“عندما كنت طفلاً كنت أتجوَّل كثيرًا في الواحة. كنت أقطف برقوقًا وخوخًا ورمانًا... ثمّ عندما فتحت المجموعة الكيميائية التونسية وشركة الإسمنت بقابس أبوابها، حدث انخفاضٌ في منسوب المياه الجوفية، وأثّر ذلك مباشرةً على المستوى الثاني من أشجار الواحات المثمرة”. هكذا أصبح أمين عبد الدايم ذو الـ25 عامًا يعمل على حماية البيئة: “لايمكن تصوُّر واحةٍ دون ماء، دون شرايينها!”. ينشط هذا المهندس الزراعيّ بواحة الشينيني الصغيرة في الجنو التونسي ضمن “جمعية حماية واحة الشنيني ـ قابس” التي أُنشِئت سنة 1995، بعد مظاهراتٍ تلت أزمة الواحات في جنوب البلاد، كما قال. يتواجد المجتمع المدنيّ في الصحراء، كما على الساحل وعلى كل الجبهات. ذلك هو حال الشبكة الجمعوية للتنمية المستدامة للواحات (RADDO) التي دعمتها اللجنة الكاثوليكية ضد المجاعة ومن أجل التنمية (CCFD-Terre solidaire) طوال 15 عامًا، وهي تضمّ جمعياتٍ من تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا للحفاظ على الواحات. وتعدُّ جمعية حماية الشنيني ـ قابس نقطة ارتكازها.
يقول أستاذ الجيولوجيا المغربي لحسن كبيري؛ منسِّق فريق بحث “علم الجولوجيا البيئية” بجامعة مولاي اسماعيل بمكناس، ورئيس جمعية واحة فركلة للبيئة والتراث، أنّه، حتّى وإن كانت الواحات موجودةً دائمًا في وسطٍ جاف، فإنّ “البصمة البشرية” هي التي تفاقم الجفاف. “شهد المغرب بين 1970 و 1985 انخفاضًا في نسبة هطول الأمطار، مع جفافٍ كبير عام 1983، وراح الناس يغترفون من موارد المياه الجوفية بشكل فوضويّ” مما أدّى بحسبه إلى كارثةٍ بيئية.
“يعدُّ المورد المائيّ الوحدة المركزية لنظام الواحة، الذي يرتكز على فلاحةٍ عائلية تعود إلى آلاف السنين، لأن الإنسان كان حريصًا على علاقته بالوسط”، يضيف لحسن كبير، آسفًا على أن الحال لم يعد كذلك اليوم. وتقود جمعية واحة فركلة للبيئة والتراث مشاريع لإعادة الاعتبار إلى نظامَيّ الخطّارة أو (القناة) للواحات، وهو نظام ريٍّ تحت أرضيّ تقليديّ يستقبل المياه المتسرِّبة، ويتيح للواحة أن تكون مصدر اكتفاء غذائيّ ذاتيّ، يشكِّل “مصدر اعتدادٍ لديهم” على حدِّ قول لكبيري.
وإذا كان الوضع يختلف من بلدٍ لآخر، فإنَّ الإمكانيات المائية ضعيفةٌ في الجزائر والمغرب وتونس، كما يشير الباحثان محمد ثعابني ومولاي إدريس الجهاد، اللّذَين يؤكدان على أنّه في كل مكان توجد مخزونات المياه في مستوى أقلّ من المعدَّل العالمي لمصدر المياه المتجدد للساكن الواحد، بحسب دراسةٍ نُشِرَت عام 2012 . والأسوأ من ذلك، أنَّ تغيُّر المناخ في البلدان الثلاث يولِّد “ضغطًا متزايدًا على موارد المياه في المنطقة” مع انخفاضٍ في نسبة سقوط الأمطار قد يصل إلى 10 % بحلول عام 2020، بحسب تقريرٍ صدر في يوليو/تموز 2013 عن المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية.
