لا يمكن لسنونوة واحدة مهما كبر حجمها أن تجلب الربيع. كذلك هو الحال بالنسبة للصفقة الكبرى التي أبرمتها مجموعة توتال مع إيران والتي ستقوم بموجبها الشركة الفرنسية بتطوير المرحلة الحادية عشرة لحقل غاز فارس الجنوبي. وستسمح هذه الصفقة التي بلغت 4,8 مليار دولار لتوتال بترؤس ائتلاف شركات يضم الشركة الصينية CNPCI والشركة الإيرانية بترو فارس. كما يجعل منها أول شركة بترولية غربية تعود إلى إيران.
بالرغم من ضخامة الأرباح المحتملة فهي مغامرة محفوفة بالمخاطر على توتال. فالشركة التي تُشغّل حاليا 6000 عامل في الولايات المتحدة أعلنت في مارس الماضي عن استثمارات إضافية بقيمة 1,7 مليار دولار قصد تطوير نشاطاتها في قطاع البتروكيمياء المحلي، وقرار استثمارها في إيران يجعلها تحت طائلة العقوبات الجديدة التي تريد إدارة ترامب فرضها على طهران وهي حاليا محل دراسة في مجلس النواب.
وقد تكون هذه المخاطرة هي ما يعطي الصفقة أهميتها لأن توتال بالرغم من احتمالات الخضوع للعقوبات المفروضة من قبل ترامب رأت أنه من المستحيل بالنسبة لها أن تبقى خارج السوق الإيرانية. وهو ما جعلها تحظى بعرفان الحكومة الإيرانية حيث صرح وزيرها للنفط بيجين نامدار زنجنه:"لن ننسى أبدا أن شركة توتال كانت السباقة" .
توتر بين الحكومة والمعارضة
ويُعدُّ توقيع هذا الاتفاق مُهمَّا على أكثر من صعيد بالنسبة للمعتدلين الإيرانيين بقيادة الرئيس حسن روحاني. فهو أول اتفاق يتم حسب ما يُمليه العقد البترولي الإيراني الجديد وهو عقد إطاري كانت الحكومة قد دافعت عنه بحزم في مواجهة المعارضين المحافظين.
وقد انتقد هؤلاء المحافظون بعض الترتيبات التي تحد برأيهم من السيادة الإيرانية في استخراج موارد الطاقة، وهو موضوع حساس حيث ينظر تاريخيا في إيران إلى دور بعض الشركات الأجنبية على أنه مهين لبلادهم. ومن بين هذه الإجراءات إمكانية إعادة التفاوض على السعر في حال حصول تقلبات كبيرة في السوق وكذلك امتلاك الأجانب للأغلبية في الشركات المختلطة. وهو موضوع من الحساسية بمكان إلى درجة أنه أدى ببعض البرلمانيين الإيرانيين إلى المطالبة بمراجعة ما قد يشكل برأيهم “خطرا” على المصالح الوطنية الإيرانية. ومع أن احتجاجاتهم تعد رمزية بحته نظرا لمحدودية سلطة البرلمان فهي تترجم واقع التوتر المتنامي بين الرئيس روحاني والمحافظين.
وكان هذا التوتر قد تراجع قليلاً إثر العملية الإرهابية المزدوجة التي نفذها تنظيم الدولة الإسلامية في طهران ضد مرقد الإمام آية الله الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية و ضد مقر البرلمان، وهما رمزان مُهيبان للسلطة السياسية الإيرانية، لكنه عاد بقوة بعدما انتقد حسن روحاني دور حراس الثورة الاسلامية في الاقتصاد حيث ذهب إلى حد اتهامهم بتشكيل “حكومة مسلحة” والإضرار بعودة المستثمرين الأجانب.
