“في العالم العربي، كلّ شيء أكثرُ تعقيدًا ممّا كنّا نتمنّى”
. لم تَرد تلك الجملة في صحيفة شعبيّةٍ بريطانيّة، ولكن في جلسة استِماع السير آلان دنكان Alan Ducan ، وزيرِ التنمية الدوليّة البريطاني، عام 2011، الوارِدة في تقرير لجنة الشؤون الخارجيّة التابعة لمجلسِ العموم البريطاني، حول التدخُّل العسكريِّ في ليبيا عام 2011، الذي نُشر في 16 أيلول / سبتمبر الماضي. تلك الجملةُ الصغيرة يمكن لها وحدَها أن تلخِّصَ مضمون ونبرَة هذا التقرير، الذي يتشابه في بعضِ نتائجِه مع تقرير “تشيلكوت” Chilcotالصادر منذ شهرين، وهو التقرير الذي أوضح حقائقَ مُرعِبة عن التدخُّل العسكريِّ البريطانيِّ في العراق عام 2003. يُشكِّل التقرير حول التدخُّل العسكريِّ في ليبيا خلاصةَ جهودٍ بحثيَّة وجلساتِ استِماع قام بها، منذُ تشرين الأول/ أكتوبر 2015، أَحدَ عشَر عضوًا من لجنة الشؤون الخارجية في مجلسِ العموم البريطاني (6 نوّابٍ عن محافظين، 4 نوّابٍ عن حزب العمّال، ونائبٌ واحدٌ عن الحزبِ الوطنيّ الاسكتلندي). حيث تمَّ الاستماع إلى شهادات المسؤولين السياسيّين والعسكريّين والدبلوماسيين الأساسيّين، الذين كانوا في الخدمة عام 2011، في مجلس العموم، وهم: رئيسُ الوزَراء السابق توني بلير، ثلاثةُ أساتِذة جامعيّين مرموقين، وصحفيٌّ مُتخصِّص في الشأن الليبيّ. أما ديفيد كاميرون، والذي كان يَحتلُّ منصِب رئيس الوزراء وقتَذاك، فقد اعتذرَ عن تلبية الدعوة التي وُجِّهت إليه للإدْلاء بشهادتِه أمامَ المجلس. كما أجرَت اللجنةُ عدّة لقاءات مع شخصيّات تونسيّة وليبيّة في تونس. وقد أُلحِقت كافَّة مَحاضر الجلسات بنصِّ التقرير المكوَّن من 53 صفحة.
يَكشف هذا التقرير، من خلالِ شَهادات الفاعلين الأساسيّين في ذلك الوقت، عن تَفاصيلَ في غايَة الأهمِّيّة حولَ عمليّات اتِّخاذ القرار التي قادَت إلى الحرب، وأهدافِ تلك الحرب، واستعداداتِ ما بعد الحرب. فقد اعترَف جميعُ المسؤولين الذين أدْلَوْا بشهاداتِهم بأنَّ معرفتَهم بالفاعلين الليبيّين، وبالبُنى الاجتِماعية والسياسيّة الحقيقيّة للدوْلةِ الليبيّة في عام 2011، كانَت سطحيّة. ثمَّة ما هو أخطرُ من ذلك: اعتمدَت وزارةُ الدفاع في تحليلاتِها، وبشكل كلِّيٍّ، على المَعلومات التي كان يَبثُّها المتمرِّدون على شبَكات التواصُل الاجتماعي، والتي كان ينقلُها المعارِضون الليبيّون في الخارج، أو على وَكالاتِ الإعلام المرموقة التي كانت تنقلُ عادةً تغطية قنواتِ “الجزيرة” القطريّة و “العربيّة” السعودية. وقد اعتَرفوا جميعًا أنَّه لم يَكن لديهم معلوماتٌ مَوْثوقةٌ حولَ الوضع في ليبيا، وأقرّوا بجهلِهم لما كان يَحدثُ فِعليًّا على أرض الواقع. وحين كرَّرَ النوّاب سؤالَهم حولَ مدى إدراكِهم لوَزْنِ النشطاءِ الإسلاميّين في الثورة، أكَّد جميع المسؤولين أنَّهم أساؤوا التقييم، كما أساؤوا حجمَ الدعم القطري لهؤلاء النشطاء. على أنه، ورغمَ ذلك، تمَّ اتِّخاذُ قرارِ استِبعاد الخِيار الدبلوماسيّ لصالح الخيار العسكري بشكل سريع جدّاً. هذا، وأكّدَ رئيسُ أركانِ الجيش أنَّه كانَ أحدَ القلائلِ الّذين نبّهوا إلى أنَّ المَعلومات المُتوفِرة تفتقِر إلى المِصداقيّة، وذلك أثناءَ الجلساتِ الأولى لمجلسِ الأمنِ الوطنيّ.
