من الأزمة المناخية إلى الحروب

كوب 22: من الكلام إلى الأفعال · تعزي دراسات بعض الباحثين تنامي النزاعات المسلّحة أو الجماعات الإرهابية إلى التغيُّر المناخيّ والاستيلاء على الموارد الطبيعية. وهو موضوعٌ لم يتمُّ التطرُّق إليه من قبل نسبيًا، رغم أنّه يمسُّ عدّة مناطق حول العالم، من سوريا إلى العراق، مرورًا بالعديد من البلدان الأفريقية وبورما.

وفقًا لدراسةٍ أجرتها وكالة ناسا الأمريكية، شهدت منطقة الشرق الأوسط بين 1998 و 2012 جفافًا هو “الأسوأ منذ 9 قرون”. هل لهذا العامل دورٌ في قيام الحروب والنزاعات؟ هذا ما أشار إليه ممثِّل سوريا في منظمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة (الفاو) عبد الله بن يحيى عام 2008. وفي تقريرٍ سرَّبته ويكيليكس وكان موجَّهًا لوزارة الخارجية الأمريكية، حذّر بن يحيى من أنَّ الجفاف وتداعياته في سوريا، منها المجاعة ونزوح السكان، مرتبطةً بجملة عوامل أخرى، يجعل الوضع متفجِّرًا.

جماعاتٌ متعايشة

في سنة 2007، هذه المرّة بخصوص دارفور، كتب الأمين العام للأمم المتحدة بان كيمون: “نكاد نتحدَّث دائمًا عن دارفور بعباراتٍ عسكرية وسياسيةٍ سطحية، نرى في الحرب الدائرة نزاعًا إثنيًّا بين ميليشيات عربية ومتمرِّدين ومزارعين زنوج. غير أنّه إذا ما نظرنا إلى جذور هذا النزاع (...) نلاحظ أنه بدأ بأزمة إيكولوجية ناتجةٍ، على الأقلِّ جزئيًا، عن تغيُّرٍ مناخيّ (...). قبل ذلك كان الرعاة الرحَّل العرب يعيشون في علاقةٍ طيِّبةٍ مع المزارعين المستقرّين”. في العام نفسه، أشارت “مجموعة الخبراء المشتركة مابين الحكومات حول تطوُّر البيئة” إلى أنَّ نسبة الاحتمال بأن يكون الاحتباس الحراريّ ناجمًاً عن النشاطات البشرية تفوق الـ90%.

هذا النزاع الذي لا يزال قائمًا بدارفور، وبعد عشر سنواتٍ من هذا التصريح، يجمع للوهلة الأولى بين مقوِّمات حربٍ “عادية”: إفريقيا،الفقر، الاختلافات الدينية و“الإرهاب” الذي تقوم به جماعاتٌ تدَّعي الإسلام، وهم في هذه الحالة “الجنجويد”.

غير أنّه بالنظر إلى الأسباب العميقة، يشير الباحثون إلى أنَّ هذه الخلافات تندلع عادةً في مناطق غنية جدًا بالموارد الطبيعية المثيرة للأطماع، وفي ظلِّ معارك حول الأراضي، وتدخُّلٍ للقوى الأجنبية، في حين أن السّكان ذوي الأصول الإثنية والانتماءات الدينية المختلفة كانوا يعيشون معًا دون مشاكل من قبل. منذ ذلك الحين، اندلعت حروبٌ أخرى في إفريقيا، وفي العديد من البلدان العربية و/أو ذات الأغلبية المسلمة. ونمت جماعات “إرهابية” أو “جهادية” أخرى، منها “تنظيم الدولة الإسلامية” التي تحظى بتغطية إعلامية واسعة. كيف ولماذا برز هذا التنظيم، وتمكَّن من التوسُّع في هذه المناطق المحدَّدة من سوريا والعراق؟ تجيب الخرائط على تلك الاسئلة. حيث تتطابق مناطق تواجد هذا التنظيم مع المناطق التي تشهد جفافًا.

