قبلَ الانتِفاضة، ومن وجهةِ نظرٍ اجتماعيَّةٍ واقتصاديَّةٍ، كان يمكنُ تقسيمُ سوريا إلى منطِقتين. كان غرب البلاد، الذي يَضمُّ مِحورَ دمشق ــ حلب والمدنَ الرئيسيَّةَ الكبرى والمِنطقةَ الساحليّة، القسمَ الأكثرَ نُموّاً، في حين أنَّ الجنوبَ (مناطقَ درعا حيث اندلَعت الانتِفاضة، والقنَيطِرة والسوَيْداء) والشرقَ (دير الزور والحَسَكة والرقَّة) كانَ أكثر إهمالاً، بحسبِ المؤشِّراتِ الاجتماعيَّةِ والاقتِصاديَّة. إلّا أنَّ ذلك المشهد كان يضمُّ بعضَ الاستِثناءات: فمحافظةُ إدلب كانَت تُعدُّ من بينِ الأفقرَ في البلاد (وهي محافظةٌ ذاتُ أغلبيّةٍ ريفيّةٍ فُصِلت عن حلب عام 1958 بهدفِ إضعافِ عاصمةِ الشمال وثاني أكبرَ مدنِ البلاد)، بالتوازي مع ضعفِ مستَويات التنميةِ الاقتِصادية والاجتِماعيَّةِ في الريف الحلبي، ما أنتجَ شرخاً صارخاً بين المدينةِ والريفِ في حلب، الأعمق على المستوى الوطنيِّ.
في الوقتِ نفسه، نجد أنَّ المحافظاتِ الشرقيَّةَ هي الأغنى من حيثُ المواردِ الطبيعية، فالنفطُ يُستخرَجُ من حقولٍ حولَ الرقَّة ودير الزور وعندَ الحدودِ الشماليَّةِ الشرقيَّةِ مع العراق. إضافةً الى أنَّ القمحَ والشعيرَ والقطنَ (وهي ثلاثُ زراعاتٍ استراتيجيَّة) كانت تُزرَعُ في هذه المناطقِ الغنيَّةِ أيضاً بالموارِدِ المعدنيَّةِ بفضلِ مياهِ الفراتِ الذي يَنزلُ من تركيا ويَسقي العراقَ بعدَما يعبُر سوريا. إلّا أنَّ المناطقَ الغنيَّةَ بالمواردِ الطبيعيَّةِ لم تكن تجني، بالنتيجة، سوى ربحٍ محدودٍ من أرضِها، وهو وضعٌ سائدٌ في عددٍ من الدولِ النامية. كانَت سوريا إلى جانبِ ذلك محكومةً من دولةٍ مركزيَّةٍ قويَّة نسبِيّا. فقد كانت المؤسَّسات المنتشِرةُ في أنحاءِ البلادِ ناشطة، وكانت الحكومةُ تواصِلُ تقديمَ خدماتِها (المدارس، التعليم...)، وتُواصلُ الاستِثمارَ في البنيَةِ التحتِيَّة وتُحدِّد أسعارَ بعضِ الموادِّ الاستِهلاكِيَّة (خبز، مازوت...)، وتستمِرُّ في الانتاجِ (إنتاج موادَّ زراعيَّة، كهرباء، قروضٍ بنكيّة). كما كانَت المُشغِّلَ الرئيسيَّ في المناطقِ الأقلَّ تنمية، ويعودُ سببُ ذلك جزئياً إلى ضعفِ مستوى الاستِثمارات الخاصة.
فقرٌ يَطالُ 85% من السكّان
لكنَ العقدَ الأوَّلَ من حكمِ بشار الأسد، خاصَّةً بعد سنة 2005، شهدَ تراجُعاً مَلحوظاً في دورِ الدولة. فقد كانَ الاستثمارُ العموميُّ في انخفاض، كما خُفّض الدعمُ عن الجزءِ الأكبرَ من السلعِ والخدمات. وتمحوَرَت السياساتُ الاقتصاديَّةُ للحكومةِ أكثرَ فأكثرَ حولَ قطاعِ الخدماتِ ولصالحِ التجمُّعات المُدُنيَّةِ الكبرى، وذلك على حسابِ الضواحي والأرياف، وبصفةٍ أشملَ، على حسابِ المناطقِ النائيَة من البلاد.
