الظلم المناخي في المغرب

توجهات النخبة في المغرب حيال قضايا البيئة · لم تنجح الدولة في المغرب حتى الآن في تطوير استراتيجة خاصة بها في عملية المفاوضات من أجل اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيير المناخ. يعود غياب الاستقلالية هذا الى تاريخ الاستعمار الفرنسي والى نظرية التحديث بعد الحرب العالمية الثانية، والى تحالف الطبقات المغربية الحاكمة مع رأس المال الأجنبي.

“يعتبر طغيان الفكر الاستعماري الجديد من أخطر القيود التي نواجهها في هذا البلد. كنا مستعمرة تتحكم بها الدولة الفرنسية التي أورثتنا تقاليدها: فالنجاح والسعادة في الحياة يعنيان العيش على الطريقة الفرنسية، كما يعيش كبار الأثرياء في فرنسا. ويمثل انتشار هذا الفكر في الاذهان عقبة في وجه التغييرات التي نود تحقيقها ويضع حدوداً لها”(خطاب توماس سانكارا 1949-1987)

يعد المغرب مثالاً للظلم المناخي الذي يعيشه العالم اليوم، ففي حين تعتبر انبعاثات الغاز المسببة للاحتباس الحراري في المغرب هامشية للغاية على الصعيد العالمي (أقل من 1.74 طن من ثاني أوكسيد الكاربون للفرد في السنة مقابل 17 طن في الولايات المتحدة الأميركية) إلا أن المغرب يعد من أكثر الدول عرضةً للتضرر من تبعات التغيرات المناخية، وينطبق هذا الأمر أكثر ما ينطبق على الموارد المائية والزراعة.

كما أن المغرب، شأنه في ذلك شأن غالبية الدول غير المنتجة للنفط في منطقة الشرق الاوسط وشمال إفريقيا، هو من أقل الدول قدرة على التأقلم مع النتائج الحالية والمرتقبة للتغير المناخي. نظراً لمشاكل الفقر والبطالة وغياب الديمقراطية التي يعاني منها المغرب أساساً. وكما يوضح جلبير أشقر :“من بين كل المناطق التي ما زالت تسمى بالعالم الثالث، فإن منطقة الشرق الاوسط وشمال أفريقيا هي المنطقة التي تتعرض لأكثر الأزمات التنموية شراسة على الإطلاق”.1

الانحياز لمواقف الشمال

والمغرب لا يرتكز في سياساته البيئية الى موقعه كبلد ضحية للظلم المناخي. فهو لم يتحالف مع بلدان جنوبية أخرى للمطالبة بحقه في العدالة البيئية واعتراف الآخرين بالديون الإيكولوجية المستحقة عليهم تجاهه، ديون تاريخية مستحقة على بلدان الشمال كلها حيال جميع بلدان الجنوب. وعوض أن يطور موقفاً ذاتياً بالتعاون مع بلدان جنوبية مماثلة، فهو ماض في تبني مواقف شبيهة بتلك التي توصي بها القوى العالمية كفرنسا والولايات المتحدة الأميركية.

بل الأغرب من ذاك هو انحياز النظام المغربي الى مواقف النظم الملكية في الخليج ولا سيما منها المملكة العربية السعودية في المفاوضات المناخية، سيما أن موقف المملكة محافظ للغاية في هذه المفاوضات.