عمليّة “إنقاذ” بنغازي
وحولَ قضيَّة إنقاذِ بنغازي الشائكة، والّتي وُضعت في واجِهة التبريرات لتبنّي القرار 1973 الذي يبيحُ اللجوءَ إلى “كافَّةِ الوسائل اللازِمة” لحمايةِ المدنيّين، تبايَنت آراءُ المسؤولين الحكوميّين والأساتِذة الجامعيّين الّذين أدلَوا بشهاداتهم. فقد كرّرَ المسؤولون الحكوميّون بطبيعةِ الحالِ الخطابّ الرسميَّ الّذي تبنّته الدوْلة آنذاك، والّذي يؤكّدُ وشوكَ حدوثِ مَجزرةٍ واسِعة النِّطاق ضدَّ مدنيّي بنغازي (حيث تمَّ الإعلانُ عن مئات الآلاف المهدَّدين)، لا بل عن “إبادة جماعيّة”، ولم يَتوانَوْا في هذا الصّدد عن التذكير بسوابِق سربرنيتسا ورواندا. أمّا الجامِعيّان جورج جوفيه George Joffé واليسون بارجيتير Alison Pargeter ، فقد بقِيا على مسافة من تلك الفرضيّة، باعتِبار أنَّ أيًّا من المدن التي استردَّها النظام من المتمرِّدين (خاصّة زاوية واجدابيا) لم تتعرّض لأيّ أعمالِ قمعٍ ضدَّ المدنيّين. ذلكَ و تمَّت المقارنة بين خطاب القذافي الشهير الذي ألقاه في 22 فبراير، والدّاعي إلى مُلاحقةِ المتمرِّدين “دار، دار”، وخطاباتِه اللاحِقةِ التي أعطى فيها الأمان لكلِّ من يسلّم سلاحَه. وإذا كانَ القذافي قد قمعَ مُعارضيه بشكل وَحشيّ، فهو لم يَرتكِب مجازرَ بحقِّ المدنيّين، كتلك التي قامَ بها صدّام حسين وحافظ الأسد. وأخيرًا، لم تَكن الفرقةُ العسكريّة المُتمركِزة على الطريق إلى بنغازي تضمّ أكثر من 2000 مقاتل، معظمُهم من الشبابِ المتطوّعين غير المتمرِّسين، مَدعومين بعشر دبابات تقريباً. إذن، يَصعَبُ في تلك الظروف أن نتَخيَّل كيف كان لفرقة كهذه أن تَقتُلَ عشراتِ الآلاف في مدينةٍ يسكنُها 800 ألف شخص، وفيها ميليشياتٌ مسلَّحة تسليحًا جيِّدًا تُقاتل على أرضِ المعركة. ومع ذلك، تظلّ رِوايةُ المجزَرة الوشيكةِ في بنغازي عالِقةً في الأذهان، إلى تبريرِ التدخُّلِ العسكريّ الفرنسيّ -البريطانيّ عامَ 2011 في ليبيا.
