لا يهتمّ الأميركيّون كثيراً بالحرب في اليمن. فاليمن كان غائباً تمام الغياب عن نقاشات الانتِخابات الرئاسيّة. توجَّهت الأنظار إلى الحرب الباردة الجديدة مع روسيا في سوريا. وذلك مع أنّ أرقام الأمم المتَّحدة تفيد أن حرب اليمن أسفرت عن 10000 آلاف ضحيّة و 900000 ألف مهجَّر، ومع أنّ الولايات المتَّحدة الأميركية متورِّطة في الصراع في اليمن أكثرَ منها في الصراع في سوريا.
الولايات المتّحدة دعمت وساندت التدخل السعودي في اليمن منذ البداية في آذار/ مارس 2015. طائرات من صناعة أميركية ، مزوّدة جوِّيّاً بطائرات مزوّدة بالوقود أمريكية، موجَّهة بوسائل اتِّصال أميركية تَقصف بشكل يوميّ بأسلحة أمريكية. فللولايات المتَّحدة مسؤولية تجلّت بشكل صارخ في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2016، حين قصفت الطائرات السعودية عن طريق الخطأ مَأتماً في صنعاء، مُحدثة 140 قتيلاً و500 جريح. .وقد سبقت هذا القصف ضرباتٌ أخرى أوْدَت بحياة مدنيين. وجّهت الأمم المتحدة اتِّهاماً بارتِكاب جرائم حرب في اليمن. في الوقت نفسه، أعلن البيت الأبيض أن الدعمَ الأميركيَّ للسعوديّة ليس توقيعاً على بياض، وأنّها ستقوم بإعادة النظر في سياستِها (policy review ).
“إعادة النظر في السياسة” هذه تقنية قديمة تستعملها واشنطن منذ زمن طويل، للتنصُّل الحالات الصعبة. ما إن تتواجد الحكومة الأميركيّة أمام خيار مُحرِج، تُقوم بدراسة الوضع بعمقٍ من خلال عمليّة “إعادة نظر”. وتأمَل، مع نهاية هذه العمليّة، أن تكون حدَّةُ الضغط السياسي للتصرف قد خفّت في تلك الأثناء. ليس الهدفُ من إعادة النظر على الأغلب توضيحَ الأمور ولا تغيير السياسة، بل كسبَ الوقت كي يفسح مجالاً أمامَ الحكومة بالاستِمرار بما كان يقوم به من قبل.
لن تشكِّل “إعادة النظر السياسية هذه” استثناء على القاعدة. فمن الواضح أنَّ الزعماء الأميركيّين منزعجون من دعم الحرب السعوديّة على اليمن، إلا أنهم يعتبرون إن علاقاتهم مع المملكة العربيّة السعوديّة لا تزال عماد سياستهم في الشرق الأوسط. بالإضافة إلى ذلك، فالعقود المبرَمة حول شراء الأسلحة بين الشركات الأميركيّة والحكومة السعوديّة – والتي تبلغ مليارا الدولارات- تصعِّب من عملية التغيير السياسي. وعليه، فالاتِّجاه الوحيد المتوفِّر هو كسب الوقت من خلال “إعادة نظر في السياسة”.
“عمليّة تجارية كبيرة” ومُفيدة
إلا أنَّ كلفة الوقت غالية، لا سيّما بالنسبة للمدنيين. فالصعوبات التي أحدثتها السياسة السعوديّة في الولايات المتَّحدة عامَّة وفي هذا الصراع خاصة، ليست جديدة. لا حاجة لإعادة نظر طويلة لفهم صعوبة الخيارات المفروضة بحكم المساعدة العسكرية الأميركية، ونستطيع من الآن تقييمَ ماذا تَعني إعادة نظر جدِّيَّة وعاقلة. ندرج هنا طروحاتٍ لتوفيرِ الوقت على الحكومة الأميركية، وإن كان ذلك آخر ما تتمنَّاه.