وفي عمليَّةِ قطعٍ مع السياسات السابقة للحكومات البعثية، نُقلَت مسؤوليَّةُ التنميةِ في تلكَ المناطقِ المُهمَلةِ إلى القطاعِ الخاصِّ، الذي حظِيَت شركاتُه في المناطقِ النائيَة من البلادِ بضرائبَ أقلَّ وبأنظمةٍ أكثرَ مرونةً بهدفِ تشجيعِ الاستِثمار. لكن الاستِثماراتِ تعثَّرت في تلك المناطقِ الأشدَّ فقراً في غيابِ إرادةٍ سياسيَّةٍ قويَّة. ولا يعودُ السببُ في ذلك إلى أنَّ السلطاتِ لم تُدرِكْ أوْجُهَ القصورِ وضرورةَ معالجتِها، بل لأنَّ إدراكَها للأمورِ جاءَ متأخِّراً.
في بدايةِ شهرِ آذار/مارس 2011، أي بعدَ أسابيعَ فقط من بدايةِ الانتِفاضات في تونس ومصر، وقبلَ بضعةِ أيامٍ من بدايةِ الانتِفاضة في سوريا، توجَّهَ بشار الأسد على عُجالَةٍ إلى محافظةِ الحسكةِ في الشمال الشرقيِّ للبلاد، بهدفِ إعلانِ إطلاقِ مشروعِ تحويلِ نهرِ الفرات، وهو استِثمار تأخَّرِ لأكثرَ من ثلاثةِ عقود، قدّرت تكلفتُه بثلاثةِ مليارِ دولار، ويهدفُ إلى ريِّ مساحاتٍ شاسعةٍ من الأراضي ولتنمِيَةِ الانتاجِ الزراعيِّ ولخلقِ فرصَ عملٍ لآلافِ الأشخاص.
في عامِ 2016، لم تعد الآثارُ المدمّرةُ للحرب على الاقتِصادِ وعلى حياةِ السوريّين بحاجةٍ لإثبات، فالأرقامُ تتكلَّم بنفسِها. بحسبِ آخرِ تقريرٍ مَنشورٍ في أواخرِ عامِ 2015 من قِبلِ خبراءِ “المركزِ السوريِّ لبحوثِ السياسات”، فقد ألحقَ النزاعُ، حتى نهايةِ العامِ الماضي، خسائرَ اقتصاديَّةً تقاربُ 255 مليار دولار، وكان الناتجُ المحليُّ الإجماليُّ يعادلُ أقلَّ من نصفِ قيمتِه عام 2010، كما ارتفعَت البطالةُ إلى أكثرَ من 50%، وطالَ الفقرُ أكثرَ من 85% من السكّان. وبسببِ فَرارِ رؤوسِ الأموالِ وانخفاضِ احتِياطات البنكِ المركزيِّ وعجزِ الميزانِ التجاري، تراجعَت الليرةُ السوريَّةُ إلى مستوَياتٍ متدنِّيَةٍ ولم تعد تبلغُ قيمتُها اليومَ سوى عِشرِ قيمتِها عشيَّةِ النزاعِ ليتمَّ تبادلُها بمعدَّلِ 600 أو 700 ليرة سوريَّة للدولار الواحِد.
إضافَةً إلى ما تقدّم، يبدو التأثيرُ المُهمُّ والدائمُ للحرب هو تجزئةُ البلد، على الأقلِّ إلى أربعَ مناطقَ بيّنة:
- - الأولى تحت سيطرةِ النظام، وتتمثَّلُ في جانبٍ كبيرٍ منها في الجزءٍ الغربيِّ، الأكثرَ نموّاً والذي أشرنا إليهِ أعلاه، أي المنطقةِ الساحليَّةِ ومحورِ دمشق ــ حلب الأساسي، باستِثناءِ بعضِ المناطقِ الريفيَّةِ والضواحي والمناطقِ المحيطةِ بنصفِ مدينةِ حلب الواقعةِ في معظمِها بأيدي المعارضةِ وإلى حدٍّ أقلَّ بأيدي جبهةِ النصرة (فرعِ تنظيمِ القاعدةِ في سوريا). أما حلب المدينة، فهي تحتَ سيطرةِ النظامِ في جانبِها الأكبر (الغرب)، وتحتَ سيطرةِ المتمرِّدين في جزئها الشرقي.
