بيروت، بين الكابوس الحَضَريّ والأحلام الطوباوية

مدينةٌ مأزومة أم مدينةٌ استثنائية؟ هذا الاستفهام يُثقِلُ منذ ثلاثة عقودٍ على مخيّلة بيروت، وعلى تطوّرها ومجتمعها، ويُنتِج في المقابل أشكالاً من التكيّف والمقاومة.

“في الحديقة” - بيروت
JiPs☆STiCk 11/08/2015

  أطلق الشاعر السوريّ أدونيس، في العام 2003، وخلال كلمة ألقاها في بيروت، سجالاً عندما أكّد أنّ التطوّرات الحالية لمدينة بيروت “تصدر عن نزوات فردية تتطابق مع مصالح معينة تجارية اقتصادية، أو طائفية اجتماعية. وينتج عن ذلك فضاء هندسي ملَوَّث وملَوِّث، إضافةً إلى عشوائيته (...) بيروت هي مدينة بلا مدنية”. هذه الكلمة، على شدّتها، أثارت ردود فعل كثيرة، منها التي صدرت عن الشاعر اللبنانيّ بول شاوول، الذي رد على أدونيس قائلاً بأنه “صحيح أن بيروت هي”أبشع“المدن العربية... إلا أنها ما زالت الهامش الوحيد الذي يمكن أن يتكلم واحد مثلك ضمنه.” أكد شاوول، مع تسليمه بأنّ بيروت مأزومة بالفعل، على استثنائية مدينته، التي بُنِيَت على التنوّع الطائفي، وحرية التعبير، والاقتصاد الحرّ، وأنماط الحياة الحديثة في سياقٍ إقليميٍّ متسلّطٍ ومحافظ. غير أنّ هذا التناقض بين “المدينة المأزومة” و“المدينة الاستثنائية” يُثقِل منذ ما يناهز ثلاثة عقودٍ على مخيّلة بيروت، وعلى تطوّرها ومجتمعها، وفي الوقت نفسه، يُنتِج أشكالاً من المقاومة والتكيّف.

خيبة الأمل واللامبالاة

هذا التناقض الذي فرض نفسه بصورةٍ خاصةٍ على إعادة إعمار المدينة، وهو أمرٌ شرعت بتنفيذه منذ عام 1994 شركة عقارية خاصة (الشركة اللبنانية للتنمية وإعادة الإعمار – سوليدير)، ساهم في تعزيز تصدعين يُثقِلان بقوّةٍ على حاضر العاصمة، فينتجان في الوقت عينه انقسامات اجتماعيةٍ- مكانية، ويؤديان إلى عدم اكتراث سياسي. الصّدع الأول صدع بين مركز المدينة التجاري (وسط البلد) الذي استحوذت عليه شركة سوليدير، من جهة، والذي خُصِّصَ جزئياً للزبائن الخليجيين الأثرياء، والذي صعب عليه أن يقوم “بمهمّة المركز” بالنسبة للبنانيين – وبين ما تبقّى من مناطق أخرى في بيروت والتي تُرِكَت إعادة إعمارها لمبادرات المتعهّدين الخاصّين الكُثُر من جهةٍ أخرى. نتائج هذا التطوّر المزدوج معروفة: تصحّر وسط البلد، والتغيير الطبقي في المناطق الحضرية gentrification، وتدمير الأحياء المركزية ثم اعادة إعمارها، وإضعاف قدرة الطبقات الوسطى والشعبية على البقاء في المدينة.

الصّدع الثاني هو ذاك الذي نشأ بين سكان المدينة والبلدية التي لطالما اعتمدت على سياسة التخلّي عن مهماتها العامة لصالح شركات خاصة. تعمّق هذا الصّدع أكثر نتيجة عدم اقتراع اللبنانيين بالضرورة في مناطق إقامتهم، ما أدى إلى فكّ للارتباط مع البلدية وأزمة ثقةٍ سياسية تمثلت في نسبة اقتراع متدنية جداً (20% هي نسبة المشاركة عام 2016).

