منذ عام 2006 حين طَرح وزير الخارجية الأميركي الأسبق “جيمس بيكر” وآخرون في “مجموعة دراسة العراق”1 مشروعه السياسي لإيجاد إستراتيجية خروج أميركي من البلاد،أشار “مايكل مازار ، من”مؤسسة راند“2، بأن العراق ضحية مجانية للصراعات الحادة بين الأجنحة البيروقراطية المتنافسة في الخارجية الأميركية والبنتاغون. أما المحلل العسكري المتقاعد”اندرو باسيفيتش“فهو يقول بأن أكاذيب إدارة”اوباما“حول امتناعها عن إرسال قوات برية بصورة واسعة لم تتمكن من صناعة تغطية مقنعة لفشلها السياسي في العراق والشرق الأوسط. ويقظتها الأخيرة في”حملة“الموصل تؤكد بصورة قاطعة كل التوقعات التي طرحتها”جوديث يافي" (جامعة واشنطن)، بأن العراق مستمر وصامد في وحدته بالرغم من قولين متلاحقين: ما كان يمكن أن يصير بلداً، وليس من الممكن أن يستمر ويصبح بلداً. فالتقسيم وإن كان مقنّعا أو الفدرالية، أصعب بكثير من التجميع في دولة واحدة، لاسيما في ميادين السلطة السياسية واحتكار السلاح والحدود الداخلية والموارد الطبيعية وخاصة النفطية.
حملة الموصل وسيلة أم غاية
سلطت حملة الموصل الضوء المباشر على أنه 1 - لا توجد مصالحة جدية لخلق حقول نظيفة للمستقبل القريب، و2 - ولا توجد انخراطات حقيقية واجتماعية لبناء القاعدة الإسمنتية للشروع في نهوض الدولة، حيث فضحت التجربة في حكم “المحاصصة” الطوائفية أن الحكومة لا يمكن أن تعيش بدون “ميليشيات” مسلحة، وأن الدولة لا يمكن إعادة تشييدها بدون استئصال هذه الميليشيات. من هذه الزاوية، ومن خلال معلومات مهمة، يبدو مؤخراً تصاعد الدور البريطاني في السياسة العامة في العراق ــ وبموافقة اميركية ــ للقيام بمهمتين: الأولى محاربة “داعش” وخاصة في الموصل،والثانية الانغماس في محاولات تغيير النظام السياسي القائم، ولكن مع الإبقاء على نفس السكة الاحتلالية. وذلك لأن بريطانيا، التي “أعادت” الموصل عام 1925 للعراق،أدرى بشعابها وهي تدرك بأنها هي “حدود الطاقة” (بحسب تورغوت اوزال، 1992) بين العراق وتركيا، وأنها بالمفهوم الاستراتيجي البريطاني التقليدي، منصة عسكرية لعناصر سياسية متعددة ومتشابكة : داخلية –ديموغرافية biopolitics / خارجية – اقليمية ودولية geopolitics.
الإسلام السياسي أم الأمن الاجتماعي
في البدء لا تختلف بريطانيا عن القول الخاص بأهمية وضرورة بقاء الإسلام السياسي في السلطة، ليس لأنه فرس الرهان الوحيد ولكن لأنه حاليا الصمغ الذي يربط بين قطبي الصراع الطوائفي: التشيع والتسنن، في العراق والإقليم. بمعنى أن المرحلة لم تستنفذ هذه الصيغة السياسية، وأن الانتقال (كما يشاع مؤخرا) إلى العلمانية “الملفقة” ما زال بعيداً. بل أن الأمور تسير نحو حالة ملتبسة، حيث تضعف عموماً نزعة التدين وتستفحل الطوائفية وتبقى هي المحرك الأساسي.
