تدور الواقعة في عام 2005 بدبيّ، المدينةـالدولة العضو في فدرالية الإمارات العربية المتحدة. عندما كان يعقد مسؤولون حكوميّون في فندقٍ فخم مؤتمرًا صحفيًا حول المعرض الكونيّ الذي ستستقبله المدينة عام 2020. في حين كان الحديث متمحورًا حول “الإبداعات التقنيّة العديدة في مجال الاتصال” التي ستقدَّم خلال هذا الحدث، سأل صحفيٌ إن كان قد تم تقدير البصمة الكربونية للحدث الذي سبق وأُعلِنَ أنّه سيتكلَّف 20 مليار دولار. حدثت لحظة ارتباكٍ على المنصّة، قبل أن يوكّد أحد المتحدِّثين أنَّ “المعرض سيأخذ بجديّة أهداف التنمية المستدامة، وسيساهم في تسهيل الوصول إلى الموارد الطبيعية لكلِّ سكان المعمورة”. تلخِّص تلك الطرفة جيدًا الانفصام السائد في مملكات الخليج الست (*). فمن جهة، هناك كثرةٌ في مشاريع البناء الضخمة (فنادق فخمة، طرق سريعة وناطحات سحاب)، ومن جهة أخرى هناك خطابٌ فضفاض لا يخفي الواقع.
الأولوية لصادرات البترول
عند قراءة وسماع تصريحات قادة هذه المنطقة التي تحتوي على أكبر احتياطي محروقات في العالم، تبدو المحافظة على البيئة ومكافحة الاحتباس الحراريّ ضمن أولى أولوياتهم. لكن بلدان الخليج لا تُظهرُ أيَّ حماسٍ للمساهمة في الجهود الملموسة في هذا المجال. وقد استلزم على الدبلوماسية الفرنسية أن تلحَّ خلال المؤتمر الأخير حول البيئة في باريس في 2015 “كوب 21” (COP21) حتّى تعلن البلدان الأهم وزناً في الخليج عن أهدافها في مجال الحدِّ من الغازات الدفيئة. وهكذا قبلت المملكة العربية السعودية أن تقطع وعدًا بـ“تجنُّب” انبعاث 130 مليار طن من غاز ثاني أوكسيد الكربونCO2، دون أن تحدِّد ما إذا كان هذا الخفض مرتبطًا بالانبعاثات الحالية أو بتلك المرجوة بحلول عام 2030. وقد شدّدت الرياض، على وجه الخصوص، على رسالتها الأساسية: لن تقبل المملكة الحدَّ من صادراتها النفطيّة باسم المناخ. أثار هذا الموقف الصارم، الذي يشاركها إيّاه الأعضاء الآخرون في مجلس التعاون الخليجيّ، استنكار العديد من الفاعلين في مجال مكافحة ظاهرة الاحتباس الحراريّ. وأشار بعضهم أن تلك البلدان تبدو وكأنّها لا تكترث للدراسات التي قام بها الباحثَان جيريمي بال والفاتح الطاهر، والتي مفادها أن الخليج العربي قد يصبح منطقة غير قابلة للعيش بحلول عام 2100، بسبب درجات الحرارة التي سترتفع إلى أكثر من 60 أو حتى 70 درجة مئوية، ممّا سيجعل من أداء الحج، الركن الخامس في الإسلام، أمرًا مستحيلاً. وبدا الأمر وكأنه لا يسبِّب قلقًا للمعنيّين مباشرة بالحج، حيث يواصلون وعودهم بتمويل الأبحاث، وينظّمون العديد من المحاضرات بمشاركة محاضرين مرموقين وافدين من أنحاء العالم أجمع.
الخطاب في مقابل الفعل
فقد حاضر ببراعةٍ في المنامة، عاصمة مملكة البحرين، أساتذةٌ جامعيّون جادّون حول التأثير الإيجابي للزراعة في الوسط الحضري، وعن الفوائد البيئية لواجهات المباني المغطّاة بالنباتات. وفي أبو ظبي، يلقي الاقتصادي الأمريكي جيريمي ريفكين بانتظامٍ محاضراتٍ عن فضائل اقتصاد الهيدروجين ومزاياه في الحدِّ من انبعاث الغازات الدفيئة، كما يشيد بعض الأخصّائيين الآخرين بفوائد الاقتصاد المدوَّر، ويستحسنون المشاريع المحلية في مجال إعادة تدوير النفايات. غير أن البلدان الستة لمجلس التعاون الخليجي تساهم بـ 5% من مجمل الإنبعاثات العالمية للغازات الدفيئة، كما أنّ أكبر نسبة انبعاث (أكثر من 42 طن) بالنسبة للساكن الواحد. وفي جميع الأحوال، تُقام هذه التجمّعات الكبرى التي يدور الحديث فيها عن البيئة في صالوناتٍ كبيرةٍ مكيَّفة، بينما تصل درجة الحرارة في الخارج، حيث لا يمكن التنقُّل إلا بواسطة السيارات، إلى 50 درجة في الظلِّ أحيانًا.