وبالتالي فإن المشاركة المغربية لا تعدو كونها مشاركة رمزية، هذا ما وصفه أحد المفاوضين المغاربة، ممن شارك في مفاوضات مؤتمر الأطراف لعدة سنوات (وهو لم يود كشف هويته)، لقد أدى التغيير المناخي الى عقد العديد من اللقاءات والكثير من رحلات السفر...ويجدر بنا أن نتساءل عن جدوى مثل هذه الاجتماعات. فحتى عندما يتم التوصل الى اتفاق مثل اتفاق كيوتو عام 1997، فالاتفاق لا يطبق بكل حذافيره، ولا يتم بلوغ الهدف المنشود“2. بل ويضيف:” لقد أصبحت هذه الاجتماعات مَضْيَعة تامّة للوقت والجهود المبذولة. فلقد علمتني التجربة أنه لا يحدث أي شيء قبل الدقيقة الأخيرة من أسبوعين حافلين بالمفاوضات. وأعرف سلفاً أن قرارات مخيبة للآمال سوف تتخذ في الغالب، في قاعات جانبية، من قِبل مندوبي القوى الكبرى وأن هذه القرارات سوف تعلن في الصباح الباكر غداة اختتام المؤتمر".

“رأسمالية خضراء”

إن غياب أي رؤيا واضحة ومستقلة لدى الطبقات الحاكمة في المغرب لا يمنعها من البحث عن فرص جديدة لجني أرباح طائلة باسم حماية البيئة. فغالبية الشركات التي دخلت في مشاريع تنمية للنظم البيئية، سواءً أكانت وطنية أم أجنبية، تتحمل المسؤولية عبر التاريخ عن تلوث العديد من النظم البيئية المحلية. نجد مثالاً على ذلك في الشركة الوطنية للاستثمار، التي تريد الظهور بمظهر الشركة الرائدة في التنمية المستدامة في المغرب ولا سيما في مجال طاقة الرياح. إلا أن شركتها الفرعية “كونسومار” كانت ضالعة في بعض كوارث التلوث، بل أن شركتها الفرعية “مناجم” ومنجم الفضة “إيميضر” الذي تديره في جنوب المغرب قد ألحقا الضرر بالموارد المائية الجوفية، كما أنها في نزاع مع السكان المحليين فيما يتعلق بالموارد المائية.

أن مساهمة الطبقات الحاكمة في المشروعات “الخضراء” اليوم ليست سوى استمراراً لعمليات السلب بلباس “شرعي”، تورطت بها منذ استقلال المغرب رسمياً. وكما ورد في كتاب فرانتز فانون “المنبوذون على وجه الأرض”(1960)، وبوضوح:"

تحدث عملية إزالة الاستعمار أحياناً في مناطق لم تشهد كفاحاً مريراً من أجل التحرير، ونجد نفس المثقفين المتسمين بالحَذْلَقَة والدهاء والحيلة. ونجد لديهم مجدداً التصرفات والأنماط الفكرية عينها التي التقطوها بمعاشرة البورجوازية الاستعمارية. كانوا الأطفال المدللين للاستعمار أمس، و باتوا أصحاب الحظوة لدى السلطة الوطنية اليوم، وها هم ينظّمون عمليات النهب للموارد النادرة المتوفرة في الوطن. دون رحمة أو شفقة، يرتقون السلم الاجتماعي بالأحابيل والألاعيب والسرقات الشرعية: استيراد وتصدير، شركات مغفلة، تلاعب بالبورصة، امتيازات، بعيداً عن البؤس الذي عمّ البلد بأسره. وهم يطالبون بإصرار بتأميم المصالح التجارية، أي جعل الأسواق والفرص السانحة حِكراً على رعايا البلد.“وبمعنى آخر، في الظروف الحالية، إضفاء الطابع”المغربي" البحت على نهب الموارد المغربية.

التحريض ضد الملكية الجماعية

لقد ورثت الطبقات الحاكمة في المغرب عن الاستعمار الفرنسي خِطاباً بيئياً يعتبر أساليب الزراعة التقليدية للسكان المحليين عديمة الفعالية يل ومضرّة بالتربة، وذلك بحجة إدخال “الرقي” الى مجتمعاتهم. وكان هناك ادعاء بأنه لا بد من استبدال الغابات التقليدية وأساليب زراعة الكفاف والرعي على الأراضي المشاع، بالزراعة الحديثة والملكية الخاصة، من أجل الحفاظ على الأرض والموارد الطبيعية الأخرى. هذا الخطاب الاستعماري استخدمه أولاً الفرنسيون في الجزائر، كذريعة تكنوقراطية لنزع الملكية والموارد عن السكان المحليين. وهو الأمر الذي شرحته ديانا ك. ديفيس إذ كتبت:"