هكذا، تطوّرت بيروت في غياب التخطيط الحَضَريّ، وبدون سياسةٍ حَضَريةٍ اندماجية، ومن غير ضوابط مؤسساتية وقانونية. توالت عمليات التدمير وإعادة الاعمار، فتمّ التفريط بالانسجام المعماريّ القديم من أجل تلبية متطلّبات الحصول على مردودٍ مالي فوريّ. وبالتالي ارتفعت أبراجٌ سكنيةٌ تماثل نموذج المساكن الموصدة (gated communities)، فكانت بديلةً عن الأحياء العتيقة وحلّت محلّها، مثل الأشرفية، ورأس بيروت، وزقاق البلاط، فغيرت أو دمّرت المناظر المألوفة وأنواع الأنس والتخالط الاجتماعي التي قد تكون مرتبطةً بها، وأمست الطرقات والأرصفة والشوارع مكتظةً بالسيارات، محوّلةً المشهد إلى مشهد فسحاتٍ متداعيةٍ وملوّثة وفوضوية.

في هذا السياق، نشهد منذ ما يقارب العشر سنواتٍ نوعاً من أنواع انطواء القاطنين في بيروت على فضاءاتهم الخاصة. فالخارج صار يُنظَر إليه على أنه عدائيّ. شرفات الشقق، التي كانت يوماً مجالاتٍ للتواصل مع الجيران، أُغلِقَت وحُوِّلَت إلى غرفٍ مكتملة؛ أصبح التنقّل على الأقدام نادراً، والسيارة الحاضرة في كلّ مكان، أصبحت امتداداً حقيقياً لمكان السكن. الممارسات الاستهلاكية تُحفَر أكثر فأكثر في الفضاءات المحمية أمنياً مثل المراكز التجارية الكبيرة على حساب الأعمال التجارية الصغيرة في الحيّ.

هذا الطغيان للخاصّ على العامّ عبّر عن نفسه بقوةٍ أثناء أزمة النفايات في عامَي 2015 و 2016، إذ اكتفى قاطنو الأحياء المركزية، عملاً بمبدأ “ليس في فنائي الخلفيّ” (not in my backyard)، بقرار نقل القمامة إلى خارج بيروت، بدون أن يصرّوا، مع ذلك، على حلّ المشكلة بشكلٍ دائم.

ردود الفعل المتناقضة

لكن، في مواجهة هذه الأزمة الحَضَرية، نشأت ردود فعلٍ عديدةٍ على الرغم من الرخاوة من جهة البلدية وخيبة الأمل السياسية، يمكن استحضار بعضٍ منها بشكلٍ سريع.

الخبرات التقنية

برزت المشاريع الصادرة عن عالم الخبرة الحَضَرية، ولكنها بقيت في أكثر الأحيان غير مُطبَّقَةٍ أو غير قابلةٍ للتطبيق. هذا ما حصل مع البرنامج الطموح لمبادرة “بيروت مدينتي”، الذي صدر عن خبراء تقنيين وأساتذة جامعيين، وتضافرت فيه اختصاصاتٌ متعدّدة، ولم يدخل حيّز التطبيق لأنّ اللائحة لم تحرز الفوز في الانتخابات البلدية في أيار 2016. الأمر نفسه ينطبق على مشاريع إعداد المساحات العامّة، التي تمّ تطويرها في إطار تعاونٍ دوليٍّ بمبادرةٍ من المجلس البلديّ. هذه المشاريع الجذّابة تقترح تجهيز ممرات المشاة وممرات الدراجات، والدروب والمناطق الخضراء التي تسهّل التنقل الآمن في المدينة، ولكن يصعب تحقيقها لأنها تفترض حصول تحوّلٍ جذريٍّ في الأساس الاجتماعيّ والحَضَريّ، أو وجود إرادةٍ سياسيةٍ ما زالت متخاذلةً حتى الآن.

الفضاءات الافتراضية العامّة

في غياب قدرة المحافظة على المساحات العامة أو إنشائها، يلجأ بعض سكان المدينة إلى خلق فضاءاتهم الافتراضية الخاصة. وتشكل هذه الفضاءات المستحدثة نوعاً من صورةٍ مثاليةٍ لبيروت أو شكلاً من أشكال التعويض عمّا فُقِد. على هذا النحو، تقوم بعض مواقع الإنترنت. بمشاركة صورٍ لبيروت قبل الحرب (صورٌ فوتوغرافيةٌ من الأرشيفات، وبطاقاتٌ بريدية)، وحكاياتٍ عن النزهات القديمة التي كانت تحصل في المدينة، ويعكس هذا الاسترجاع حنيناً لبيروت التي لم تعد موجودة. هذه الصور تعيد الإنسان إلى ذكرياتٍ شخصيةٍ أو إلى ذاكرةٍ مشتركةٍ بين الأجيال، ترتبط بأماكنَ اختفت من الوجود أو تحوّلت (مثل ساحة الشهداء). وهنالك مبادرات أخرى تقدّم مشاهدَ مجتزأةً وخدّاعةً لبيروت، انطلاقاً من صورٍ التُقِطَت حديثاً، مع ضبط الصورة بشكلٍ مجمِّل، يخفي الصورة الحقيقية لبيروت في محاولةٍ لإظهارها وترويجها بشكلٍ مثاليّ. مشاكل الحاضر تُختَزَل بالشعور بالحسرة على مدينة الماضي، أو تفرَغ من محتواها، أو يتمّ تجاهلها، وأحياناً، إنكارها.