يعدُّ التكييف أحد المؤشرات على الوضع الحقيقيّ فيما يتعلَّق بالبيئة في المنطقة. ففي وسطٍ جغرافيّ يكاد يكون صحراويًا تمامًا، لا يوجد أيُّ مبنىً أو مسكنٍ يخلو من نظام تكييف الهواء. وبالنسبة للزائر، قد يسهل عليه أحيانًا تحمُّل درجات الحرارة المرتفعة في الخارج على مواجهة البرد القارس القطبيّ الذي يسود في الداخل. وتفسِّر الحاجة إلى تبريد الجو، جزئيًا، الزيادة المستمرة في استهلاك الطاقة في البيوت والإدارات (بمعدّلٍ متوسطٍ بنسبة 6% سنويًا). فالكهرباء المنتَجة عن طريق مزيجٍ يشكّل الغاز الطبيعي 80% منه رخيصة، لذا فمن الشائع أن تعمل وحدات التبريد بشكلٍ دائم، بما في ذلك ليلاً، حيث درجات الحرارة أكثر اعتدالاً. وليس من النادر أن يستعمل الأثرياء المبرِّدات لتلطيف جوِّ الشرفات أو الساحات الخارجية، بل حتى الحدائق، لتكون السهرات أكثر متعة. لذا يستحيل على أيِّ مهندسٍ معماريّ اقتراح مشاريع تراهن على حلول تقليديةٍ للتهوية (كملاقف الهواء)، أو يحثُّ زبائنه على عدم المبالغة في الأحجام. وقد تأكّد ذلك في إطار كأس العالم المزمع عقدها في دولة قطر سنة 2022.
وهناك مثالٌ رمزيٌّ آخر: في نوفمبر 2012، استقبلت قطر المؤتمر الثامن عشر للأمم المتحدة حول المناخ في منشآت مبرَّدةٍ عن طريق محطّات توليدٍ تستَعمِل، كما هو حال 90% من مثيلاتها في العالم، الهيدروفلوروكربون (HFC)؛ أي الغازات التي تساهم في الاحتباس الحراري، وإن كانت لا تؤثر على طبقة الأوزون ( خلافًا للكلوروفلوروكربون (CFC) الذي حلَّت تلك الغازات محلّه). هذا ما يفسِّر لماذا ناورت بلدان الخليج، بالتحالف مع الهند وإيران، في مؤتمر كيغالي برواندا في أكتوبر 2016 لكي يتمّ إعفاؤها من الحدِّ من استخدام الهيدروفلوروكربون بشكل سريع. ففي حين التزمت العديد من البلدان الصناعية بإزالة هذه الغازات ابتداءً من 2019 (بنسبة 10%)، حصلت السعودية وقطر وجيرانهما على حقِّ التريث حتى عام 2032 للقيام بذلك. وهو استثناءٌ أثار استنكار العديد من المنظَّمات البيئية.
مشروعاتٌ كبيرة غير ملائمةٍ للمنطقة
في انتظار هذا التاريخ، تواصل آبار الهيدروفلوروكاربون الضخمة ـ المتمثِّلة في الأبراج الكبرى وناطحات السحاب الأخرى ـ تواصل النموَّ كالفطريّات في الخليج. فبعد أن أنشأت برج الخليفة (828 م)، أعلنت دبي عن رغبتها في بناء أعلى برجٍ في العالم قبل 2020، بتكلفة مليار دولار. إلا أنّ تحطيمها للرقم القياسيّ ليس أمرًا مؤكَّدًا، حيث ترغب مدينة جدّة السعودية الدخول هي الأخرى في سجل تاريخ الأرقام القياسية، بامتلاكها برجًا يفوق ارتفاعه الكيلومتر. كما توجد نوايا لدى الكويت وقطر بمشاريع مماثلة، بالرغم من أنّ انخفاض سعر النفط قد حدّ من حماسها. وفي كل الأحوال، يمكن بسهولة تصوُّر الثمن البيئيّ لتلك الأبنية، فضلاً عن الثمن الإنسانيّ، نظرًا لظروف العمل القاسية، وغير الإنسانية أحيانًا، التي يخضع لها العمال. ويساوي استهلاك المياه في برج الخليفة بدبي، بالرغم من أنه مشغولٌ جزئيًا فقط، استهلاك عشرة فنادق كبيرة على واجهة البحر. كما تشكّل المياه المستعملة الآتية من هذه البنايات، المشيَّدة من الإسمنت والزجاج والفولاذ (وهي ثلاث موادٍ غير ملائمةٍ للمنطقة)، مشاكل عويصة لعمليات التطهير والصحّة العامّة، مع تسرُّبها إلى المياه الجوفية، وكذا تصريفها في المحيط أو في المضائق البحرية القريبة.