أسباب ندرة المياه
وفقًا لإحصائيات منظِّمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة، تستحوذ الفلاحة في المغرب على 90% من استهلاك المياه (2010)، وفي تونس على 80% (2011)، وفي الجزائر على 59% (2012). (ملحوظة : لا توجد معطيات لنفس السنة، وبالتالي لم يكن ممكنًا القيام بالمقارنة.)
كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟ يرى الأستاذ السابق في كلية العلوم بتونس، العربي بوقرة، صاحب خمسة كتب عن المياه والذي يشتغل على الموضوع منذ 25 عامًا، أنّ أهمّ سببٍ يعود إلى افتقار المواطنين للمعلومات. “لم يعد الناس، خاصة في المدن، يدركون أنّنا بلدانٌ متوسطية، تتميَّز بهطولٍ غير منتظمٍ للأمطار”. لطالما كانت المعرفة والكفاءات في مجال إدارة المياه متوفِّرة في تلك البلدان، وكان بالإمكان أن تكون الأوضاع مختلفة. وإذا كان قد وُجِدَ في تونس والمغرب تقنيّو مياهٍ مهرة، فإنّ نظام بن علي في تونس، والخصخصة في المغرب، قد نالا من تلك الكفاءات، على حدِّ قوله. هنا يبرز دور التربية والتعليم الأساسيّ في احترام هذا المورد الحيوي.
وقد ظهرت في هذا الصدد عدّة مبادرات للمواطنين في المنطقة، ومن بينها “الديناميّة حول الماء في تونس”، التي تركِّز على التربية والتعليم. وفي سبتمبر الماضي، نظّمت هذه المبادرة التي تضمُّ جمعياتٍ ومواطنين وسلطاتٍ معنيّين بالتفكير في مستقبل النظام الإيكولوجي للماء، مؤتمرًا بتونس.
تطبيقات ويب لرفع وعي الصغار
يقول حاتم مراكشي، مهندس كمبيوتر وعضوٌ نشط في الجمعية، أنّ “الديناميّة تعمل قبل كل شيءٍ على حشد الشباب. نحن نعمل كثيرًا مع المدارس، ومنها تلك التي لا تصل إليها المياه”. ويضيف مراكشي: “هدفنا الأساسيّ هو القيام بحصرٍ لمشاكل الوصول إلى المياه، نعود بعده في زيارةٍ ثانية بصحبة خبيرٍ هيدروليكي”. ويتمثّل الهدف التالي في إنجاز الأعمال الضرورية، بإشراك الفاعلين المحليّين وتعليم الأطفال. ولتحقيق ذلك الهدف، تمَّ إنشاء بيئةٍ رقميةٍ كاملة، مع تطبيقات ويب تسمح بقياس استهلاك كل فرد، أو الإبلاغ عن مشاكل في التوزيع، وهو ما يمكن للمواطنين القيام به بالفعل عبر خدمة “SOS Eau”. وبفضل تطبيق Tunisian Water Ressources (الموارد المائية التونسية) يمكن قياس الموارد. ويعتبر “Waterbank” (بنك المياه) نظامٌ تضامنيّ بين التونسيين لإيصال الماء لمستحقّيه. أمّا تطبيق “عدّ مانا” الموجّه للأطفال، فهو يسمح لهم بقياس استهلاك الماء في منازلهم. وهناك أخيرًا تطبيق “الشجرة” الذي يشجِّع المواطنين على غرس الأشجار. وهي مقاربة مبتكرة لرفع وعي السكان، تهدف إلى محاربة التبذير بطريقةٍ ممتعة، لجذب انتباه جيل الشباب بصفةٍ خاصّة.
في نفس السياق، أطلقت جمعية “نوماد 08”، أحد شركاء اللجنة الكاثوليكية ضد الجوع ومن أجل التطور، "المرصد التونسيّ للمياه". وقد لعبت الجمعية هذا الصيف دور الناطق باسم الحركات الاجتماعية، ممثلِّةً عن جمعيات ميدانية أخرى.
