ما تكشِفُه نهايةُ محسن فكري المريعة في المغرب

قراءةٌ في حادِثة · في19 نوفمبر 2016، عمت تظاهرة جديدة في مدينة الحسيمة المغربية، تكريماً لمحسن فكري طُحِنَ بائع الأسمال في شاحنة نفاياتٍ بينما كان يحاول حماية بضاعته. أثارت تلك المأساة، التي تمَّ تداولها على نطاقٍ واسع على شبكات التواصل الاجتماعي، العديد من الاحتجاجات في المغرب. ولم يخفف مرور شهر على حدوث المأساة من حدة الغضب الشعبي، تكشف على الأخِّص الخلل الحاصل على عدّةِ مستوياتٍ في النظام المغربيٍ.

تظاهرةٌ في الدار البيضاء تكريماً لمُحسن فكري
لقطة شاشة

في 28 أكتوبر، اعترضت الشرطة المغربية عند مخرج مدينة الحسيمة سيارةً نقلٍ محمّلةٍ بـنصف طن من أسماك أبو سيف المحظور صيدها في البحر المتوسط، أثناء مغادرتها الميناء دون تصريح. للحول دون سكب بضاعته في شاحنة نفاياتٍ مخصَّصة لهذا الغرض، دخل محسن فكري، صاحب الأسماك، إلى آلة الطحن في محاولةٍ منه لحماية بضاعته. وبحسب الرواية التي وصلتنا حتى الآن، يبدو من المرجَّح أن أحد أصدقاء الضحية هو من قام بتشغيل آلة الكبس.

انتشرت صورة المأساة سريعًا على شبكات التواصل الاجتماعي، مصحوبةً بمعلومات يصعُبُ التحقُّق من صحتها: أثار رفض الضحية دفع الغرامة غضب ممثِّل السلطة، الذي صاح آنذاك: “طحن أمّو!”، بعدها شغَّل أحدهم آلة الطحن عمدًا، متسببًا في موت الرجل. مشهد الجسد المطحون الذي نرى منه الرأس والذراع المتدليان سلة القمامة، والخلط بين القمامة والجسد في بلدٍ يعطي لجثة الميت حرمة مقدَّسة، وفكرة أن ما حدث كان فعلاً متعمَّدًا ضدَّ رجلٍ فقير يرفض الابتزاز... كل ذلك أثار مشاعر عنيفة. والأسوأ أنّ هذا الفعل قد حدث في مدينة محفور في ذاكرة سكَّانها سحق “ثورة الريف” عام 1958، وسُباب الملك الحسن الثاني الرسميّ لهم عقب انتفاضتهم عام 1984.

تهدئةُ الغضبِ الشعبيّ

أمر الملك، الذي كان يقضي إجازته في زنزبار وقت وقوع الحادث، وزير الداخلية بتعزية أسرة الضحية، وتأكيد نيته على “ملاحقة المتسببين في موت محسن فكري”. أثار الحراك الشعبيّ إذًا قلق السلطة بما يكفي لكيّ تسعى إلى إخماد غضب المتظاهرين الذين اجتاحوا شوارع أكثر من 25 حيًّا سكنيًا، محمِّلين السلطة مسؤولية الحادث. إلا أنه كشف أنّ السلطة وفي ظروفٍ مماثلة، لا تتحرك إلا بأوامر ملكية، في حين ينص دستور 2011 على أن الملك لا يستطيع التصرف سوى “بمقتضى ظهيرٍ، وفي مجالات مخوّلة له صراحةً بنص الدستور”، كما لا يحقُّ له إعطاء أوامر أو تعليمات إلى الوزراء أو الجهاز الإداري أو القضاء.

كما قرنت السلطة مصلحة ذوي الضحية بإرادة الملك بإبرازها لسخائه، وبالتالي تحييد تلك الأخيرة والحول دون أن تكون هي وقود الاحتجاجات. وقد أثبت هذا التصرُّف فاعليته، خاصةً أن والد المتوفى عضوٌ في حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران. هذا الأخير لا يكفُّ عن تقديم تعهداته للملك بحسن النية، كما سارع بمطالبة مؤيٍّديه بعدم الانسياق وراء الاحتجاجات، وكلَّف العديد من زملائه الوزراء بالتواصل مع أسرة الضحية لحثِّها على التعقُّل.