وتُطرَح نفس الإشكالية بخصوص مشاريع المدن الجديدة التي تتكاثر في شبه الجزيرة. إذا كانت أعمال البناء تلك تجد مبرِّرًا لها في بعض البلدان بسبب النموِّ الديمغرافي – كالمملكة العربية السعودية التي تشهد تزايدًا في عدد السّكان الشباب – فليس ذلك هو الحال في الممالك الأخرى. ففي الإمارات العربية المتحدة أو قطر، حيث لا يتعدّى عدد مواطني كلٍّ منهما المليون نسمة، يبرَّر بناء هذه المدن الجديدة بضرورة مواكبة تدفُّق الوافدين الأجانب، سواءً أكانوا مقيمين بشكل دائم أم سائحين أو مستثمرين راغبين في تنويع ممتلكاتهم. في جميع الأحوال، يشارُ في كل الكتيّبات إلى وعدٍ بإقامة “مساكن مستدامة”. لكنَّ الواقع مختلف؛ فغالبًا ما تُرمى مخلَّفات البناء في المناطق الصحراوية، ممّا يشكّل خطرًا على حياة نباتيةٍ وبريّةٍ هشّةٍ بالأساس. والأسوأ أنها أحيانًا ما ترمى عبر مراكب في مياه الخليج العربيّ غير العميقة.
كما تتعرَّض هذه المياه أيضًا إلى اعتداءين رئيسيين آخرين. يتمثّل الأوَّل في انتشار محطّات تحلية المياه، والثاني في مشاريع تمديد اليابسة. حيث فرض حلُّ التحلية نفسه في بداية الستينيات، بسبب ندرة ماء الشرب في المنطقة. وقد زادت الطفرة النفطية والنموُّ الحضريّ من الطلب، حتى أصبحت ممالك الخليج مصدر إنتاج لـ 20 إلى 25 % من المياه المحلّاة في العالم، تنتج الإمارات العربية وحدها 14% منه، بمحطّاتٍ تقترب قدرتها الإنتاجية من المليون متر مكعَّب يوميًا (مركز تحلية جبل علي شرق دبي). ونتائج هذا الاعتماد على تحلية المياه معروفة: زيادةٌ في البصمة الكربونية بسبب استعمال المحروقات لتغذية المحطّات، ارتفاع في درجات الحرارة، وأكثر من ذلك، في ملوحة المياه بسبب إعادة المحلول الملحي المركَّز الناجم عن عملية التحلية إلى البحر. لا تخلو تلك العملية من عواقب وخيمةٍ على الكائنات والنباتات البحرية، التي يشكِّل إتلافها خطرًا على أسراب الطيور المهاجرة. غير أن ندرة المياه لم تمنع تكاثر المشاريع العقارية الفخمة (فنادق، مراكز ترفيه...).
كما يؤدّي تجفيف ضفاف الخليج بقصد تطوير مشاريع عقارية (مدن جديدة، توسيع أحياء قائمة) بدوره إلى بروز مشاكل عديدة، كون المواد المستخدمة في إنشاء مساحات تربة إضافية لتوسيع الشواطىء تؤخذ من قاع البحار دون اكتراثٍ للحياة الحيوانية والنباتية. صحيح أن تلك التقنيّات ليست خاصة ببلدان الخليج (هي موجودة أيضًا في سنغافورة وهونغ كونغ أو موناكو) لكنّها تزيد من الاختلالات البيئية، وتُفاقِم الضغط على إمدادات المياه.