- - الثانيةُ في شرقِ البلاد، ويسيطرُ عليها تنظيمُ الدولةِ الاسلامية، على طولِ نهرِ الفرات، ممّا يعني إجمالاً مناطقَ العشائر العربِيَّةِ المرتبِطةِ تاريخيّاً بالعراق، وحولَ حقولِ النفطِ في ديرِ الزورِ والرقَّة، معقلِ التنظيمِ في سوريا.
- - منطقةُ ثالثةٌ كرديّةٌ تمتدُّ من شمالِ شرقِ البلادِ وفي جيبٍ يقعُ غربَ حلب، وتقعُ تحت هيمنةِ حزبِ الاتِّحادِ الديموقراطيِّ (الفرع السوريِّ لحزبِ العمالِ الكردستاني). حيث يُعدُّ كردُ سوريا غالبيَّةً في هذه المناطقِ أو يشكِّلون على الأقلِّ أكبرَ أقليّة. لكنَّ تلكَ المناطقَ ليست الوحيدةَ التي يتواجدُ فيها الكردُ بكثافةٍ، اذ يوجدُ مئاتُ الآلافِ من هذه الفئةِ من غير العرب في كلٍّ من مدينتَيْ حلَب ودمشق.
- - وأخيراً، منطقةٌ رابِعةٌ تسيطِرُ عليها مَجموعاتٌ مختلِفة، إضافةً الى جبهةِ النصرة. ومناطقُ المعارضةِ هذه (الجيشِ السوريِّ الحرَّ ومجموعاتٍ أخرى من المُتمرِّدين) مجزَّئةٌ ولا تملكُ تواصُلاً جُغرافِيًّا، على عكسِ المناطقِ الثلاثة الأخرى.
المناطقُ الثلاثةُ الأخيرةُ هي الأقلُّ تنمِيَةً في جنوبِ وشرقِ سوريا.
انكِفاءُ الحركةِ الاقتِصاديّة نحوَ الساحل
رغم أنَّ هذه المناطقَ أقلُّ دماراً من باقي البلاد، وعلى الرغمِ من استقرارِها الظاهري، فإنَّها وبسببِ وزنِها، قد شهدَت تحوَّلاتٍ أثَّرت بعمقٍ على النسيجِ الاقتِصاديِّ والاجتِماعيِّ والسياسيِّ لسوريا.في هذا الجزءِ حيثُ مازالَ يعيشُ ثُلثا السكان، يقامُ حاليًّا توازنٌ جديد. فمحورُ دمشق ــ حلب، الذي يُشكّل العمودَ الفقريَّ للبلاد، قد أُضعِفَ بصفةٍ خاصَّةٍ بسببِ التدميرِ الماديِّ لمدينةِ حمص (ثالث مدن البلاد) ونصفِ مدينةِ حلب وضواحي مدينةِ دمشق، وبفعلِ هروبِ المُستثمِرين والطبقاتِ المتوسِّطةِ، الى جانبِ ضعفِ دورِ الدولةِ ومؤسَّساتها.
وينتقلُ الاستِثمارُ الخاصُّ والعامُّ (أو ما تبقّى منه، بما أنَّ المستَوَياتِ الحاليَّةَ ليست إلّا جزءاً بسيطًا ممّا كانت عليهِ قبل النزاع) نحوَ المِنطقةِ الساحليَّةِ التي تُعتَبرُ آمنةً ومحميّة. ففي 2015 على سبيلِ المثال، تمركزَت 32% من الاستِثماراتِ الخاصَّةِ المرخَّصةِ من هيئةِ الاستِثمار السوريَّةِ (هيئةٌ حكوميَّة) في محافظَتَيْ طرطوس واللاذقيَّة (الميناءَيْن الرئيسيَّين في البلاد)، فيما لم تَستَوْعب محافظتا دمشق وحلب سوى 27% فقط. وللمقارنة، كانت هاتان الأخيرتان تجتذبان في 2010 حوالي 40,5% من المشاريعِ المعتمَدة من قِبلِ هيئةِ الاستِثمارِ، مقابلَ 4,5% لطرطوس واللاذقيّة. كما تضاعفَ في طرطوس خلالَ العامِ الماضي عددُ مشاريعِ المؤسَّساتِ الصغيرة، إذ أنشئت 1.752 شركةً جديدةً في هذه المحافظةِ في 2015، مقابلَ 867 في العام السابق. وقد انتقلَ عدد الشركاتِ المساهِمة من 119 في 2014 إلى 251 في 2015.