وللظهور بمظهرٍ جيد، تمّ توقيف 11 شخصًا بتهمة التزوير والمشاركة في التزوير – وهي تهمٌ قد تصل أحكامها إلى المؤبد – والقتل غير العمد (سجن قد يصل إلى 5 سنوات). حيث اتُّهِمَ اثنان من رجال السلطة، وموظَّفَين لدى مندوبية الصيد البحري، وطبيبٌ بيطريّ بتزوير محضرِ مصادرةِ وإتلافِ الأسماك، وذلك بتحرير المحضر مسبقًا، والإعلان عن إتلاف البضاعة قد يتم إتلافها فعلياً. أمّا المتَّهمون الآخرون، فهم ثلاثة موظَّفين بشركة جمع القمامة، وثلاثة من أصدقاء الضحية. اليوم، يُجمِع موظّفو وزارة الصيد والأطباء البيطريّين في مُديرية الصحة، ونقابات الصيادين والعاملين بشركات الترانزيت، على إدانة اعتِقال وملاحَقة زملائهم، ويهدِّدون بإضربات قد تَضرُّ بالقطاعات التي ينتَمون إليها. فهم يؤكِّدون على أنّ المتَّهمين كانوا يَقومون بعملهم ليس إلا، وأن تلك الملاحقات لا هدف لها سوى الإلقاء بكبش فداءٍ لتهدئة الغضب الشعبي.

“الدولة الضعيفة”

ولئن كان من الصعب تحديد المسؤولية المباشرة للسلطة تجاه الظروف المحيطة بموت بائع السمك، إلا أنّ الروابط مع بعض أسُس الممارسة السائدة لدى النظام واضحة. إذ إن أساس المأساة والتظاهرات التي نجمت عنها يعود إلى التطبيق الانتقائي والتمييزي للقوانين. فالحرفيون الصغار من الصيّادين يرفضون الانصياع، في حين يحصل الصيّادون الكبار على امتيازات. على خلفيّة هذه الحادثة، هناك انعدام الأمان السياسي المرتبط بالتصرّفات الاعتباطيّة للسلطة وبالفساد، بالإضافة إلى انعدام الأمان الاقتصادي والحرمان لدى 45% من السكان الذين يعيشون من الاقتِصاد غير المصرّح والذي ينوؤون تحت عبء الاقتصاد الرَّيْعي.

فالدولة الضعيفة أبرمت مع كلّ من الكتل المهنية على حدة اتِّفاقات مؤقَّتة ومرتبِطة بشؤون معيَّنة (توظيفات، تصريحات للتواجد في الفضاء العام، وُعود بتحسين الوضع القانوني). ولكن هذه الاتِّفاقات بقيت غير رسمية، أبقت بالمعنيّين تحت تهديد الغرامات.

فصيّادو الحسيمة لا يمتلكون تصريحات رسميّة منذ ثلاث سنوات، إلا أنّهم يمارِسون مهنتَهم بطريقة عاديّة، يدخلون إلى المرفأ ويخرجون دون أن يتسبَّب ذلك بانزِعاج لدى الشرطة أو الجمرك أو سلطات الصيد أو البيْطرة. لا بل إن الدولة زوّدت عشرات الصيّادين بآلات صيْد بعد موت فكري بأسبوع. فالكثير، على غرار محسن فكري، يتاجِرون بمنتَجات الصيد دون أن يكونَ مصرّحاً لهم كمهنيين. ويخرجون مع ذلك