المبادرات المَدَنِيّة

توجد في النهاية مبادراتٌ فرديةٌ أو جماعيةٌ في طور الظهور، استجابةً للطوارئ البيئية، أو للغبن، أو في مواجهة المشاريع الحَضَرية المهيمنة. قد تبدو هذه المبادرات خيالية، وسريعة الزوال، ومعزولة، ومتقطّعة، وأحياناً، منطويةً على قضيّتها، أو عقيمة في سياق مجتمعٍ أصمَّ سمْعَه عن الاقتراحات البديلة التي هي في الواقع أقلّ طوباوية من عددٍ من المشاريع المؤسساتية.

أحلامٌ قابلةٌ للتحقيق

تنشأ قوة هذه التحركات والمبادرات التي يقوم بها المواطنون عن قدرتهم على تنفيذ أشكالٍ من “الطوباوية المحقَّقة بالأفعال” بشكل ملموسٍ ويومي، وهذا مع “تدبّر الأمر” بما هو موجود، بدون السعي بالضرورة إلى تغيير الواقع الحَضَريّ رأساً على عقب، وإنما إعداده وتكييفه، عن طريق إنقاذ ماهو موجودٌ والمحافظة ما تبقّى، كلّ ذلك بالتواصل مع الناس وممارساتهم وتصوراتهم. يمكن عرض بعض هذه المبادرات بشكلٍ سريع.

المنازل المشترَكة

في بداية التسعينيات، حوّل مصطفى يموت المعروف بـ“زيكو”، منزله الكبير في منطقة الصنايع إلى فضاءٍ للفنانين، ثم إلى مركزٍ للجمعيات والمنظمات غير الحكومية مثل جمعية حلم (المؤيدة للمثليين)، والجمعية اللبنانية لديمقراطية الانتخابات، وكذلك جمعية الخطّ الأخضر. لعب هذا المكان، والذي أصبح يعرف منذ ذلك الحين بـ“بيت زيكو”، دور الحاضن والفضاء الحامي لجمعياتٍ تعرّضت أحياناً لعدوانية السلطات. منذ وقتٍ غير بعيد، أبصرت مبادراتٌ أخرى مماثلة النور، مثل “نسوية” أو تجمُّع ضمّة. من أكثر هذه المنازل شهرة، “مانشن”(Mansion)، الواقع في زقاق البلاط، وهو نتيجةٌ للمبادرة التي استهلّها غسان المعاصري، والذي يقدّم نموذجاً للمحافظة على التراث المعماريّ البيروتيّ.

حماية الشاطئ

مدينة بيروت التي تؤوي ميناءً بحرياً، والتي بَنَت ازدهارها وهويّتها على علاقتها مع المتوسط، أصبحت تدير ظهرها للبحر أكثر فأكثر. لم يعُد البحر عنصراً أساسياً من الحياة في المدينة إلا لأولئك الذين يسكنون الأبراج الساحلية العالية (“لأنهم يريدون رؤية البحر، لم يعُد بإمكاننا رؤية السماء” هو المحتوى لشعارٍ احتجاجيٍ عبّرَت عنه جنى طرابلسي، وهي اختصاصيةٌ في الرسم البيانيّ). لم يعد هناك سوى بعض المساحات التي ما زالت تسمح بالوصول إلى حافة البحر بدون شروط، مثل الكورنيش، والشاطئ الشعبيّ في الرملة البيضاء (الذي أصبح مهدَّداً بإنشاء فندقٍ فيه)، ودالية الروشة، حيث يختلط المتنزّهون بالصيادين، وحيث تحتفل المجموعة الكردية بعيد النوروز في كلّ عام. هذا المكان الذي تهدّده الخصخصة لمصلحة المتعهّدين، قد أصبح منذ العام 2013 محوراً “للحملة المدنية لحماية دالية الروشة”، وهو تجمّعٌ للمواطنين، تحرّك من أجل الإبقاء على إمكانية الوصول المجّانيّ إلى البحر، وللمحافظة على العادات والممارسات المرتبطة بهذه المساحة. استند هذا التجمّع في تحرّكه إلى الدراسات القانونية والتأثيرات البيئية، إضافةً إلى التجارب الجماعية لمرتادي المكان.