إدمان البترول

أقامت الولايات المتحدة ـ على غرار فرنسا والمملكة المتحدة والعديد من البلدان الغربية ـ تحالفاتٍ مع الأنظمة التسلُّطية في كل “العالم العربي”، خصوصًا من أجل الموارد الطبيعية في هذه البلدان التي تحتوي أغلبها على البترول. بطبيعة الحال إذًا، ليس التغيُّر المناخي هو العامل الوحيد في شنِّ الحروب واستفحالها. إذ تحتوي كلُّ المناطق التي تتدخَّل فيها الجيوش الغربية على أكبر موارد طاقة في المعمورة، وغالبًا ما يسبِّب الحروب إرادة الاستحواذ على هذه الخيرات، وهي نوايا غير مُعَلنة، تختفي وراء خطابٍ “حضاريّ” أو “تحريريّ”. وقد ساهم هذا النوع من الاستراتيجيات في ظهور جماعة القاعدة ـ بالنسبة لأسامة بن لادن، يُعتبَر وجود قواعد عسكرية على الأراضي المقدَّسة في المملكة العربية السعودية والشرق الأوسط ضربًاً من الكفرـ ثم بعد ذلك تنظيم الدولة الإسلامية.

ولقد دفعت تبعية القوى العظمى للذهب الأسود دولاً من الاتحاد الأوروبي إلى “شراء البترول من تنظيم الدولة الإسلامية”، كما أعربت عن ذلك بأسف سفيرة الاتحاد الأوروبي جانا هيباسكوفا، في تصريحٍ للبرلمان الأوروبي في 2 سبتمبر 2014.

من جهة أخرى، سمح البترول للجزائر وبعض بلدان الخليج بأن تكون في منأى نسبيًا عن الانتفاضات العربية، عبر انتهاج سياساتٍ نفعيّةٍ تهدف إلى شراء السلم الاجتماعي، غير أنّ تلك الإستراتيجية لا تصلح للتطبيق إلا عندما تكون الموارد متوفرة، في حين أنّ أزمة البترول ما زالت مستمرّة حالياً. وهكذا، بُغية توفير الغذاء لسكّانها، تعمل بلدان الخليج الغنية، والمعتمدة اعتمادًا كبيرًا على استيراد المواد الغذائية ـ بنسبة 90 % في حالة قطر مثلاً ـ على الاستحواذ على أراضٍ في إفريقيا، تمامًا كما تفعل القوى الغربية والشركات المتعددة الجنسيات.

نحو غزو الأراضي

اتُّخِذ قرار غزو الجزائر، جزئيًا، بهدف إقامة مستعمراتٍ استيطانية في أراضٍ خصبة، حيث أنّه بعد الحرب بين فرنسا وألمانيا، لم يعد لفرنسا ما يكفي من القمح لإطعام شعبها. وإذا كانت اتفاقيات إيفيان المُبرَمة عام 1962 قد منحت الجزائر استقلالها، فهي تنصُّ أيضًا على أن تُبقي السلطة الاستعمارية يدها على الموارد الطبيعية للبلاد، وخاصةً البترول. هذا التدخُّل السافر هو من دعائم منظومة الـ“فرانس أفريك” (فرنسا-افريقيا)، ولا يزال قائمًا حتّى يومنا هذا. فعلى سبيل المثال، إذا كان التصديع المائيّ ممنوعًا في فرنسا، فإنّ وزير الشؤون الخارجية الفرنسي لوران فابيوس قد أعلن مع ذلك في 2014 دعمه للشركات الفرنسية التي تنقِّب عن الغاز الصخري في بلدانٍ أخرى باستخدام هذا الأسلوب الملوِّث. وقد علَّق رئيس ومدير عام شركة “توتال” كريستوف دو مارجوري آنذاك قائلاً: “إنها لمفارقة أن نسمع عضوًا من الحكومة يعلن أنّ فرنسا ستقوم بتجارب في التصدُّع الهيدروليكي في الجزائر، لتجلب فيما بعد التقنية لفرنسا إن اعتُبِرت مقبولةٌ بالنسبة للبيئة”.

أمّا الباحث حمزة حموشان، فيندِّد بـ“سلوكٍ استعماريٍّ وعنصريٍّ مستمرّ”. ويذكِّر في الكتاب الذي أشرف عليه، بعنوان “الثورة القادمة في شمال إفريقيا: النضال من أجل العدالة المناخية” بأنّه “على الرغم من الخطاب الذي يروِّج للديمقراطية وحقوق الإنسان، والذي يعود إلى مهمّة نشر الحضارة المزعومة خلال الحقبة الاستعمارية، تواصل الدولة الفرنسية الترويج لمصالح طبقاتها الحاكمة بفرض هيمنتها عن طريق سياسات نهب الموارد. كما تواصل البلدان الغربية تقديم الدعم للدكتاتوريات والأنظمة التسلطية القائمة، والمستعدّة للمشاركة في نهب شعوبها”.