تنجذِبُ رؤوسُ الأموال الخاصَّة بشكلٍ طبيعيٍّ إلى الأمنِ السائدِ في المِنطقةِ الساحليّة، بالأخصِّ في محافظةِ طرطوس، وهي الأكثرُ هدوءًا منذ بدءِ الانتِفاضة. يضافُ إلى ذلكَ حركةِ السكّان الفارّين من مناطقَ أخرى من البلاد والتي ترافَقت مع تدفُّق المستثمِرين الحريصين على وضعِ رؤوسِ أموالِهم في منطقةٍ تَشهدُ ارتِفاعا نسبيًّا في الطلبِ على البضائع. وبهذا، يعكسُ التغييرُ لصالحِ المنطقةِ الساحليَّةِ مُعطىً ديمغرافيًّا جديدًا إذ لم يَعدْ العلويّون يشكِّلون أغلبيَّةِ سكّانِ هذه المِنطقةِ كما في السابق.
ويأتي نقلُ الاستِثمارات العامّةِ الى المِنطقة الساحليّة، إلى حدٍّ كبير، نتيجةً لسياسةِ النظامِ الرامِيَةِ الى إرضاءِ “زبائنِه”. وأعلنَ رئيسُ مجلسِ الوزراء وائل الحلقي في خريفِ 2015 إطلاقَ استِثماراتٍ عامَّةٍ يبلغُ مجموعُها 30 مليارَ ليرةٍ سوريّة في محافظتَي اللاذقيَّة وطرطوس، وقد أحدثَت لها وسائلُ الإعلامِ الرسميَّةِ صدىً كبيرا. في نفسِ الوقت، لم تُخصِّص الحكومةُ سوى مبلغِ 500 مليون ليرةٍ سوريَّةٍ لمدينةِ حلب، القلبِ الصناعيِّ والتجاريِّ للبلادِ سابِقا.
غادرَ رجالُ الأعمالِ والمستَثمرون التقليديّون البلادَ بكثرة، واستقرّوا في أنحاءٍ أخرى من العالم، وقد تمَّ تعويضُهم بآخرين بَنَوْا ثرواتِهم على نشاطاتٍ مرتبطةٍ بحالةِ الحرب. مثالاً على ذلك، اتَّضحَ هذا التغييرُ من خلالِ انتِخاباتِ غرفِ التجارةِ في دمشق وحلب في نهاية 2014. ففي حلب، كان عشرةٌ من أصلِ اثنَيْ عشرَ عُضواً في مجلسِ الادارة وافدين جدداً غيرَ معروفين قبلَ الانتِفاضة، وفي دمشق كان سبعةٌ من أصلِ اثني عشر عُضواً في نفس الوضع.
تَستمرُّ المناطقُ الساحليَةُ في الحفاظِ على صلاتٍ وثيقةٍ بدمشق وبالحكومة المركزيَّةِ بفضلِ جهازِ الدولة، ولا تزالُ غالبيَّةُ من العلويّينَ في سنِّ العملِ تعمَلُ في القطاعاتِ المدنيَّةِ والعسكريَّةِ للدولة التي لطالَما كانَت تشكِّلُ مَصدراً للعملِ لهذه الطائفة. وقد تعزَّز هذا الدورُ مع الحربِ والانكِماش الاقتصادي. ويُعتبَرُ هذا الاعتِمادُ الكبيرُ من الطائفةِ العلويَّةِ على الدولةِ المركزيَّةِ عامِلاً مُهمًّا ضدَّ حكمٍ ذاتيٍّ مُمكنٍ للمِنطقةِ الساحليَّةِ، مما يُفسّرُ أهميَّةَ السيطرةِ من دمشق.