المتاجر والأسواق البديلة

الفضاءات الاستهلاكية “المعولمة” مثل السوبرماركت والمراكز التجارية تشكّل عناصرَ فعّالةً في تغيير المنظر المديني. أصبح الاستهلاك مؤشّراً اجتماعياً وكاشفاً عن الانشقاقات وانعدام المساواة التي تجتاز المجتمع. في سياق التشديد على ضرورة استرجاع هذه المساحات التي تستحوذ عليها أكثر فأكثر تلك الذهنيات التجارية، أنشأت مبادراتٌ أو تجمّعاتٌ للنشطاء مثل “بدنا نحاسب” أسواقاً بديلةً (سوق الطيّب في وسط المدينة؛ سوق أبو رخّوصة في ساحة الشهداء؛ سوق السبت في أنطلياس، الخ.)، تطمح إلى إعادة الحياة للممارسات التي تحرص على البيئة، ولتحقيق أنماطٍ من الاستهلاك المفتوح والمباشر أمام أكبر عددٍ ممكن للمواطنين.

المواصلات والتنقّل

بوجود الاستعمال شبه الحصريّ للسيارة الفردية (90% من التنقّل داخل المدينة)، يبدو النموذج البيروتيّ للتنقّل غير قابلٍ للحياة. أشكال المواصلات الأخرى الموجودة، مثل الباص، تسترجع تقديرها السابق من خلال أبحاث تهدف إلى التغيير، أو مشاريع للمستخدِمين، مثل “مشروع خريطة الباص للبنان” (Lebanon Bus Map Project). استخدام الدرّاجة الهوائية، الذي يُقَدَّم على أنه خطر، أصبح أيضاً هدفاً لمبادراتٍ فريدة في الشرق الأدنى، مثل “دغري مسنجرز”، الذي يعرض خدمة توصيلٍ سريعة، واتحاد “سايكلينغ سيركل”(Cycling Circle)، الذي ينظّم جولاتٍ ليليةً ترمي إلىمصالحة قاطني بيروت مع مدينتهم، وتشجيعهم على استخدام الدراجة الهوائية في تنقلاتهم.

إذا تجاوزنا التباين والتنوع الظاهرييَن في هذه المبادرات، تنكشف أشكال من التماسك والمجاورة والتشبيك التي تشكّل نواة “الطوباوية القابلة للتحقيق” لم تترسخ بعد، والتي تعتمد على قدرة التحرك التي يملكها جزءٌ من المجتمع القاطن في بيروت. واذا كانت بعضٌ من هذه المبادرات “ضد النظام”، إلا أنّ أكثرها في الحقيقة “خارج النظام”، فهي لا تعتمد على البلدية ولا على تراخيصها، كما إنها لا تعتمد على اللاعبين السياسيين والاقتصاديين الكبار.

في زمن فَقد معظم المواطنين إيمانهم “بالنظام” نتيجة للفساد المستشري وعجز السياسات العامة عن تقديم الحلول، تظهر هذه المبادرات الصادرة عن المواطنين كبدائل وإمكانيات وإنما كذلك كاحتمالاتٍ قابلةٍ للتطبيق. مشاريعٌ طوباويةٌ تتحقق في معظم الأحيان، وهي ترسّخ في الحاضر شكلاً من أشكال الحق بالحلم، الذي ربما يكون الوسيلة الأخيرة لإنقاذ بيروت من التفتّت الحَضَريّ والاجتماعيّ. أوليست الطوباوية إذاً السبيل الأمثل لإعادة تشكيل النسيج الحضري والمدنية باعتماد “المدينة المتخيلة” مرجعاً في هذا الأمر؟ من دون شك، لا يمكن تحقيق هذا الشيء إلا عن طريق مشروعٍ سياسيّ، لا يتبلور حصراً في ردٍّ على استحقاقٍ انتخابيّ، إنما يقوم على وضع مشروع يطوّر أيضاً، وخصوصاً، رؤيةً للمجتمع.

#

هذا المقال نتيجةٌ لحلقات دراسية بعنوان“إمكانيةٌ لبيروت، تصوّراتٌ طوباويةٌ ومبادراتٌ مدنية”، أدارها ونظمها منذ كانون الثاني 2016 كلٌّ من تييري بواسيير وجميل معوّض من المعهد الفرنسيّ للشرق الأدنى (IFPO) في بيروت.