مُنتجاتهم عادةً دون أن يدفعوا الضرائب وأن يخضَعوا للرقابة الصحِّيّة. إنّها الدولة الضعيفة التي أرادت فرضَ هيبتِها، لعلمها أن الأنظار متوجِّهة نحو المغرب الذي يستقبل الكوب 22. ففرضَت قاعدة نظريّة بالإتلاف، ومنعت أيّ نقاش في الموضوعِ من خلال الإعلام الذي يتعرَّض لرقابة شديدة. كما أنّ الدولة الضعيفة تتحوّل إلى أداةٍ بين أيدي الموظّفين الكبار المستعدّين لإبرام تسوِيات كي لا تَثبت شراكتهم بالأخطاء والإساءات. والدولة الضعيفة هي التي تسمح للّوبيهات أو كُتَل الضغط باغتِنام الفرص لتحقيق المزيد من المكاسب، كما هو الآن حال مُستثمِري الصيد في المياه العميقة في المحيط الأطلسي، برفع نسبةِ حصَّتهم من الصيد من 150.000 إلى 200.000 طنّ. كما أنّها الدولة الضعيفة هي التي تقرِّر التغاضي عن حالة الغضب الشعبيّة السائدة ووضع اللائمة على أكباشِ فداء لم يفعلوا أكثر من تنفيذ القانون والانصِياع للأوامر. تلك الضحايا (الذي انضمّ إلى قائمتها حاكم الحسمية والكوادر العليا من وزارة الصيد) تتمّ الإشارة إليها على أنّها المسؤولة عن سوء التدبير في مؤسّسات الصيد، وسوء إدارتِها للغضب الشعبي ( أي دون أن يكون لهذا الغضب تَبِعات سياسية).

احتِقار القانون

هذا مع العلم أنّ لدى الدولة المغربية قوانين واضحة. ولا تنقصه الكوادر الكفوءة ولا الوسائل ولا إمكانيّات الطعن لمعاينة نقاط الضعف ومعالجتها في الوقت المناسب. ما ينقصها، هي الإرادة السياسية والتماسك العام، ممّا يسمح بتطبيق النُّظُم بطريقة ناجعة وعلى الجميع من غير تمييز. فالمنظومة التشريعيّة في هذا المجال كافية : قوانين متعلِّقة بالصيد، الصيد غير المصرّح، بيع السمك بالجملة، مراقبة السفن الكبيرة السِّعة، خطط تنمية فيما يخصّ الأسماك المتواجِدة في المياه المغربيّة الإقليمية، فترات الراحة البيولوجية لإعادة تكوين مخزون الصيد... كما أن التجهيزات الحاليّة وافِية : أسواق سمك في كلِّ نقطة تنزيل حمولة، أسواق سمك في كل المدن، شاحِنات مبرّدة، درّاجات للبيع في الأحياء الداخلية. إضافة إلى أن هيئات المراقبة الأمنية والجمركية والصحية والتجارية متواجدة أينما كان.

على أنّه، في هذا المجال كما في المجالات الأخرى تقريباً، تصطدم القوانين والمؤسّسات لسلطة أسياد المهنة وحماتِهم، الذين يتَجاهلون من علياء موقعهم القوانين والمعنيين بتنفيذها. عندئذ، حين يرى المهمَّشون أنهم لا يجدون لأنفسهم حلولاً داخل الجهاز الرسمي، وأن الجهاز الفعلي ضعيف، وحين يستخلِصون أن خطرَ العقاب أقلُّ من أمل الخروج من الأزمة بمكسب معقول، يكفّون عن الانصياع إلى القوانين. هكذا يتبيّن أن معظم الصيّادين في الحسيمة يمارسون مهنتهم في المرفأ دون تصريخ منذ 2013. وأن بيع السمك يتمُّ دون تصريح أو رقابة، وكذلك الأمر بالنسبة للتجار. علاوة على ذلك، يتبيّن أن أصناف السمك المفترض أن تكون محميّة لكونها في فترات راحة بيولوجية أو بحكم اتِّفاق تأجيل دولي لفترة صيدهم في البحر المتوسط، تتعرّض للاستغلال المكثَّف والفوضَوي.

كان الدافع من إدارة احتِجاجات 20 شباط/ فبراير 2011 شراءَ السلم الأهلي. بمعنى آخر، السماح للتكتُّلات أن تجد مَخرجاً مرضياً لمطالبها في إطار مفاوَضات مهنيّة علنيّة أو ضمنيّة تتعلّق بالمستحقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، بشرط عدم توضيب تلك المطالب في وجهة نظر سياسية شاملة. بدا ذلك جلياً فيما يتعلّق بالبائعين الجوّالين الذين سُمح لهم بالتواجد في الفضاء العام دونَ حدود، في بناء العشوائيّات السكنية المتزايدة، في التوظيفات بأعداد كبيرة من قِبل مكتب الفوسفات ومؤسّسات أخرى عامة والهيئات المحلية1.