رهانٌ متعلِّق بالصورة
ويعمل قادة الخليج، الّذين يعون الانتقادات الموجَّهة إليهم بسبب هذا المشهد المقلق، على الإكثار من المبادرات بقصد تغيير هذه الصورة. ففي الإمارات العربية المتحدة، لطالما روَّجت أبو ظبي لمشروع “مصدر”، المدينة “الخالية من الكربون” التي تحتوي على جامعة ومراكز أبحاث متخصِّصة في الطاقات المتجدِّدة. هذه المدينة النموذجية التي يجري تطويرها بالتعاون مع عدّة جامعاتٍ غربيةٍ كبيرة أعلن عن انتهائها في 2014، ثمَّ في 2016، ولكنّها قد لا ترى النور قبل عام 2021. هذا المشروع الذي تمَّ الترحيب به بحماسٍ عند الإعلان عنه، يثير اليوم الكثير من التحفُّظات، خاصّةً بسبب قلّة التمويل والصعوبات التقنيّة التي تواجهه، في منطقةٍ لا زالت فيها فكرة “مدينة خالية من السيارات” تعدُّ من باب التخيُّلات المستقبلية، إن لم نقل الطوباوية. وتظهر هذه الفجوة بين الإعلان والواقع الميداني أيضًا في وعود تنويع مصادر الطاقة. إذ يمتلك كلُّ بلدٍ في الخليج رسميًا مخطّطًا للطاقات المتجدِّدة، مع طموح أن تحقّق المنطقة 80 جيغاوات من الطاقة الكهربائية المُنتَجة من الطاقات المتجدِّدة بحلول عام 2030. ولا تكفُّ هذه البلدان، وهي كلَّها باستثناء البحرين وسلطنة عمان أعضاءٌ في منظَّمة الدول المصدِّرة للبترول (أوبك)، عن الإعلان عن استثماراتٍ ضخمة في مجال الطاقة الشمسية، وبدرجةٍ أقلِّ في مجال طاقة الرياح، قبل أن تؤجِّل التزاماتها. وفي المقابل، تواصل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية سعيها في تحقيق رغبتها بامتلاك مفاعلاتٍ نوويّةٍ مدنية.
بغضِّ النظر عن جهود التواصل التي غالبًا ما تكون مثمرة ـ حيث أنَّ أبو ظبي هي الآن مقر الوكالة الدولية للطاقات المتجددة ـ بدأت الذهنيّات تتغيَّر، خاصّةً بفضل المجهودات المبذولة في المدارس. فحملات التشجيع على إعادة تدوير النفايات والنداءات المتكرِّرة للحدِّ من استهلاك المياه، والتشريعات الأكثر حزمًا للدفاع عن البيئة والحياة البريّة، تشكّل كلّها تقدمًا. غير أن التحدّي الأساسي المتمثِّل في الحدِّ من الاعتماد على الغازات الحبيسة في النقل والحياة اليومية، يبقى مطروحًا بشكلٍ كلّي.
“من أجل جهادٍ أخضر” اجتمع في 17 و18 أغسطس/آب 2015 العشرات من الممثِّلين المسلمين من جميع أنحاء العالم باسطنبول، في أوَّل “ملتقى دولي إسلامي حول التغيُّر المناخيّ”، وللتوقيع على أوَّل “إعلانٍ إسلاميّ حول التغيُّر المناخيّ العالمي”. وتمَّ توجيه هذا الإعلان إلى كلٍّ من القادة السياسيين والأئمّة وأرباب الأعمال، وإلى 1,7 مليار مسلمٍ عبر العالم. وهو يستند خصوصًا إلى تقرير اللجنة الدولية للتغيُّرات المناخية (GIEC) لـعام 2014، لحثِّ الحكومات المشاركة في مفاوضات مؤتمر الأمم المتحدة للتغيُّر المناخيّ ( COP21) على الوصول إلى اتّفاق يحدُّ من ارتفاع درجات الحرارة إلى 2 درجة مئوية، أو حتى إلى 1,5 درجة، ويضع حدًّا للطاقة الأحفورية لصالح الطاقات المتجدِّدة، ويثمِّن الإقتصاد الأخضر، ويدعم السكان الأكثر عرضةً لآثار التغيُّر المناخي. والإعلان موجَّه بصفة خاصة إلى إمارات الخليج والمملكة العربية السعودية: “إنّنا ندعو، على وجه الخصوص، الدول المنتجة للبترول الأوفر حظًا أن تمهِّد الطريق” خاصةً عبر “تقديم دعمٍ ماليٍّ وتقنيٍّ سخيّ للبلدان الأقلِّ حظًا”. وردة محمد |