مؤسَّساتٌ منافِسةٌ للدولة
بالنسبةِ للمناطقِ الخارجةِ عن سيطرةِ قِوى النظام، وبعضُها منذُ أكثرِ من ثلاثِ سنوات، فقد اضطرَّت إلى التأقلُمِ مع الوضع الجديدِ وإلى إنشاءِ مؤسَّساتٍ وشكلٍ من أشكالِ الحكم، لا سيَّما وأنّ مراكزَ ووسائطَ الانتاجِ قد دمّرت، فيما رحلَ رجالُ الأعمالِ وفُكِّكت شبكاتُ النقلِ والتجارة، وقد جاءَ هذا الدمارُ بعدَ عشراتِ السنينِ من التخلف. وتَحظى المؤسّسات الجديدة المُقامَةُ لتعويضِ غيابِ الدولةِ والفراغِ الذي خَلفَه تدميرُ اقتِصادِ ما قبلَ الحربِ في أحيانٍ كثيرة (وليس دائماً) بشرعيَّةٍ أكبرَ من الحكومةِ عندَ السكّان المحليّين، ولأسبابٍ عدّة:
- -عددٌ من المؤسَّساتِ منتخَب، لاسيّما في المناطقِ التي استقرَّت فيها المعارضة، وذلك على الرغمِ من الشوائب التي اتَّسمت بها العمليّاتُ الانتخابيّة في أحيانٍ كثيرة.
- -تُدار المؤسَّساتُ من قبل محلِّيّين، وعددٌ كبيرٌ من هؤلاء كان قد عملَ وناضل للدفاعِ عن مجتمعِه من النظام.
- -هيَ جزءٌ من مشروعٍ سياسيٍّ أكثرَ طموحاً ومقبولٌ من قِبلِ السكّان (الأكراد، المعارضة).
في الواقع، تتنافسُ هذه المؤسَّساتُ في ما بينِها ومع مؤسَّساتُ الحكومة، لنجدَ إداراتٍ محلِّيَّة تَعتبر نفسَها ــ أو تدَّعي ــ أنَّها الحكومة، بما يتبعُ ذلك من وجودِ أربعةِ برامجَ تعليميَّةٍ على الأقلِّ، وثلاثُ عملات مَتداوَلة كوسيلةِ تبادل. وهكذا، يُرخِّصُ الكردُ لمشاريعَ استثمارية، وقد سنَّوا خلال العامَين الماضِيَين عشراتِ القوانينِ الهادفةِ لتنظيمِ الحياةِ في مناطقِهم. كما يَفرضُ تنظيمُ الدولةِ الاسلاميَّةِ ضرائبَ ويسمحُ باستثماراتٍ وله قوَّة ُشرطةِ خاصَّةٌ به. ولمناطقِ المعارَضة مجالسُ محليّةٌ لكلٍّ ما يهمُّ إدارةَ الحياة اليومية. وتتألّف الحكومةُ المؤقَّتةُ للمعارضةِ من عدّة وَزارات، كما أُنشِئت هيئاتٌ مُكلّفة بتوزيعِ القمحِ والخبزِ وإدارةِ المستشفَياتِ وتوزيعِ المساعَداتِ داخلَ البلاد.
ولا تنفكُّ نفقاتُ هذه السلطاتِ الجديدةِ عن الازدِياد. إذ يقدِّر خبراءُ “المركزِ السوريِّ لبحوثِ السياسات” أنَّ مجموعَ النفقات “العموميَّة” لمناطقِ المعارَضة مُجتمِعة، لتنظيمِ الدولةِ الاسلاميّة والكرد، أي المؤسَّساتِ المُتمركِزة في هذه المناطق، تعادلُ حالياً 13,2% من الناتج المحليِّ الإجماليِّ السوريِّ في 2015، مقابلَ 31,6% في مناطق النظام. وهذا يعني أن النفقاتِ “العموميَّةَ” في المناطقِ غير التابعةِ للحكومةِ تشكّل حاليًّا أكثرَ من ثُلثِ النفقاتِ العموميّة، ممّا يبيّنُ المكانةَ المهمَّةَ التي تَحظى بها أكثرَ فأكثرَ هذه المؤسَّساتُ الجديدةُ المنشأةُ في أنحاءِ البلادِ المقطّعةِ لتحلّ محلَّ الدولة.