وتُترجَم هذه السياسة في إصلاحات صندوق النقد الدوليّ، أو البنك الدوليّ، وفي المعاهدات الأوروبية والأمريكية، وأخيرًا في المديونية، والتي من شأنها كلِّها أن تزعزع بعمقٍ استقرار هذه المجتمعات. أليست استراتيجية فرنسا والمملكة المتحدة حول المديونية هي التي أدَّت إلى احتلال تونس ثم مصر؟ والمؤسسات البنكية مُتَّهمةٌ كذلك. ففي 2013، أدان تقريرٌ صادرٌ عن “أوكسفام” Oxfam سياسة المتاجرة بالجوع التي تمارسها الأربعة بنوكٍ الرئيسية في فرنسا؛ وهي “بي ان بي باريبا” و “كريدي أجريكول” و “سوسييتيه جنرال” و BPCE.

حلقةٌ مفرَغة

يذكر أمزات بوكاري ـ يابارا Amzat Boukari-Yabara، وهو حاصلٌ على دكتوراه في تاريخ وحضارات أفريقيا، أنّه عندما يُضاف إلى عواقب الاحتباس الحراريّ “نهب الموارد والاستحواذ على الأراضي، يتمُّ حرمان بعض المجموعات السكّانية من وسائل عيشهم. ويشكِّل اختناق المسار الإقتصادي والغذائي وندرة الموارد حلقةً مفرغة: فهو يسمح للجماعات”الجهادية“بتجنيد الأفراد، وفي نفس الوقت بتموين نفسها بالأنعام، والسيطرة على الأراضي”. يرى الباحث أن “نموذج عمل هذه الجماعات ـ ومنها بوكو حرام، الجماعة الإرهابية التي تسبَّبت في أكبر عدد من القتلى في العالم عام 2014 ـ يتوافق مع الرأسمالية المتوحشة”. فهذه الجماعات “لا تقترح نموذجًا آخر غير الرأسمالية”، بل تتعاطى معه، كما أنّ “الشركات متعددة الجنسيات غير منزعجة من وجودها إطلاقًا”. فقد كشفت جريدة “لوموند” الفرنسية أنّ مجموعة “لافارج” الفرنسية قامت بدفع ضرائب لتنظيم الدولة الإسلامية حتّى تتمكَّن من الاستمرار في العمل بسوريا. كذلك هو الحال بالنسبة لشركة “توتال” الفرنسية، الأكثر إنتاجًا للغازات الحبيسة.

وتُظهر حالة ليبيا بشكلٍ جليّ الترابط بين كلِّ العوامل، حيث “سمحت الزراعة المتنوِّعة، بكلِّ ما توفَّر لها من عناصر، بالإضافة إلى السواحل الممتدّة، لهذا البلد بالاكتفاء الغذائيّ الذاتيّ، ممّا سمح لها بلعب دور قوّةٍ زراعيةٍ وصناعية”، كما يؤكِّد آمزاد بوكاري ـ يابارا. ويضيف أن ليبيا “قد استثمرت كثيرًا في بلاد الساحل، ممّا سمح باستقرار السكان المحليين في أمكنتهم. غير أن منظَّمة الحلف الأطلسيّ قصفت كل البنى التحتية الزراعية”.

بعد الحرب التي قادتها فرنسا والمملكة المتحدة، والإطاحة بمعمَّر القذافي، شهدت البلاد انقسامًا عميقًا، وتدفَّقت أفواج المهاجرين، وتحوَّل الصيّادون إلى مهرِّبين للبشر، ونما نشاط الاتّجار بالبشر انطلاقًا من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء مع ليبيا وسيناء وإسرائيل. ولقد أثَّرت الحرب في ليبيا على العديد من بلدان القارة.

من يمكنه أن يقدِّم الحلول؟ ليست الشركات الراعية للـ“كوب”، ولا الدول التي تستفيد من هذه الأوضاع وتغذِّيها، كما تندِّد المنظمات غير الحكومية والجمعيات عبر العالم. فبالنسبة لحمزة حموشان، “يجب إعادة النظر في”النموذج الحضاري“المرتكز على الرأسمالية والاستخراجية المفرطة”.