في 19 مارس، بعدَ إلقاء الطائرات الفرنسية بأربعِ قنابل على قوّات القذافي على طريق بنغازي، مُلحِقةً الهزيمةَ بها، كان بالإمكان الاعتِبارُ أنَّ المهمَّة الأساسيَّة قد أنجزت. وقد خطّط رئيسُ أركانِ الجيش البريطانيَّ آنذاك لتهدئة يتوقَّف فيها القصف، كي يفسحَ الطريق أمامَ المساعي السياسيّة الدبلوماسيّة. وأشارَ في هذا الصدد إلى مَقولة كلاوزفيتز بأن “الحربَ ليسَت سوى امتداداً للدبلوماسيّة بوسائلَ أخرى”1 . إلا أنّ هذه التهدئة رفضها الحليف الفرنسي الّذي كان، وفقًا للمسؤولين البريطانيّين، يستهدفُ إسقاطَ النظامِ بالأساس. هكذا، وفي غضونِ بضعة أيام، تغيّرَ هدفُ بريطانيا من الحرب، وانتقَلَ من حمايةِ السكّان إلى تغييرِ النظام، وهو الهدفُ الذي تحقّق خلالَ ثمانيةَ أشهرٍ من الحرب. هذا التدخلُ العسكري، وفقًا لتعبيرِ رئيسِ أركان الحربِ البريطاني في ذلك الوقت، “ما كان إلّا نجاحاً تكتيكيّاً، سرعان ما انكشِفَ فشلُه الاستراتيجيّ”.
مُخطَّطات غيرُ واقعيّة للمرحلةِ الانتقاليّة
مع سقوطِ النظام، ورغمَ من تواجدِها الفعليِّ على الأرضِ لدعمِ الثوّارِ الليبيّين، لم تتمكَّن القوّاتُ البريطانيّة من تكوينِ رؤيَةٍ واضِحة عن الوضعِ في ليبيا. فموازينُ القوى داخلَ الثَّورة لم تَكن مَعروفةً لديهم، كما كانَ المحلّلون يستَقون معلوماتِهم حصريّاً من مسؤولي المجلس الوطني الانتِقالي الليبيّ، والذي يتكوّنُ في معظمِه من رجالِ أعمالٍ سابقين وفُقَهاء قانونيّين وأساتِذة جامعيّين ومعارضين مُقيمين بالخارج، ولم يَكن هؤلاء يُمثِّلون مختلّف الفصائل المتمرِّدة، خاصةً الإسلامية مِنها. وكانت خليّةُ التخطيطِ للمرحلةِ الانتِقالية التي شكّلها البريطانيّون في ربيعِ عام 2011 من خبراءَ استراليّين وايطاليّين ودنماركيّين وأمريكيّين، تعملُ جَنبًا إلى جنبٍ مع الخليّة التي شكّلها المجلسُ الوطنيُّ الانتِقالي الليبي. لم يكن لهاتَينِ الخليّتَين سوى تواجدٍ مَحدودٍ في طرابلس، حيث كان قادةُ التيّار الإسلاميّ المَحليّون داخلَ الثورة يُعدّون بالفعل لمرحلةِ ما بعد القذافي، بدعمٍ مباشرٍ من قطر. لم تَسِرْ الأمور إذًا كما كان مُتوقّعًا عُقْبَ سقوطِ طرابلس.
أدّى سقوط النظام إلى انهِيار المؤسَّسات الليبية وتفتّتتِ قوى الثورة، ممّا دفعَها إلى خوْضِ صراع من أجلِ التمكُّن من السلطةِ والموارد. من وجهةِ نظرِ المسؤولين الذين أدلَوْا بشهاداتِهم، لم تكن الخطَطُ الوَرديّة التي رُسِمت للفترةِ الانتقاليّة سوى مُمارساتٍ نظريّة بَحتة، ثبتَ فيما بعد عدم واقعيتها، في ظل غياب بوادرَ التوافق سياسيّ والبنى المؤسّساتية. ففي الأجهزة البريطانية، كانت الفكرة المهيمنة أنَّ عمليَّة الانتِقال الديمقراطي ستتِمُّ بسلاسةٍ عُقْبَ سقوط الديكتاتور. وحين سئلوا عمّا كان بإمكانِهم فعلُه لتلافي ما حدث، أقرَّ المسؤولون البريطانيون أنَّهم لا يَملِكون جَوابًا. وقد أعزى بعضُهم فشلَ إحلالِ الاستِقرار إلى الدعمِ القطريِّ للإسلاميّين.
