في الرابع من مايو حشّدت الآلاف من الصحفيّين. ورغمَ حصار الأمن المُحكم للنقابة ومنعِ الدخول لمحيطها إلا بالهويّة الصحفية، وفشَلِ المتضامنين من النقابات والأحزاب في الوصولِ للنقابة، إلّا أنَّ الاجتِماع جاء حاشداً، وأصرَّ الحاضرون على المطالبة بإقالةِ وزير الداخليّة واعتذارِ رئيس الجمهورية وتمَّ إقرار عدَّة خطواتٍ تصعيديَّة، منها عدم نشر اسمِ وزيرِ الداخليَّة في الصحف، والاكتفاء بنشرِ صورتِه السلبيّة “نيجاتيف” حتى الاستِجابة لمطالبِ الصحفيين.
في المقابل، اجتمعَ يومَ الأحد 8 أيار/ مايو ما يقارب مائة صحفيّ من المؤيِّدين للنظامِ في مقرِّ جريدةِ الأهرام التابعة للدولة، ليعلنوا إدانتَهم لمجلسِ نقابةِ الصحفيّين والنقيب ويحمِّلوهم مسؤوليَّة تصعيدِ الأزمة، وكان أبرزُهم نقيبُ الصحفيين الأسبق مكرَّم محمد احمد. وهو الكاتب الصحفيُّ الذي كان مقرَّبا من نظام مبارك، وكان نقيباً للصحفيّين وقتَ اندلاعِ ثورة يناير، وقد تمَّ طردُه من مقرِّ نقابةِ الصحفيّين عقبَ الثورة. وأطلقوا على أنفسهم اسمَ “جبهةِ تصحيحِ المسار” وضمَّ الاجتماع خمسةً من أعضاءِ مجلس النقابة، والذين تنصَّلوا من موقفِ الجمعيَّة العموميَّة وأعلنوا إدانَتهم لما اعتبروه تصعيدا من جانب الصحفيين. أثار الاجتِماعُ غضبَ قطاعٍ واسعٍ من الصحفيّين الذين اعتبروه محاولةً من أجهزةِ الدولة لشقِّ صفِّ الصحفيّين خلالَ الأزمة. ولم
يتمكَّن منظِّمو الاجتِماع من عقدِ فاعليّات أخرى كانوا قد أعلَنوا عنها. من ناحية أخرى، بدأ عددٌ كبير من الصحفيّين في جمعِ توقيعاتٍ للدعوة لعقدِ جمعيَّةٍ عموميَّةٍ طارئة للنقابة وفقا لقانونِ النقابة، وهو ما قد يحدثُ خلالَ أسبوعين وفقا للقانون، وفي حالةِ انعقادِها ستكونُ كلُّ قراراتِها مُلزِمةً لمجلس النقابة والنقيب
اقتحامُ النقابة من الأمن ومساندةِ الدولةِ له، وما تبِعَهُ من مُمارسات يبيَّن أنَّ الهدفَّ الأساسيَّ لم يكن لا ضبطَ مطلوبَين ولا تحدّي نقابةِ الصحفيين، ولا السيطرة على الصحافة والتي لم تخرج أصلاً عن السيطرة.
وربما ما حدثَ يوم 15 أبريل والذي أُطلق عليه “جمعة الأرض” يبيِّن الهدفَ الحقيقيَّ وراءَ اقتحام النقابة. كان ذلك اليومَ الذي دعَت فيه قوى سياسيَّةٌ للتظاهر احتِجاجاً على تنازلِ الدولة عن جزيرتَي تيران وصنافير للسعودية. وتمكَّنت قوّات الأمن من مَنعِ وفضِّ المظاهرات في مُختلَف الأماكن. فتوجَّه المتظاهِرون فرادى إلى نقابة الصحفيّين واحتَشد آلافُ المتظاهَرين في مشهدٍ لم يحدث ربما منذ 30 حزيران/ يونيو.
تدارَكت الدولةُ الأمر في 25 نيسان/ أبريل، الذي يوافقُ ذكرى تحريرِ سيناء والذي دعَت فيه قوى سياسيّة لمظاهراتٍ كان متوقَّعاً أن تكونَ أقوى من سابِقتِها، فما كان من قوَّات الأمنِ إلّا أن أغلَقت جميعَ الشوارعِ المؤدِّية لنقابةِ الصحفيّين ومنعت الوصولَ إليها، واستبدَلت المُتظاهرين من أجلِ الجُزر بمجموعاتٍ من أعوانِ الأمن وقفوا أمامَ النقابةِ ليعلِنوا تأييدَ النظام، رافعين صورَ السيسي وأعلامَ السعودية.
ظلَّ محيطُ نقابة الصحفيّين لأعوام طويلة ملاذاَ آمنا للمتظاهرين، وأقصى ما كانَت تقوم به قوّات الأمن هو محاصَرة المتظاهرين أمامَ النقابةِ حتى ينتهوا من تظاهرِهم وينصرفوا. وهو ما يبدو أن الدولةَ قرّرت تغييرّه عبرَ عمليّة اقتِحام النقابة وما تبعَها من إجراءاتٍ أمنيّة مشدَّدة.
يتَّفق هذا مع ما ذهبَت إليه الدولة عقب30 حزيران/ يونيو 2013، فأهمَّ ما حقّقتهُ ثورةُ يناير هو انتَزاعُ الحقِّ في الاحتجاج والتظاهر، وهو ما اعتبرتهُ سلطةُ الثورةِ المضادَّة عقب 30 حزيران / يونيو هدفاً رئيسيّاً لها. فلم تكتفِ بإصدارِ قانون التظاهر والذي يضعُ قيوداً مشدَّدة وعقوباتِ صارِمة على المتظاهرين، ولكنها تتبَّعت أيضا كلَّ مَظاهر الاحتِجاج والتظاهر لتَقضي عليها، في الوقت التي دعمَت فيه مظاهراتِ تأييدِ النظام.