كما أن إبرام هذا العقد الضخم مؤخراً قد أجج التوتر الذي نشأ أساساً بين فصيلين من الإيرانيين خلال مناقشة العقد البترولي الإيراني. فمن جهة هناك المدافعون عن فكرة “اقتصاد المقاومة” المفضلة لدى المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي الذي يحث على الريبة تجاه الشركات الأجنبية وعلى تنمية طلب داخلي يرتكز على الشركات العمومية أو شبه العمومية المقربة من السلطة؛ ومن جهة أخرى هناك القوى التقدمية المعتدلة والإصلاحيون الذين يرون أن إعادة بعث الاقتصاد لا يمكن أن يحدث دون وصول مكثف للرساميل الأجنبية. مع الإشارة إلى أن الخط الفاصل هذا يتجاوز الانقسام التقليدي بين المعتدلين والمحافظين. إذ أن جزءاً من حراس الثورة الإسلامية ومن رجال الدين يدعم سياسة الانفتاح الحكومي التي سمحت لهم بزيادة مداخيلهم ونفوذهم
وليست ثمة وسيلة أمام روحاني للتخفيف من الانتقادات الموجهة إليه ومن وشدّتها سوى أن يزيد من العقود البترولية والغازية . لكن سوق الطاقة وخاصة السوق البترولية وصلت اليوم الى حالة تشبع؛ كما أن تقنية التصديع المائي ـ وهي تقنية تسمح باستخراج البترول بشكل أكثر نجاعة من الصخرـ حوّلت وجهة المستثمرين عن الشرق الأوسط المتّسم بانعدام نسبي للاستقرار، حولتها نحو صناعة الاستخراج في شمال أمريكا.
هل من عائدات على عامة الشعب؟
ولذلك يعد هذا العقد فريدا من نوعه على عدة مستويات، كما يبدو احتمال التوقيع على عقد آخر بنفس الأهمية في آجال قريبة ضعيفا جدا. وإن كانت شركة توتال قد تمكنت من توقيع هذا العقد بهذه السرعة بعد إنهاء العقوبات الدولية ضد البرنامج النووي الإيراني في 2016 فذلك يعود إلى علاقتها التاريخية مع طهران. فقد سبق في 2004 أن وقعت الشركة الفرنسية بعد سنوات من التفاوض على عقد يتعلق بحقل الغاز فارس الجنوبي. ثم اضطرت توتال إلى توقيف استثماراتها إثر مشاركة الحكومة الفرنسية في تشديد العقوبات الدولية ضد إيران في 2012.
ويعود نجاح توتال إلى معرفتها الجيدة بإيران والقوى الفاعلة من سياسيين وتجار وكذلك درايتها بأساليب الإدارة وفن التفاوض على الطريقة الإيرانية. وهو أيضا نجاح "شبكة معارف توتال" داخل الجمهورية الإسلامية وتجنيد مسؤولي الدولة الفرنسية بمن فيهم الرئيس ماكرون الذي استقبل وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أياما قليلة فقط قبل التوقيع الرسمي على العقد.
وبالرغم من جسامته لا يشكل هذا العقد إلا قطرة في بحر الاستثمارات الضرورية لتجديد الاقتصاد الايراني. وحسب وزير النفط بيجين نامدار زنجنه يتطلب قطاع الاستخراج وحده 200 مليار دولار من الاستثمارات خلال الخمس سنوات القادمة قصد مباشرة الاستخراج من الاحتياط الغازي المؤكد الذي يقدر ب 33800 مليار متر مكعب.
ورأى المواطنون الإيرانيون في إمضاء هذا العقد إشارة إيجابية تؤكد أن السياسة الحكومية بدأت أخيرا تجني ثمارها الأولى، لكن هذا العقد يمتد على 20 سنة ولا يخص سوى تنمية حقل غازي بحري واحد. لذا لن يرى الإيرانيون ثماره إلا بشكل غير مباشر شريطة أن تقرر الحكومة استثمار جزء من ال 72 مليار دولار من موارد الغاز المرتقبة في قطاعات أخرى من الاقتصاد أو المرافق الحكومية. كما ستكون فوائده مؤجلة نسبياً كون الغاز المنتج “لن يزود السوق الإيرانية الداخلية إلا ابتداء من”2021"حسب متحدث من شركة توتال.