أمّا فيما يخصُّ نشرَ قوّات دوليّة برِّيَّة لنزعِ سلاحِ الميليشيات وقدرتِها على تحقيقِ استِقرار البلاد، لم يعتقِد أيٌّ من المسؤولين والجامعيين الذين تمَّ استجوابُهم أنَّ هذا الخيار واقعيٌّ من الأصل. فقوّة كهذه كانت تتطلّب 15 ألف رجلٍ على أقلّ تقدير، كي يكونَ لديها أدنى فرصةٍ في السيطرة على الوضع. أضف إلى ذلك أنَّ الأمم المتحدة لم تعطِ تفويضًا بنشر قوّات لا يرغب الليبيون في تواجدها، ولا تَرغبُ أيّةُ دولةٍ أخر بالمشاركة فيها. بعدَ ذلك بعدّة أشهر، قاد نفسُ الجهلِ بالوقائعِ إلى تعليقِ الآمالِ الخاصّة بمستقبَل ليبيا على انتِخابات يوليو عام 2012. لم تَسر الأمورُ حينَذاك على النحْوِ المفترَض، ولم تؤدِّ الانتِخابات، في ظلِّ غِياب مؤسّسات الدّولة، إلى تَعميق الانشِقاقات المَوجودة وحسب، لا بل إلى خَلقِ أخرى. فالنُّخب الأوروبيّة لا تزالُ عاجِزةً عن تقبُّل فكرةِ أنّ الديمقراطية لا تنحصِرُ فقط في عمليَّة انتِخابيّة ناجِحة.
انعِدامٌ ونقصٌ في الخبراء؟
أقرَّ جميعُ المسؤولين الذين خَضعوا للمساءلةِ بجهلِهم للواقِع الاجتماعي الليبي، وبالوضع على الأرض، قبلَ التدخّلِ العسكريِّ وبعدَه ، كمبرّرٍ لعدمِ سيرِ الأمورِ كما كان متوقّعًا، وهو أمرٌ ليسَ بجديدٍ في تاريخِ الحروبِ التي قامَت على معلوماتٍ مَغلوطة أو ناقصة. وإذا من السهل نسبيًّا اليومَ تحديدُ إحداثيّات الأهداف العسكرية والاستراتيجيّة لدولة ما، وتكوينُ معرفةٍ حقيقيّة حول حياة حكامها، فإنّ إدراكَ مدى تعقُّدِ أوضاعِ المجتمَعات والتوتُّرات التي تَعتمل داخلها يبقى أمراً أشدَّ تعقيدًا. كما أنّ اللجوءَ إلى حجّة غيابِ أو النقص في عدد الخبراء في الشأن الليبي، لتبريرِ سوءِ الاختِيار، يُلقي بالمسؤوليَّة السياسيَّة على عاتقِ القصور المَزعوم للإدارات، بجهازَيْها الوَظيفي والتنظيمي.
والحقُّ أنَّ غيابَ خبراء في الشأن الليبي هو خلاصة خاطئة. فمنذُ بدايَة الأزمة وحتى انتِهائها، عمَدت عدّةُ مراكزَ بحثيّة، مثل “مجموعة الأزمات الدولية” l’International Crisis Group، وهو مركزٌ من الصعبِ اتّهامُه بالتعاطُفِ مع القذافي، إلى التنبيهِ إلى مَخاطرِ التدخُّل العسكريِّ في أتون حربٍ أهلية، والتأكيدعلى أهميّة التفاوُض. وفي الولايات المتّحدة، كان البنتاغون ووَكالات الاستِخبارات معارضين بشكلٍ أساسيّ لفكرةِ التدخّل العسكريّ في ليبيا، إلا أنَّ رأيَ هيلاري كلينتون انتَصر في النهاية. وقد ذكرَ رئيسُ أركان الجيش البريطانيّ في جلساتِ الاستِماع ممانعتَه ، في بداية الأمر، للتدخُّل العسكريّ. أكّد أنّه ما عبّر عن هذ التحفُّظ خلال الاجتِماع الأوَّل لمجلسِ الأمنِ الوطني الذي كان يرأسه ديفيد كاميرون. فقد اصطدم رأيُه كخبير، والذي لم يكن ليختلفَ كثيرًا عن رأي أيِّ خبير في الشأن الليبي، بالإرادةِ السياسية المُلِحّة لخوض الحرب، في ظلِّ ضجّة إعلاميَّة تغذّي تلك الرغبة. أمّا عن الخبراء الّذين كانوا يؤكّدون آنذاك على تَعقُّد الوضع الليبي، فقد كانوا يقابَلون بالسخرية من نُظَرائهم الجدُدِ المتخصِّصين في الثورات، بدعوى أنّهم لا يتمتّعون ببُعد نظر، أو أنّ مَسألة القبائل هي إحدى التصوُّرات المستمَدّة من المخيِّلة الاستِعمارية القديمة.