كان هذا الخطاب مستخدماً بشكل واسع لتيسير عملية الاستيلاء على الأراضي المشاع، وهو مثال نمطي لمصادرة الأراضي الأميرية، طبع تغيير علاقات المجتمع بالطبيعة إبان فترة الليبرالية الكلاسيكية وتنامي الاقتصاد العالمي(...) كان هذا الخطاب يجعل من مربي الماشية و مزارعي الكفاف أشباه “الخارجين على القانون”(...) و استُخدِم هذا الخطاب أيضاً لتغيير وإعادة صياغة القوانين و السياسات خلال الفترة الاستعمارية. وفي هذه العملية، تم تجريم الطرق التقليدية باستغلال الغابات والأراضي من قبل الجزائريين بشكل منتظم، وجرى تهميش غالبية السكان الأصليين وإفقارهم. ونفس الرواية البيئية انتقلت الى تونس عام 1881 وال المغرب عام 1912 وأدت الى نفس النتائج".3 .

ولقد تم دمج هذا الخطاب الاستعماري الأولي بما يعرف اليوم “بنظرية التحديث” بعد الحرب العالمية الثانية. حيث باتت مجموعة جديدة من المؤسسات المالية الدولية ، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ووكالة الولايات المتحدة الأميركية للمساعدة الإنمائية، وتحت راية التنمية بدل “رسالة الرقي”، تحرض ضد ملكية الأراضي الجماعية على أنها عديمة الفعالية و تحض على اتباع أنماط الملكية الخاصة، الرأسمالية، مع الاستخدام المكثف للمستحضرات الكيماوية. ورغم ادعائها بأن هذه الأساليب الجديدة توفر السبيل الى الرخاء للجميع إلا انها لم تؤدِ إلا الى تفاقم انعدام المساواة.

جمعيات مرتزقة

ولإن كانت السلطة والطبقات المسيطرة عاجزة عن تطوير رؤيا مستقلة وبديلة لمشكلة التغير المناخ والأزمة البيئية العالمية، فما هو شأن المجتمع المدني في هذا الصدد؟

لقد شهد المغرب مؤخراً بروز آلاف الجمعيات مما يدعى“المجتمع المدني”، والتي تركز اهتمامها على المشاكل البيئية. ولقد ازدادت أعداد ونشاطات هذه الجمعيات بمناسبة تنظيم المغرب لمؤتمر الأطراف في دورته الثانية والعشرين. وكانت نتيجة ذلك انتشار الجمعيات المرتزقة التي اغتنمت فرصة حماية البيئة للحصول على معونات مالية. ومن ناحية أخرى، تتدخل الدولة بشكل جدي للحؤول دون اهتمام المنظمات غير الحكومية عن كثب بالقضايا البيئية الأساسية التي تعتبر حساسة من الناحية السياسية، ولإبقائها في دائرة جمع النفايات وزرع الأشجار كما شاهدنا ذلك في حملة “بو نضيف” لتنظيف الشواطيء

فضلاً عن ذلك‘ فإن بعض المنظمات المهتمة بالبيئة تحاول التعويض عن إهمال الدولة في مجالات عدة وعدم قدرتها على توفير البنى التحتية الأساسية لتزويد القرى بالمياه، و تشييد الطرق، وتنظيم تعاونيات لإنتاج و توزيع المنتجات المحلية.