ويساهم هذا العقد في استراتيجية الحكومة الإيرانية في توجيه عائدات الاستثمارات الأجنبية في الخارج نحو قطاع استخراج الموارد الأولية والصناعة بشكل أساسي. وقد احتكر هذان القطاعان لوحدهما42% من 12,5 مليار دولار من الاستثمارات المسجلة خلال سنة 2016. وبالرغم من كون هذه السياسة مفهومة نظرا لأهمية هذه القطاعات في تشكيل إجمالي الناتج المحلي الإيراني فاستثماراتها على المدى البعيد لن يكون لها كبير الأثر على حياة المواطنين الإيرانيين خاصة في تقليص نسبة البطالة. وهو ما قد يؤدي بالمواطنين إلى رفع سقف مطالباتهم وزيادة الضغط على الحكومة.
تهديد للتيار المحافظ
ويتجاوز التدهور السريع للعلاقات بين الرئيس روحاني والنخب المحافظة الدينية والعسكرية منها مسألة العقد البترولي الإيراني. ومن التقليد في إيران إعادة انتخاب الرؤساء لولاية ثانية ولكن هذه الأخيرة تتميز دوما بتفاقم التوتر بين الرئيس والمرشد الأعلى. وهكذا تفرض السلطة الإيرانية استقرارا مؤسساتيا وتَحُولُ في نفس الوقت دون بروز رجال أقوياء لهم مهابة وقدرة على مواجهة المرشد الأعلى باستقطابهم حركة المعارضة.
ولأن الرئيس انتخب بنسبة 57% من الأصوات ـ أي بزيادة 7% عن الولاية الأولى ـ مع نسبة مشاركة وصلت إلى 73% أصبحت السلطة ترى في حسن روحاني خطرا ضمنياً. فبالرغم من الحملة العدائية العنيفة ضد روحاني تحولت هذه الانتخابات إلى تزكية لعمل الحكومة منذ توقيعها على الاتفاق النووي بين إيران وأعضاء مجلس الأمن للأمم المتحدة ( الولايات المتحدة، روسيا، الصين، المملكة المتحدة وفرنسا) + ألمانيا في 2015. وهي تمثل أيضا تكليفا واضحا بتسريع وتيرة الإصلاحات الاجتماعية الإيرانية وتعميقها.
وهكذا أصبح روحاني يمثل تهديداً للمحافظين لأن الدعم الشعبي المتنامي الذي يحظى به قد يجعل منه شخصية مِحْورية في اختيار المرشد الأعلى القادم عند وفاة آية الله خامينئي الذي احتفل ب عامه 78 في 17 يوليو/ تموز الحالي. وإذا كان البعض يتكهن للرئيس بمصير أكبر نتيجة لشبابه النسبي (68 سنة) وطبعه التوفيقي وعلاقاته الجيدة مع المجتمع الدولي فمن الصعب التصور أنه قد يصبح هو المرشد الأعلى القادم. غير أنه يستطيع أن يمارس تأثيرا حاسما في اختيار الرجل القوي القادم.
وخلافا للرئيس الإيراني السابق الهاشمي رفسنجاني فهو لن يحث على إنهاء نظام ولاية الفقيه ـ وهي العقيدة التي سمحت بالتبرير الديني لاستحواذ رجل واحد على الدولة ـ و هو لن يدعو لإرساء حَوْكمة جماعية، لكن روحاني قد ينجح في فرض رجل دين معتدل.
ولن يريح مثل هذا التعيين أتباع تغيير النظام مثل المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية المثير للجدل ولا أنصار التأثير على الإدارة الأمريكية عبر بعض الصقور الجمهوريين أمثال السيناتور جون ماك كين وعمدة نيويورك السابق رودولف جيولياني.
ولكن وصول رجل دين معتدل إلى منصب المرشد الأعلى من شأنه تدعيم استقرار المؤسسات الإيرانية مما يضمن ديمومة هذه الديمقراطية المعقدة في طورها الأول . كما يسمح بالتحكم بالقوى الإثنية الانفصالية ومكافحة الإرهاب والتطرف السني وأيضا محاربة المتاجرة بالمخدرات القادمة من أفغانستان.
ولعل تجنب انهيار البلد هو أولوية ترتبط بقدرة حسن روحاني على تنمية الاقتصاد الإيراني وتقديم إجابات ملموسة لطموحات الشباب والنساء في إيران.