فالجيلُ الجديد، جيلُ الانترنت ووسائل التواصُلِ الاجتِماعي قد تخلّى، وفقًا لهؤلاء الخبراء الجدد، عن رؤيتِه الثورية لبلاده، مُعرِبًا عن رغبتِه في تأسيسِ ديمقراطيّة “حديثة، على النموذج الغربي” في بلاده. إلا أنَّ الإقامةَ لبضعةِ أيّام بين المدوِّنين الشباب في بنغازي أثبتَت أنَّها أجدى من سنوات من البحث الغامِض. اختار المسؤولون البريطانيون وأجهزتُهم إذًا التعويلَ على مَعلوماتٍ وتحليلات تغذّي قراراتِ كانوا قد اتّخذوها فعليّاً، على حسابِ آراء أخرى قد تدحضُها. فقد حال القرار الجماعي الذي باتَ مُلزِماً داخلَ مجلسَ الدفاع الوطني - والذي أنشئ خصيصًا في بريطانيا عام 2003 عُقْب حربِ العراق من أجلِ تفادي عدمِ الشفافية في اتِّخاذِ القرار، كما فعلَ توني بلير –، دونَ إجراءِ نقاشٍ حقيقيٍّ حولَ مخاطر ذلك التدخّل وأهدافِه الحقيقية.
صمتُ فَرنسا
بالرغم من مساوئه، يعدُّ هذا التقرير ممارسةٍ هامّة للتحليل النقدي لظروف وملابسات التدخل العسكري البريطانيّ في ليبيا عام 2011. ولم يَقم أيٌّ من النوّاب البرلمانيّين الفرنسيّين، حتّى يومِنا هذا، بعملٍ مُماثل حول التدخل الفرنسي في ليبيا، بالرغم من أن فرنسا أكثرُ تورُّطًا من المُملكة المتِّحدة في تلك القضية. كما لم يكن هناك أيُّ رد فعل نقديّ من قِبَلِ وَسائلِ الإعلام الفرنسيّة التي ساهَمت في خَلقِ إجماعٍ مؤيِّد لدى الرأي العام لصالح التدخُّل العسكريِّ، وذلك بتكرارها للدعاية الإعلامية التي بثّها الثوّار وإعلام الخليج (القطري والسعودي).
لقد جاء هذا التقرير إذًا ليؤكّد الثوابت التي تقوم عليها التدخّلات العسكرية بشكل عام. تلك الثوابت تتمثّل أوّلاً وقبل كلِّ شيء في سيادة الشك، وهو ما يُطلَق عليه دائمًا “ضباب الحرب”. وفي حالة ليبيا، تَمامًا كما كان الوضعُ في حالة العراق قبلَها ببضعة أعوام، لم تستنفَذ البدائل الدبلوماسية، بل واستُبعِدت عَمدًا، وتحديدًا بسبب الشك في نتائجها. وقد اعترفَ وزيرُ الشؤون الخارجيّة اللورد هاج أنَّ سيفَ الإسلام قد هاتفَه في بدايةِ الأحداثِ ليعرضُ عليه محاولتَه إقناعَ والده بالتخلّي عن السّلطة، والعملَ على حلٍّ تفاوضيّ، إلّا أنّه رفض هذا العرض، مبرِّرًا ذلك بصعوبةِ التصديق أنّ سيف أفضلُ حالاً من والدِه. كما هاتفَ سيف كذلك وزيرةَ الخارجيّة الأمريكية هيلاري كلينتون، والّتي رفضَت التحدُّث إليه. وقد حاوَلت السلطة في ليبيا إجراءَ مفاوضات مع الجانبِ الفرنسي بإرسالِها بشير صالح لمقابلةِ فرنسوا ساركوزي، والذي رفضَ بدورِه مقابلتَه. ومبرّراتُ الرفضَ هي نفسُها: تلك المفاوَضات ما هي سوى مناوَراتٍ لكسب الوقت، ولم يكن هناك ما يَضمن نجاحَها. ولكنّ التاريخَ يُلقِّننا درسًا: ليس هناك ما هو أقلّ يقينًا من نَتيجة الحرب.