تبدأ إعادة نظر جيِّدة بالاعتراف بأنَّ بيع الأسلحة الأميركيّة للسعوديّة تشكِّل “تجارة كبيرة”. خلال عهدَي جورج بوش وباراك أوباما، ارتفعَت تلك المبيعات بنسبة 97%. وصلَت العقود إلى 115 مليار دولار تحتَ ولاية أوباما. في السنوات الثلاثة الأخيرة فقط، أي منذُ بداية المفاوَضات مع إيران حولَ البرنامج النوَوي، باعَت الولايات المتَّحدة من الأسلحة بما يقارب 36 مليار دولار للملكة العربيّة السعوديَة. تخدم هذه المبيعات المصالح التجاريَّة للولايات المتَّحدة لتجّار الأسلحة الأميركيّين، فهي تسمح بخلق فرص عمل، وتُنتج أرباحاً للشركات وتعزِّز الميزان التجاريَّ الأميركي.
ولكنّه من المسموح التساؤل إن كانت صفقاتُ الأسلحة الهائلة تلك تخدم المصالح الجيوسياسيّة الأميركية. فالمساعدة العسكريّة الأميركيّة هي وسيلةٌ سياسية تجاه المملكة السعودية ، وليس هدفاً بحدِّ ذاته1 . وعليه، يجب أن تأتي لتخدمَ أهدافَ أوسعَ في إطار هذه العلاقة. من المفترَض أن تَضغط على الحكومة السعوديّة لأخذ قرارات من شأنها دعمُ المصالح والأولويات الأميركيّة في إطار هذا التحالف، وفي المنطقة بشكل أوسع.
من يتحكَّم بمن؟
السؤال الأساسي هو التالي: ماذا يريد الأميركيّون من المملكة العربية السعودية؟ هل يساعد الدعم العسكري هذه الأهداف؟ أو على العكس، هل يصعِّب من الوصول إليها؟ في السنوات الأخيرة، اعتمد التحالفُ الأميركي - السعودي على تبادل: الحماية الأميركية مقابل البترول. ولكنَّ الولايات المتَّحدة اليوم تشتري القليل جداً من النفط السعودي ولم تعد تعتمِد عليه. فازديادُ الانتاج الأميركيِّ من النفط والغاز يعني أنَّ المملَكة العربيّة لم تعد تلعب كما في السابق دوراً في تثبيت أسعار السوق. فالشركات الأميركيّة المُنتِجة للنفط اليوم هي من يقومُ بهذا الدور ودون تدخُّل حكومي. فمن المؤكَّد أن المملكة العربيّة السعوديّة هي أحد أهمِّ مُنتجي النفط في العالم ولها وزن في حركة الأسعار. إلا أن التطوّرات في سوق الطاقة ، وتقاطعها مع الأزمة المالية التي تعرفها المملكة العربيّة السعودية تمنع الحكومة السعوديّة من استعمال النفط كسلاح استراتيجيّ لمواجهة السياسة الأميركية.
تبقى فكرة أنّ الدعم العسكري يسهِّل الوصول إلى السياسة التنفيذيّة السعودية. ولكنَّ الوصول إلى الجهاز التنفيذي لا يعني النفوذ فيه. فلطالما استعمل السعوديّون هذه الرافِعة وقلَبوها لصالحهم: جعَلوا من رغبة الأميركيين الدخولَ إلى قلب جهاز سلطتِها أداةً لشراء أسلحة جديدة. لا شيء يُثبت أن الدعم العسكري دفع المملكة السعودية إلى اتِّخاذ قرارات لم تكن لتأخذها لو لم تحصل على هذا الدعم. في الحالة اليمنية، من الواضح أن الدعمَ العسكريَّ الأميركيَّ دفع باتِّجاه قراراتٍ مخالفة للمصالح الأمريكيّة.
يَعتبر السعوديون شراءهم للأسلحة الأمريكية حقاً. أوّلاً، لأنَّهم يدفعون عدّاً ونقداً، ودون اللجوء إلى قروض أمريكيّة. وقبلت الحكومة الأمريكيّة بوجهة النظر هذه. ولم تطلب من السعوديّة يوماً ببذلِ أدنى جهد للحصولِ على الدعم العسكري. على عكس ذلك، يبدو وكأنّ السعوديين قد استخدموا الرغبة الأميركية ببيع الأسلحة من أجل الحصول على دعمِهم في اليمن.