لكن حسابات الحقل الاحتلالية لا تتطابق دائما مع حسابات البيدر الطوائفي فأميركا التي تشرف على الحكم المشترك للاحتلال (“الكوندومينيوم”) ترى ضرورة الإفصاح عن البرنامج السياسي وإعلانه، وبعدها نشر آلية تطبيقه، بينما تفترض بريطانيا أهمية تطبيق البرنامج، وإثر ذلك الجهر بالنوايا، مستفيدة من مقولة ونستون تشرتشل بالتركيز على خطر التضحية بما هو في المتناول لصالح ما هو ممكن راهناً ومجدي لاحقا".. أي تغيير النظام السياسي القائم برمته للحفاظ على الأمن الاجتماعي، ومن ثم تحويل الكوندومينيوم السياسي إلى صيغة عقارية محضة تتضمن قوة الموارد النفطية الإستراتيجية والحفاظ على وحدة العراق: شرحت ذلك مقالة الصحافي بول بيغنيل في الاندبندنت في 18 نيسان 2016 تكشف العلاقة بين الدوافع البريطانية للمشاركة في احتلال العراق والعقود السرية بين حكومة توني بلير والشركات النفطية العالمية وفي مقدمتها ،شركتي شيل و ب.ب. المشهورتين، والاستثمار الكلي لطاقات “التسنن السياسي” الاجتماعية والعسكرية واستغلال مرض “نرجسية القضايا الضائعة” الذي يعاني منه هذا التسنن.
مقاربات عسكرية أم سياسية
لم تكن معارك الموصل العسكرية، منذ البداية ولحد الآن، مستندة إلى قوانين مدونة أو خطط محددة. لذلك فهي تخضع فعلياً لعقيدة “كلاوزفيتز”: كل نظرية عسكرية صحيحة حتى تصل إلى المواجهة مع العدو! إن الخطأ المسموح به هنا والمكرر عسكريا لدى البنتاغون هو سياسي، وجوهره عدم التفريق بين الحروب التقليدية في مكافحة “الارهاب” كما يقال، وبين استراتيجية “الحرب الرابعة” التي شرحها بالتفصيل الخبير الاميركي المعروف “ويليم لند”3 ، والتي كانت حجر الزاوية في إستراتيجية “الاندفاعة” في العراق أعوام 2007 – 2008. تلك التجربة التي نجحت في القضاء على المقاومة الوطنية المسلحة ضد الاحتلال وفشلت في إبادة (أو ساهمت في إنعاش) قوى الإسلامالمسلح بشقيه الطائفي، من القاعدة وأخواتها ومشتقاتها من نمط “داعش”.
من هنا تبدو تحليلات “مايكل مازار- مؤسسة راند” للفشل الأميركي في العراق والإقليم مهمة في تركيزه على نظرية “المناطق الرمادية”، ومنها حلب والموصل،وخاصة في مرحلة فشل أميركا في إيقاف تدهورها الاستراتيجي ونهاية القطبية الواحدة ورجوع الحرب الباردة بين الشرق والغرب أو استمرارها. فوائد المناطق الرمادية أنها تعزل جيوسياسياً بين القوى الكبرى المتنافسة وتمنع الاحتكاك العسكري وتغري أحياناً بالتسويات وتقاسم المصالح. والموصل نموذج حي في التعامل اليومي، فلم يجرِ الاعتناء بها لكونها مدينة استراتيجية عراقية وعربية، وإنما طغى في الاهتمام طقس الغنيمة وحدود الدم والطاقة بين تركيا وإيران من جهة (اقليمياً)، وبين المكونات العراقية، كما صاغها بول بريمر، من الجهة الأخرى.