وبالرغم من الفارقِ الملحوظ بين شخصيَّتيّ ديفيد كاميرون ونيكولا ساركوزي، ومن فارقِ الثقافات بين مؤسّسات البلدين، إلّا أنَّ نفسَ القرارات قد اتّخِذت في الدولتين على حدٍّ سواء، في ظلِّ غيابِ حِوارٍ حقيقي. في يوم 21 فبراير، وهو اليوم الذي أُعلِن فيه عن القصفِ المَزعومِ للمدنيّين الليبيّين، صدرَ موقفٌ لعددٌ من الدبلوماسيّين في صحيفة “لوموند” يَضعون فيه اللائمةَ على نيكولا ساركوزي في خَيباتِ السياسةِ الفرنسيَّة في مصر وتونس، ويتَّهِمون فيه ساركوزي ومُستشاريه بالـ “تهوّر” و “عدمِ المهنيّة”. ولم يكفَّ الرئيسُ الفرنسي عن تَرديدِ أنَّ “القذافي معتوه” أمامَ مُستشاريه. الحقُّ أن شخصيّةَ القذافي الكاريكاتوريّة وإرثَه الثقيل مع الغرب، والكراهيةَ الّتي كان يكنُّها له حكّامُ الخليج العربي، بالإضافةِ إلى عُزلتِه الدولية، قد جعلت منه هَدفًا مثاليًا. فالبنسبة لنيكولا ساركوزي، كما هو الحال بالنسبة إلى ديفيد كاميرون، كانت ليبيا فرصةً مثاليةً لتلميعِ صورتِهم بانحيازِهم الحازم إلى القيَم والشعوب، للتغطيَة على عجزِهم عن تقديرِ أهميَّة ما كان يحدثُ في العالم العربي منذ أسابيع قليلة.
حين يُصبِحُ برنار هنري ليفي قائدَ جَوقة التدخُّل
كما كانت تلك أيضًا وَسيلةً لصرفِ الانتِباه عمّا كان يحدثُ في البحرين، حيث كانَ الحليفُ السعوديّة المقرَّب يَقمعُ بوحشيَّةٍ انتِفاضةً شعبيَّة، في ظلِّ صمتٍ دوليَ. بعد مشاوَرتِه لرئيسِ الأركان التابِع له مُباشرةً ولرئيسِ أركانِ الجيش (والذي كان تابعًا له مباشرةً فيما سبق)، أمرَ ساركوزي في نفسِ ذلك اليوم بتوسيع مَهامّ المخابراتيّة الموَجَّهة. هكذا ظهرَ منطقُ الحرب. فالقراراتُ الحقيقيّة لم تُتَّخذ بناءً داخل مجالس وزارة الدفاع، والتي لا يجرؤ أحد على معارضتها. أكدت تحليلات رئيس أركان الجيش الذي يدين بالولاء للرئيس، مدعوماُ ببعض الضباط الذين ارتأوا أنَّ الفرصة مواتيةٌ للتمَوضُع في علاقات القوى الداخلية ، أن التدخلَ مُمكِن، وهكذا كان.