قلّة جَدوى في وَجه إيران
يجب على أيّة إعادة نظر جدِّيَّة التوصيةُ أن الدعم العسكري الأمريكي يأتي ردّاً على مخاطر فعلية، وكذلك بيع الأسلحة. فالمملكة السعودية عرضة لمخاطر عديدة: الحرب الإلكترونيّة، العمليّات الإرهابيّة، والصواريخ الإيرانيّة ضدّ منشآت حيويّة. وتقوم الولايات المتّحدة بدعم ناجع للسعودية، لدرء تلك التهديدات. ولكنّ السعوديّة لا تعاني من خطر هجوم تقليدي كبير من قبل إيران أو أيِّ بلد آخر.
إلا أنّ الولايات المتّحدة تعطي السعوديّين ما يشاؤون، عوضاً عن إعطائهم ما هم بحاجة له، مع استِثناءات نادرة. مع السنين، اشترى السعوديّون عدداً كبيراً من المدرَّعات وطائرات عسكرية من أحدث طراز، بالإضافة إلى ذخائر معقَّدة التركيب. وهذه المعدّات مشكوك بفائدتها لردع إيران عن القيام بحربٍ إلكترونيّة أو بضربات صاروخيّة. كما أنّ الأسلحة الأميركية لا فائدة لها في حماية الخليج الفارسي المفتوح للتجارة. فالولايات المتَّحدة معنيّة بالحول دون أيّ توقف في نقل النفط، وذلك بفضل تواجدها العسكريّ في البحرين وفي بحر عمان. وبالتالي، فعوَضاً عن أن ترمي هناك أطناناً من الأسلحة التي تبلغ كلفتها مليارات الدولارات ، في حين أن هذه الدولارات قد تكون أكثر نفعاً في حلِّ أزمات داخليّة، يبدو من الأجدى أن تقدِّم الولايات المتَّحدة للمملكة السعوديّة أسلحة أقلَّ حداثة وكلفة: منصات للاستخبارات، للرقابة والاستكشاف، وسائل بحرية لمكافحة الألغام، وتعاون أمني. كما أنّه من الأفضل تستعمل واشنطن الدعم العسكري لدفع السعوديين على التعامل مع شركائهم في المنطقة وتنميَة قدرات عسكرية مشتركة، رغم تردُّد السعوديّين في ذلك.
بحكم الخلاف العميق في وجهات النظر مع المملكة العربية السعودية في وجهات النظر، يجب على الولايات المتحدة أن تغيِّر من دعمها للسعودية في بناء القدرات السعوديّة الهجومية. فقد رأينا أن الوسائل الأمريكيّة الأساسيّة كالاستخبارات والتزويد الجوي سمحت للملكة السعودية بإحداث دمار كبير في اليمن. هل من مصلحة الولايات المتَّحدة الأميركية أن تقدّم للسعوديّة ما يمكنها من شنّ هجوم على القوّات الإيرانية، وهي الذراع المسلَّح للجمهورية الإسلاميّة؟ حين نرى الفوضى التي استطاع السعوديّون تعميمَها في اليمن، ليس الوضع مُطَمئنًا فيما يخصُّ الوسائل التي قد يلجؤون إليها لدفع قوّاتهم خارج البلاد.
توَدُّ الولايات المتحدة أن ترى المملكة العربيَّة السعودية، وحلفاءَها العرب بشكل عام، أكثرَ التزاماً فيما يخصُّ الأمن الإقليمي. يمكن للدعم الأميركي أن يساهم بذلك، بشرط أن يتكيَّف. يجب مساعدة المملكة العربيّة السعوديّة لتلعب دوراً أكثر تلاؤماً مع المصالح الاستراتيجيّة الأميركية. إن تعزّزت القدرات الهجومية السعودية ، قد تقوم المملكة باستعمال تلك القدرات بما يتنافى مع المصالح والأولويات الأميركية. فمن صالح الولايات المتحدة أن تعزِّز تقاربا سعوديّا- إيرانيّاً. ولكن هذا التقارب ليس أولويّة سعوديّة. ولذلك يتوجَّب على الولاياتِ المتَّحدة التصرُّف بحذر فيما يخصُّ تعزيزَ القدرات السعوديّة الهجوميّة ضدَّ الجمهوريّة الإسلاميّة.
أسلحة معقَّدة وغيرُ مفيدة
نقترح إذاً ثلاثة خلاصاتٍ تتعلّق بإعادة نظر صارِمة في الدعم العسكري الأمريكيّ للمملكة العربيّة السعوديّة.