مقاربةٌ سياسية
حتّى وإن تحرَّك المواطنون على مستواهم، لن يكون هناك تغييرٌ حقيقيّ دون إقحام السلطات العمومية، وجعل المجموعات الصناعية تضطّلع بمسؤولياتها. فتلوث المياه هو نتيجةٌ خطيرة للنشاط الصناعيّ، خاصّة في تونس. وفي عام 2013، قام المنتدى التونسيّ للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهي منظمةٌ شريكة للجنة الكاثوليكية، بنشر تقريرٍ حول خليج “مونستير” ووضعه البيئيّ. حيث أشار التقرير إلى التلوُّث البحريّ الناجم عن محطّتين لمعالجة المياه المستعملة، وكذا عن تصريف مياهٍ ملوَّثةٍ مباشرةً في البحر من قبل مصانع النسيج. بحسب المنتدى ، تعدُّ المنطقة الآن “مقبرةٌ بحريّة” ولا يتردَّد الباحث الجزائريّ حمزة حموشان، الذي تدور أبحاثه حول العدالة البيئية والمناخية، في إدراج المسألة ضمن سياقٍ سياسيّ، حيث يرى أنَّ هناك نموذجًا استخراجيًا للتنمية، ما هو في الواقع إلا “آليةٌ استعماريةٌ جديدة للنهب والتبعية والتملّك”. وقد ندّد حموشان خلال المنتدى الاجتماعيّ العالميّ لعام 2016 بالاستخراجية؛ وهي جملةٌ من النشاطات تقوم بنقل كمياتٍ كبيرة من الموارد الطبيعية دون معالجتها (أو حتى معالجة محدودة)، بغرض التصدير على وجه الخصوص. “لاتقتصر الاستخراجية على المعادن أو البترول، فهي حاضرةٌ أيضًا في الزراعة، وزراعة الغابات، والصيد البحري، وكذلك السياحة، وكلّها أنشطة تتطلَّب استعمالاً مكثفًا للماء”. وقد ضرب حموشان أيضًا مثالاً بمدينة عين صالح الجزائرية، التي تعدُّ من أغنى الأماكن بالغاز في القارة، ولكن بلا بنية تحتية متطوِّرة، ممّا خلق فجوةً كبيرة بين الثروة المُنتَجة وما تتلقّاه المدينة منها. تقع تلك الأخيرة في قلب النّضال ضد التنقيب عن الغاز الصخريّ الذي تريده السلطة الجزائرية وفرنسا.
نضالاتٌ في انتشار
عصف التمرُّد بالمنطقة عام 2015، قبل أن ينتشر. إذ اعترض سكّان عين صالح على المشروع، حيث أنّ حوض المياه الألبيّ، الذي يعدُّ أكبر احتياطيٍّ للمياه العذبة في العالم، يقع معظمه في الصحراء الجزائرية، مما يجعله مهدَّدًا مباشرةً بالتلوث الناجم عن استغلال الغاز الصخريّ.
والأمر ملحٌّ بالفعل. فمسألة الماء ترتبط بالأمن الغذائيّ، الذي له نتائج خطيرة على السُّكان واستقرار البلاد، وفقًا للعربي بوقرة. ففي عام 2015 ، شهدت طنجة احتجاجاتٍ دامت لأسابيع، قام بها السُّكان ضدَّ شركة Veolia وفرعها آمانديس Amendis، الذي يدير منذ عام 2002 مرفق المياه بالمدينة. كما وقعت مظاهراتٌ في الجزائر عام 1988، ونُظِّمت أخرى هذا الصيف بتونس نتيجةً لانقطاعات المياه. ويذهب تقرير المعهد الفرنسيّ للعلاقات الدولية المذكور سلفًا إلى حدِّ الربط بين نقص المياه والأمن الغذائي والربيع العربي، حيث أثَّرت أزمة المياه على الاكتفاء الذاتي من الغذاء للسُّكان الأكثر حرمانًا. مسألة الماء مركزية إذًا في المغرب، و تتعدّاها رهاناتها.