الإجهازُ على حريّة التعبير
عمدَت سلطات الثورة المضادَّة على مدارِ السنوات الثلاثة السابقة إلى سدِّ كافَّة ثغراتِ الديموقراطيَّة التي فتحَتها ثورةُ يناير، ولم يكن سلَّم نقابةِ الصحفيين سوى إحدى ثغراتِ الديموقراطيّة التي يلوذ به المتظاهرون من ملاحقة الأمن، وهو المكان نفسُه الذي ظلَّ ملاذا آمِنا للمتظاهرين في عهدِ مبارك عندما كانت تُمنع مظاهرُ الاحتِجاج في مختلف الأماكن.
هكذا فإنَّ إلقاء القبض على مطلوبين بتهمة التحريض على التظاهر، أو الدخولَ في تحدّي مع نقابةِ الصحفيّين قُبَيلَ وضعِ تشريعات الإعلام، أو التلويحَ بالقمع للصحفيّين والصحافة، مجرَّد أهدافٍ ثانويّة بجانب سدِّ تلك الثغرة أمامَ المتَظاهرين على سلالمِ نقابة الصحفيين.
هذا الفهم للأزمةِ التي تتعرَّضُ لها نقابةُ الصحفيين، وبالتالي مهنةُ الصحافة ككلِّ يضعُها في مأزقٍ حقيقي. فالنقابةُ رغمِ طابعها المرتبط بالحرِّيات والديموقراطيّة بشكلٍ مباشر، نأت بنفسِها عن التورُّط في أيِّ نشاطٍ ذي طابعٍ سياسي. وكانت دعوتُها لرئيس الجمهوريّة لرعاية يوبيلها الماسي بمثابةِ تأكيدٍ على بعدِها عن أي تيَّار معارض. ومع ذلك لم تنجُ في خضمِّ الأزمةِ السياسيّة من هجوم النظام. وبكونِ سلالمِ نقابة الصحفيّين منفَذا للاحتِجاجات، لم يكن اختيارُ النقابةِ نفسِها أو قرارها.
هنا يبرز تهاوي منطقِ البعدِ بالنقابة عن السياسة. فالنقابةُ التي ابتعَدت عن السياسة لم يبتعِد عنها القمعُ والانتِهاكات. فضلاً عن أنَّ مهنة الصحافة في حدِّ ذاتِها والتي ترعاها نقابةُ الصحفيين، لا يمكن أن تمارسَ بشكل حقيقي في غيابِ الحرِّيّات والديموقراطيّة. فالدفاعُ عن مهنةِ الصحافة هو دفاعٌ تلقائيٌّ عن الحريَّة والشفافيّة والديموقراطيّة.
الابتزازُ الدائم لنقابة الصحفيين بأنَّها تخضعُ لإرادة سياسيّة وليست مهنيّة ليس سوى القبول ضمنيّاً باقتحام النقابة وسلطة الداخليّة عليها. ونتيجتُه ستكون سدُّ ثغرة صغيرة للديموقراطيّة ظلَّت مفتوحةً رغمَ مناخِ الاستبدادِ العامِّ، وهو ما يؤثر بشكلٍ مباشر ليس فقط على نقابةِ الصحفيين، ولكن على أيِّ عملٍ نقابيٍّ آخر. أما التأثير الأكثرُ ارتِباطا بنقابة الصحفيين، فهو ارتِباط الواقعةِ بقربِ إصدار التشريعات الصحفيَّة والإعلاميّة، والتي في حالَ انكسارُ النقابةِ في معركتِها الجالية ستكونُ خاضعةً بالكاملِ لإرادةِ الأجهزة الأمنية. وما تمكَّنت الدولُ من فرضِه في الفترة السابقة من هيمنةٍ على الصحف ووسائل الإعلام بشكلٍ غيرِ رسمي، سيتِمُّ التشريعُ له ومحاسبةُ من يخالفُه.
إن اقتِحامَ نقابة الصحفيّين حدثٌ لا يخصُّ النقابة وحدَها، فمِن ناحيةٍ كان هدفُه القضاءَ بالكامل على أيِّ مَنفذ للتعبير، وهو بالتالي أمر لا يخصُّ نقابةُ الصجفيين وحدها. فنقاباتٌ مهنيّة أخرى، مثلَ نقابَتَي الأطبّاء والمحامين تعرَّضَ أعضاؤها لانتِهاكات من الداخلية، وأحزابٌ سياسيّة مثل حزب الكرامة حاصرته قوّات الأمن ومنعت الدخول والخروج منه في 25 نيسان/ أبريل، ومظاهراتٌ سلميَّة أُطلِق الرصاص على منظِّميها دونَ حتى إنذارٍ مسبق، ومدن وأحياء شعبيّة انتفَضت ضدَّ مصرَع مواطنين على أيدي الشرطة. وأزمةُ نقابةِ الصحفيّين على طابِعها الخاصّ ليست سوى حلقة من حلقاتِ مواجهةِ أدواتِ القمع والاستبدادِ التي تُفرط الثورة المضادَّة في استِخدامها، لسدِّ كافَّة ثغراتِ الديموقراطيّة التي فتحَتها ثورةُ يناير، والتي لا يعني نجاحُها في سدِّها سوى التحضير لانفجار.