السياسة تقود الحرب
من هنا، حاول البنتاغون أن تكون المعارك ضمن حملة إعلام مموهة وعملاقة في: 1/ الاعتناء بالجدوى التقنية والدعاية لها، 2/ إبراز الوجاهة المعيارية في الحسابات اليومية، 3/ محاولة الحدس السياسي بتعقيدات الحاضر الذي قد يؤدي إلى تركيبات المستقبل. لكن استمرار المعارك حامية الوطيسلمدة أكثر من ثلاثة أشهر لم تخفِ خطل المساعي الاميركية السياسية، وإنما الأمر الحاسم هو الخطأ الاستراتيجي المتعَمد في الفصل دائما بين المقاربات العسكرية والمقاربات السياسية. فالفجوة بين الكيانين تعطي قوة المناورة للسيطرة على المشهد الإعلامي، وتلبي الغرائز السياسية في احتواء كل أطراف الصراع وتدجينهم سياسياً. إن هدف اميركا ساطع بأن تكون الأوضاع في الموصل أسوأ بعد داعش من الأوضاع قبل داعش، وذلك لإعادة إنتاج المعاناة نفسها،واستثمارها في التدوير الطوائفي لمربع الأزمة الخانقة. وما يحدث عمليا هو مطاردة لَعينة بين نشاطات الكوندومينيوم السياسي وأذنابه وفعاليات الكوندومينيوم العسكري وكتائبه المسلحة.. وذلك للتشابك الاستراتيجي الحاصل راهنا بين الانهيار الجيوسياسي الإقليمي الناجم عن الانحدار المتواصل للهيمنة الاميركية، والتفتت الديموغرافي الداخلي والذي هو ثمرة مرّة من شجرة الانحطاط الجيوسياسي.
إن الاندحارات المتواصلة لداعش في الموصل ليست نتاج الضغوطات العسكرية فقط وإنما تكمن أسبابها في البناء الداخلي للتنظيم، حيث هو لا يهتم بالكاريزما الشخصية ويعتمد على تقديس العمل الجماعي، ولا يحمل مرجعية دينية وفقهية في قيادته، ومرجعيته الوحيدة عسكرية وسياسية،وبقدر ما تتصاعد عملياته العسكرية الناجحة تزداد البيئة التصاقاً بتكوينه الاجتماعي – السياسي.
تدوير المربع السياسي
التغيير المطلوب عمليا ليس في إنهاء “العملية السياسية” وإنما في تغيير شكلها وتبديل مواقع المكونات في داخلها خدمة لاستمرارها. أي النكوص من “الطوائفية” التي تستدعي تأثيرات ومشاركة دول الجوار، العربية وغير العربية، في الكوندومينيوم الحاكم، إلى “الطائفية” التي تلغي الكوندومينيوم نهائياً ويبقى العراق مرتبطا مباشرة فقط بالإستراتيجية الغربية بقيادة أميركا. وهذا يفرض نمطا معاكساً لصيغة العهد الملكي “الطائفية”، أي أن يحكم “التشيع السياسي” المرتبط مع مرجعية “السيستاني” بالتعاون مع كتلة موحدة ومتينة من “التسنن السياسي”،وبهذا يضمن نزع القوة “الخشنة” للمرجعية، وهي ميليشيات “الحشد الشعبي”، وبقاء القوة “الناعمة” لها في الحفاظ على العلاقة مع سنّة العراق والإقليم، وتحقيق مواجهة ناجحة مع مفهوم “ولاية الفقيه”4 في الإستراتيجية المطروحة في إيران والتيارات المساندة لها.
1ولقد سميت أيضاً لجنة بيكر-هاميلتون، أو لجنة بيكر، وكانت تتألف من عشر شخصيات يعيّنها الكونغرس الأميركي ولقد كلّفت بوضع تقييم مستقل للوضع في العراق
2مؤسسة أميركية غير ربحية تهدف إلى تحسين السياسة وتصويب عملية اتخاذ القرارات عبر التحليل والبحوث
3“الحرب من الطراز الرابع” (بعد الحرب التقليدية في ساحات القتال، و الحرب المستندة الى كثافة النيران، والحرب المستندة إلى القدرة على المناورة الاستراتيجية) هذه الحرب ترمز الى الثورة المعلوماتية تسعى إلى تجنيد مجموعات شعبية بأسرها في مجابهة تشمل كافة المجالات، السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. والهدف منها تدمير المنظومة الذهنية للعدو وقدراته التنظيمية، وهي حرب غير متماثلة من حيث القوى المتصارعة، تتصدى فيها التقنيات العالية لمجموعات مبعثرة، دينية كانت أم قومية أم مجموعات تربطها مصالح معينة.
4وضع هذه النظرية الإمام الخميني ومنح بموجبها للملالي سلطات واسعة للغاية، وهي نظرية توجه دفّة القيادة الإيرانية ، إلا أنها تتعرض مع ذلك للنقد من بعض المراجع الشيعية.