لامركزيَّةٌ لا بدَّ منها
لا شكَّ أنّ “استقرارَ” الحدودِ الداخليَّةِ لسوريا خلالَ الأعوامِ الثلاثةِ الماضيَةِ وترسيخَ المؤسَّساتِ الذاتية المُقامة حديثاً، بالإضافة السلطاتِ الجديدةِ للفاعلين الجدد، أمورٌ ستشكِّلُ تحدِّياتٍ خطيرةً في نهاية الصراع، ويجب مواجهتُها. يَرتبط أحدُ هذه التحدِّيات باللامركزيّة. على خلافِ المسألةِ الكرديّة، التي سيتطلَّب حلُّها درجةً متقدِّمةً من الحكمِ الذاتي، فاللامركزيّة تقدّمُ أحدَ الخياراتِ القليلةِ التي قد تؤمن نقطةَ لقاءٍ بين القوى المختلفةِ المنبثقةِ من الصراع. وفعلاً، تجدُ نداءاتٌ لحكمِ محليٍّ أكبرَ صداها في أنحاءِ سوريا؛ وإحدى أهمِّ الصعوباتِ التي تمنعُ توحُّدَ المعارضةِ هي بالتحديد الشعورُ القويُّ بالاستقلاليَّةِ والذي تطوّرَ ضمنَ مختلفِ مجموعاتِ البلاد. وقد عكسَ الصراعُ أيضاً درجةَ الارتِيابِ الذي كُبتَ طويلا، بين المدن، بين المدنِ وأريافِها المحيطة، وبين مختلفِ المناطق. وغالباً ما تربطُ النخبةُ المُدُنيّة، خاصَّةً في دمشق، بين اللامركزيّةِ وبين تقسيمِ البلاد وضياعِ السيادة. وهذا سيولِّدُ حتماً رفضًا من جانبَيْ خطَّ الانقِسام بين المعارضةِ والنظام.
ثمَّةَ مسألةٌ أخرى مرتبِطةٌ جزئيّاً بمسألةِ اللامركزية، وتتعلَّقُ بالتوزيعِ العادل للموارد. فالمناطقُ الأغنى من حيثِ المواردِ الطبيعيّةِ هي أيضًا، كما أشَرنا، الأقلُّ تنمية. ويبدو مُستبعَداً أن تقبلَ هذه المناطقُ من جديدٍ بسيطرةِ دمشق على ثرواتِها كما في الماضي. فالنفقاتُ في المناطقِ الكردية على سبيلِ المثال، مموَّلةٌ الى حدٍّ كبيرٍ بفضلِ استِغلالِ النفطِ في مِنطقتهم. وفي دير الزور، قبلَ ظهورِ تنظيم الدولة الاسلامية، تقاتلَت العشائرُ والمجموعاتُ المحليَّةُ في ما بينِها من أجلِ السيطرةِ على آبارِ البترولِ التي اعتُبِرت “مُستولى عليها” عن غيرِ حقٍّ من قبل دمشق. وإنّ تخصيصَ جانبٍ أكبرَ من المواردِ للمناطقِ سيكونُ مُحارباً من قِبلِ أيَّةِ حكومةٍ مستقبليّةٍ عليها مواجهةُ نقصِ الايرادات، خاصَّةً وأنَّ الأمورَ ستكونُ مرتبِطةً بمجهودٍ مهمٍّ لإعادةِ الإعمار.
بالتوازي، أثبتَ الصراعُ السوريُّ مركزيّةَ المسألةِ الطائفيَّةِ في دولةٍ يُعتبرُ المواطنون فيها مُتساوين. لقد لعبت الحربُ هنا دوراً كاشِفاً للتوتُّراتِ الطائفيَّةِ والعرقية، مبيِّناً خوفَ الأقلِّيّات من الإسلامِ السياسي، وخشيةَ الكردِ من العروبة، وخوفَ المسيحيّين الأشوريّين من الكُرد، إضافة إلى إحساسٍ عميقٍ بالظلم لدى الغالبيّة السنيّة. وبصرفِ النظرِ عن تلك المخاوِف، فلا بدّ من إيجادِ حلولٍ لمسائلِ الهويّات الثقافيّةِ التي بقِيَت طويلاً مقموعة. وأخيراً، يجب التطرُّقُ لمسألةِ بناءِ دولةٍ تحافظُ على مسافةٍ متساوِيَةٍ مع جميعِ مواطنيها، مع ضمانِ حقوقِهم السياسيَّةِ والثقافيَّةِ كأفرادٍ وجماعات، وهي مسألةٌ تبقى إلى هذه الساعة غيرَ محسومة.