العامل الدينيّّ، ذريعةٌ كافية؟

مع ذلك، يتّفق الحكّام، من باراك أوباما إلى فرانسوا هولاند، على القول بأنّ الأزمة المناخية تشكِّل خطرًا كبيرًا “على الأمن”. لكن الباحث ماتيو ريغوست Mathieu Rigouste يوضِّح قائلاً: “ابتداءً من نهاية الثمانينيات، برزت”الأزمة المناخية“من بين الـ”التهديدات الجديدة“المحفوظة في أرشيف معهد الدراسات العليا للدفاع الوطني. منذ ذلك الحين، بدأت”دراسات الدفاع والأمن“في التركيز أكثر فأكثر على ما يسمّونه بـ”الإرهاب الإيكولوجي“و”خطر اللاجئين البيئيّين“”. ويرى الباحث أنَّ هذا الخطاب “يتّجه نحو إلغاء مسؤولية النظام الاقتصاديّ، وإلقاء اللّوم على الحركات الشعبية المناضلة ضدَّ الدّمار الرأسمالي، وكأنها هي السبب”. فخلال انعقاد مؤتمر “كوب 21”، تذرَّعت فرنسا بحالة الطوارئ السائدة آنذاك، حتّى لا تمنح تأشيراتٍ لممثِّلي المجتمع المدنيّ الوافدين من “الجنوب”، ولمضاعفة عمليات التفتيش وفرض الإقامة الجبرية على أولئك الذين نعتتهم وسائل الإعلام بـ“الجهاديّين الخضر”. ولقد ردَّ على ذلك مناضلون بتسمية سياسات الدول بـ“الإرهاب البيئيّ”، كما يقول حموشان.

أوليس للأزمة المناخية وقضايا الموارد والاستراتيجيات الانتهازية وطأةٌ أكبر في الحروب ممّ للأديان؟ فـ“وراء ما يسمى بـ(حروب الأديان)، نجد في الغالب أنظمةً تمارس عنف الدولة المُمنهج للاستحواذ على السلطة والمال والامتيازات، وهي تستعمل المواضيع الدينية كوسيلة للتبرير والتضليل والتجنيد”، هذا ما يخلص إليه ماتيو ريغوست. وفي الكونغو، حيث تحدث عملية “إبادةٍ” وفقًا للأمم المتحدة، راح ضحيتها 6 ملايين قتيل في 2014، “استولت ميليشياتٌ من الشرق ومناطق أخرى من البلاد على جزءٍ من الإقليم، بقصد جعله وسيلة تفاوضٍ اقتصاديٍّ وماليٍّ بفضل موارده. وقد صارت تلك الميليشيات مجموعاتٍ سياسيةٍ يحتلُّ بعضها أراضٍ بدعمٍ من مجموعاتٍ جهادية”، كما يشير آمزاد بوكاري ـ يابارا. “في النزاعات في إفريقيا الوسطى أو مناطق النزاعات في السودان، بعض المجموعات المسيحية ضالعةٌ مباشرةً في تلك العملية (...) تنطبق تلك الحالات على مناطق أخرى، منها ميانمار، حيث تُتَّهم كلٌ من المجموعات البوذية والجيش الحاكم بما وصفه مقرِّر الأمم المتحدة توماس أوخيا كينتانا Tomás Ojea Quintana بـ”جرائم ضد الإنسانية" ضد أقلية الروهينغا المسلمة.

وفضلاً عن الغاز والبترول، فإنّ بعض المناطق التي تدور فيها هذه الحالات من العنف “غنيةٌ بالخشب والأحجار الكريمة والمعادن والموارد المائية (...) وتكافح المجموعات الإثنية المحلية لتفادي نهب أراضيها من طرف الجيش وكبريات الشركات المقرَّبة منه، أو من طرف شركاتٍ أجنبية، كما أوضَح رونو إيغروتو Renaud Egreteau في صحيفة”لوموند ديبلوماتيك“، مضيفًا:”المسألة الإثنية ترتبط بقضايا الأرض والاقتصاد (...) ما يعني أن إحلال السلم في هذه المناطق التي تعتبرها قوى “المركز” مجرد “أطراف” تابعةً لها، سوف يصطدم لا شك بمصالح جسيمة "