وبغض النظر عن الإدراك غير الكافي للتحديات الدولية في مجال البيئة، فإن عدداً من النشطاء يعتبرون الخوض في هذه النقاشات ترفاً فكرياً، نظراً لمستوى الفقر وغياب الديمقراطية حالياً في المغرب. وهؤلاء يتبنون موقفاً “آلياً” يذهب الى ضرورة النضال أولاً لإحلال الديمقراطية والمطالبة بالحقوق السياسية والاجتماعية. وعندما تتوفر هذه الشروط، عندها فقط يمكن التحدث عن حماية البيئة والخوض في نقاش أزمة المناخ.

السيادة بشأن الموارد الطبيعية

في عام 2009 شاركت في المنتدى الاجتماعي الدولي في مدينة بليم، وكان من أكثر المنتديات نجاحاً، وذلك بفضل مشاركة البرازيليين المباشرة، مع أكثر من 140.000 مشارك، خاصة من السكان الأصليين. وكان البرازيل وقتها يركز على ازمة البيئة العالمية معتبراً إياها أحد أسوأ أبعاد أزمة المنظومة العالمية، بل وأزمة الحضارة التي يشهدها العالم حالياً. ولقد دهشت بالطريقة التي تحاول فيها المنظمات غير الحكومية الاجتماعية والبيئية المحلية تطوير حلول بديلة تستند الى التاريخ والتقاليد الذاتية، بدل استيراد الحلول الجاهزة من الغرب. وهو الأمر الذي يجعلني أعتقد أن التحدي الأساسي الذي يواجه النشطاء الصادقين والمنظمات غير الحكومية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو التالي: كيفية تشكيل حركة عدالة اجتماعية وبيئية مرتبطة بالحركة العالمية، دون إعادة انتاج العلاقة الاستعمارية الجديدة مع القوى الغربية؟ ولا شك أن الطريق الى مثل هذه الحركة في المغرب سيكون عسيراً وطويلاً، بيد أنه أصبح ضرورياً لا غنى عنه.

أما التحدي الثاني أمام بناء مثل هذه الحركة من أجل العدالة الاجتماعية والبيئية فيتمثل في توفير روابط التضامن والتكافل بين ضحايا الظلم البيئي الحقيقيين الذين يناضلون يومياً على كامل التراب المغربي، لحماية حقوقهم وأراضيهم. وعلى سبيل المثال:
  في وارززات/أيمضر، تكافح المجتمعات المحلية منذ عام 2011 ضد الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية وتلويث المياه على يد شركة تعمل في المناجم، و من أجل استعادة السيطرة على مواردها الطبيعية واستعادة حقوقها التاريخية.
  في بنسميم، قام سكان القرية بتحرك مذهل دام أكثر من عشرة أعوام للدفاع عن حقوقهم في مواردهم من المياه، ضد شركة تعبئة تملكها شركة عملاقة مدعومة من السلطات المحلية.
  في سعدية، قام تحالف من عدة منظمات غير حكومية يقوده مهندس زراعي بكشف العواقب الوخيمة التي قد تترتب على مشروع سياحي عملاق غير مناسب للبيئة من شأنه إلحاق الضرر بالنظام البيئي الساحلي وتهميش المجتمعات المحلية.

هذه الحملات تبعث على الأمل وتلهم الجميع. الأمل بأنه بإمكاننا بناء حركة شعبية من أجل العدالة البيئية على نطاق واسع في المغرب. حركة فاعلة من أجل حماية حقيقية للمنظومات البيئية المحلية بل ومن أجل استعادة السيادة الفعلية للمواطنين والمجتمعات المحلية على الموارد الطبيعية، واستعادة الحق المشروع في تقرير كيفية استخدام المياه والأراضي والغابات والبحر والشمس في الوطن.

1The people want: A Radical Exploration of Arab Uprising, University of California Press, 2013 ; p. 10.

2مقتبس من عرض أمام الطلاب في الجامعة الأميريكية عام2014

3Diana K. Davis, “Neoliberalism, environmentalism, and agricultural restructuring in Morocco”, The Geographical Journal, 172(2), 2006 ; p. 93.