“الإطاحة بالسلطوِيّة”

بات هناك قناعة تدريجيّة لدى معظم التكتلات المهنيّة، أن هناك حالة من التراخي في بنيَة الدولة، وأنّ هناك حالة لا قانون تشكل حادثة محسن فخري خير دليل عن ذلك. فالدولة القويّة هي دولة قانون. تفترِض أن القوانين مفروضة على الجميع دون تمييز. هذا بالضبط ما يلاحظ نقصَه المغربيّون، ممّا يدفعهم، حسب وضعهم، إمّا للبحث عن أساليبِ عيش أو مواكبةِ الأمورعلى هامش القانون، أو الضغط نحوَ تأويل للقوانين من خلال ضغوطٍ ومفاوَضات على أساس تكتُّلي، أو اللجوء إلى أشكال متنوِّعة من الاحتجاجات.

بعد ثلاثة أسابيع من الحادث، بدأ الحراك يخفّ. خفَّت النداءات إلى التظاهر. إلا أن الشارع المتنوِّعَ الانتماءات والاتجاهات استطاع أن يُكرِّر وبهدوء مطلبَه برفع القمع. قد لا يكفي ذلك إلى رفع القمع، ولكنّه يساهم بتفتيتِ شرعيَّته، من أجل بناء بدائلَ جماعية، سلميّة ومعقولة.

اعتمدَت السلطة خطاباً عن الحريات وحقوق الانسان، وهو ضروري بالنسبة للنظام تجاه القوى العظمى. ولكنها لا تريد أن تدينَ المبدأ الذي يعتمد أن الإرادة الملكيّة فوق القانون ولا تتعرّض للمحاسبة. فالابتِزاز من خلال التهديد بخطر الإرهاب والتخويف من خلالِ المقارَنة بالدول المجاوِرة، يكفِيان لتهدئة الشركاء الأجانب ذَوي النفوذ. ولكنَّ المغرب محتاجٌ لبناء سوق عمل وثروةٍ يتمُّ توزيعها بطريقة أكثرَ عدلاً، وذلك للتخفيف من التوتُّر الشعبي واكتِساب دعم الشارع.

لم يَعد ممكناً تقديم امتيازات لمجموع حاملي الشهادات العليا، ولأبناء الطبقات الوسطى، نظراُ لِوَفرة المتخرّجين من الجامعات، وعدم قدرة القطاع العام لاستيعابهم، وتآكل مخزون الدولة الاحتياطي. كما أنّ دعاية النظام الحكوميّة فقدت السيطرة على الإعلام بحكم تعميم وسائل الإعلام عن طريق الأقمار الصناعيّة، والشبكات الاجتماعيّة. ولكن الفئات التقليديّة التي تقوم بالاحتِجاجات (تقدميّين و إسلاميّين وليبراليّين، وأمازيغ) لم تكن قادرةً على تشكيل نضال مشترَك من أجل الديمقراطية، وسبقهم إلى ذلك حراك 20 شباط/ فبراير. من ناحية أخرى، فنموذج تنمية الاقتصاد من خلال الطلب الداخلي ( العام والخاص) وصلَ إلى أٌقصى حدوده. لا نستطيعُ إقصاء فرضيّة أن ثمّة نقاط احتِقان أخرى قد تنفجرُ في مستقبل قريب، دون أن يتمكّن النظام من امتصاصِها إلى ما لا نهاية. لن يكون حينها بمقدور سياسة “فتح السوق دون ديمقراطية” التي اعتمدَها النظام منذ سقوط حائط برلين أن تستمرّ، مما يفسحُ المجال أمام خيارين: إما أن تتحوّل الديمقراطية الظاهريّة إلى ديمقراطية فعلية، وإما أن يلجأ النظام إلى مزيد من القمع العلني.

1وقّع رئيس الوزراء عام 2011 محضراً بتوظيف أكثر من 6000 دكتور عاطل عن العمل دون نشر الإعلان عن الوظائف ودون فحص كفاءات. انسحب خَلَفه من هذا الالتزام باعتباره مخالفاً للدستور.