وبالرغم من أنّ “الإدارة العامّة الفرنسيّة للأمنِ الخارجي” (DGSE) كانَ لديْها فريقُ عمل في بنغازي قبلَ قدوم برنارد هنري ليفي، إلا أنّ هذا الأخيرَ هو من اتّصلَ مباشرةً بساركوزي ليعرضَ عليه اللقاءَ بمُمثّلي المجلسِ الوطني الانتقالي الليبي. وأخيرًا، كان التواصل المباشر مع الحليفِ القطريّ، منذ 22 فبراير، هو ما دفعَ نيكولا ساركوزي إلى حسم أمرِه.
ولئن كان لتشخيصِ السلطة وتهميشِ الإداراتِ المعنيّة في عهد ساركوزي أثرٌ مباشرٌ على عمليَّةِ اتِّخاذ القرار، إلا أنّه من الخطأ الاعتِقاد بأنَّ الأمورَ كانت لتأخذَ منحىً مختلفًا مع رئيسٍ آخر، ذلك أنَّ خيارَ التدخّلِ العسكريِّ كان يَحظى بإجماعٍ شديدٍ داخلَ صفوفِ السياسيّين والإعلاميّين المُهيْمِنين على المشهد. فقد تغلغلَت في السنواتِ الأخيرة ثقافةُ التدخُّل العسكري، عِوضًا عن الدبلوماسيّة، في الأوْساط الدبلوماسيّةِ والسياسيّةِ والإعلاميَّةِ والأكاديميَّةِ الفرنسيّة، على غرارِ حركةِ المُحافَظة الجديدة الأمريكيّة. وممّا يَعني أنَّ اتِّخاذ القرارَ بشكلٍ جَماعيٍّ وأكثرَ احترامًا للمَنطق المؤسسي، على خُطى النموذج البريطاني، كان ليُفضي حتمًا إلى نفس النتيجة.
خِدمةُ “ما بعدَ البَيع” مُعيبة؟
في النهاية، ماذا لَو نظرنا إلى هذه القضيّة على أنَّها أتت إضاءة ما لظاهرَة التودُّد والتملّق للسلطة وهي قطعًا ظاهر كونية ؟ فعلى بُعد 2000 كيلومتر ، في المُعسكَر المُعادي، سنجد في خيمةِ القائد الليبي نفسَ العوامل البشريّة: الخوفَ من إثارةِ سَخط القائد، أو مِن مُعارَضة قرارٍ اتُّخِذ بالفعل، أو من الإدلاءِ برأيٍ مُختلِف عن آراء باقيِ أعضاءِ المجموعة...
أمّا بالنسبة للذين ما زالوا يعتقِدون أنَّ الوضعَ الحالي في ليبيا ما هُوَ إلا نتيجة لـ “خِدمة ما بعدَ بيعٍ” معيبة، فالتقريرُ يَدحضُ الرؤيةَ القائلة بأنَّ تصرُّفاً أفضل، أو مُغايراً، كان مُمكِناً بعد اندلاع الحرب. وفقًا لمَفهومِ كلاوسفيتز، الحربُ هي فعلُ عنفٍ لا يُمكنُ إلّا أن يؤدّي إلى “تَفاقم الأوضاع”. ونتائجُ حربُ 2011 جليّة، بل ومتوقَّعة: انفِجارُ الدولة الليبيّة الوَليدة، تفتُّت وعسكرَة المجتَمع. وكيف يُمكن تصوُّر أنَّ إرسالَ مبعوثين من الأمَم المتحدة أو بعضِ الخبراء في إدارة الانتخابات، أقلَّ عددُهم أو كَثُر، من شأنِه أن يَحلَّ تلك المسائلَ الجوْهريّة؟
مع احتِرامنا إذًا للسير آلان دانكن، لم تَعد الأمورُ تسيرُ اليوم كما كانَت في عهدِ الإمبراطوريّة البريطانية، حين كانت تلك الأخيرة لا زالت في مرحلةِ تشكيلِ بُنيَةِ دوَل الخليج. ذلكَ العهدُ الجميل، حيث “لم يكن كلُّ شيءٍ أكثرَ تعقيدًا ممّا كنا نتمنّى” عندَ العرب.
1كارل فون كلاوسويتز Carl von Clausewitz جنرال ومؤرخ حربي بروسي ، مؤلف كتاب شهير عن الاستراتيجية العسكرية عنوانه “عن الحرب”.