أوّلاً، لم يُعط الدعم العسكريّ الولايات المتَّحدة تأثيراً كبيراً على السياسة الخارجية السعوديّة، على عكس ما هو متصوَّر عادة. أكان الأمر في العراق ، أو سوريا، أو اليمن أو في مكان آخر في المنطقة، لم يساهم السعوديّون في تعزيز المصالح والأولويّات الأميركية، علماً أن المؤسّسة العسكرية للمملكة تعتمِد وبشكلٍ يكاد يكون حصريّاً على الأسلحة والتدريبات والمساعدة اللوجيستيّة الأمريكية. حاولت واشنطن استعمال هذا الارتِباط كرافعة، ولكنَّ المحاولة لم تنجح على ما يبدو.
ثانياً، باعت أمريكا، مع مرور السنين، أسلحة حديثة ومعقَّدة لا تحتاجها السعوديّة للدفاع عن نفسها في مواجهة المخاطر الخارجيّة. لم يحسن السعوديّون استعمال هذه الأسلحة العالية الطراز. وحين لجأوا إليها، كما في اليمن اليوم، فهم استعملوها ضدَّ مخاطر أقلّ حدّة، وهذا لا يخدم المصالح الأمريكيّة.
ثالثاً، لا يتوَّجب على الولايات المتَّحدة إنهاء التعاون العسكري مع المملكة العربية السعودية. فهذه الأخيرة قد تتحوَّل إلى شريك أكثر إشكاليّة منه اليوم إن توقّفت علاقتها بالولايات المتحدة. ولكنّه يتوجَّب على الولايات المتَّحدة أن تُحسّن استِعمال هذا التعاون كرافعة. يجب التوقُّف عن تزويد المملكة بأسلحة تعزِّز من قدراتها الهجوميّة خارج حدودِها. عدا عن ذلك، يجب أن تربط واشنطن عقودَ بيع الأسلحة التجهيزات العسكرية الجديدة بشروط وبرامج جديدة تُلزم المملكة العربية السعودية بالعمل الوثيق مع شركائها في مجلس التعاون الخليجي، لتحسين حماية المصالح المشتركة للولايات المتَّحدة ودول الخليج، وأهمُّها حرِّيَّة نقل النفط الآتي من المنطقة.
ومن الطبيعي، إن كانت الشروط الأمريكيّة قاسية جداً، أن يلتفِت السعوديّون إلى روسيا أو الصين، للحصول على أسلحة. ولكن السعوديّين يفضِّلون الأسلحة الأمريكية على غيرها، لأسباب سياسيّة وعسكرية. فإدخال أسلحة روسيّة أو صينيّة على ترسانتهم قد يؤدّي إلى مشاكل لوجيستية وعمليّة كبيرة. علاوة عن ذلك، إن ارتباط السعودية بالأنظمة اللوجيسيتيّة الأمريكية، يَضمن لمدّة طويلة عقود دعم وخدمات مع صناعة الأسلحة الأميركية. إلا أنّه من التهوّر أن تُواصل الولايات المتَّحدة بيعَها لبعض الأسلحة بسبب الخوف من خسارة العقد.
ليس السعوديّون بحاجة للنزول عند الرغبات السعوديّة للحفاظ على علاقة أمنيّة ناجعة مع المملكة السعوديّة. فالتملُّق الأمريكي من شأنه أن يساعد السعوديّين على تبني موْقف مواجهة. فهم يعرفون أنَّ هذا الموقف يدفعُ الأميركيّين إلى مزيد من التنازلات. ويجب على الأمريكيّين أن يَفهموا أنهم يملكون معظم الأوراق وأنهم يَستطيعون استِعمال المساعدة العسكريّة كوسيلة من الوسائل لدفعِ السياسة السعودية باتّجاه يتناسب والمصالح الأمريكية. النقاش مفتوحٌ لتحديد تلك المصالح. ولكنّها من المؤكّد لا تتضمَّن قتلَ المدنيّين في اليمن بأسلحة أمريكية.
1Mark P. Lagon, « Is Saudi Arabia more trouble than it’s worth ? », The National Interest, 19 octobre 2016