داغستان تحت رقابة موسكو أكثر من أي وقت مضى

بعد عودتها إلى القبضة السياسية للكرملين وتطهيرها من الإرهاب الإسلامي، تأمل داغستان وهي الجمهورية الأكثر سكانا في شمال القوقاز، تعزيز تطورها الاقتصادي الهش ضمن الفدرالية الروسية. يتم ذلك تحت مراقبة متزايدة من موسكو التي تعتبرها منطقة استراتيجية على المستوى العسكري ولتأمين طرق نقل طاقتها.

ملصق يظهر فيه فلاديمير بوتين مع فلاديمير فاسيلياف، الذي يوجد اليوم على رأس جمهورية داغستان، في مدينة دربند غير بعيد عن أذربيجان.
حقوق الصورة: أرتور فوشار.

أطلق الكرملين في 2 فبراير/شباط 2018 عملية تطهير غير مسبوقة ضد حكومة جمهورية داغستان، تم على إثرها سجن عدد من الوزراء ومنتخبي العاصمة محج قلعة، بتهمة الفساد. كانت داغستان -وهي إحدى الجمهوريات الـ29 للفدرالية الروسية- تتمتع باستقلال إداري واسع منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، وقد اعتمدت بصفة واسعة -نتيجة قلة تنوع اقتصادها الذي كان ضحية تراجع التصنيع1، على تحويلات الميزانية الفدرالية. وهي تمثل 70% من الميزانية السنوية للجمهورية، أي أن ما يقارب المليار دولار في السنة يأتي من موسكو. ولكن باختلاسهم للأموال العامة، جلب قادة داغستان على أنفسهم غضب موسكو. وما انفك الفساد المستشري يتفاقم في وقت كانت التوترات الأمنية تهز الجمهورية الروسية الأكثر سكانا في شمال القوقاز (ثلاثة ملايين نسمة).

أدت الحرب الثانية بالجارة الشيشان (1999-2009) التي أشعلتها موسكو بعد غزو قرى داغستانية من طرف متمردين جهاديين شيشان2، إلى زعزعة الوضع في داغستان بين 1999 و2015، ما أسفر عن تدهور سمعتها وسنوات من الركود الاقتصادي.

كما ترتب عن إقامة “إمارة القوقاز” في 2007 من طرف دوكو عوماروف -أحد أمراء حرب الشيشان المنحدر من الفصيل الإسلامي للانفصاليين والذي كان يريد فرض الشريعة على مجمل شمال القوقاز- زيادة توغل الإرهاب الذي كان يستهدف بصفة شبه حصرية القوى الأمنية. وأدت عمليات مكافحة الإرهاب العديدة خلال عشر سنوات إلى زعزعة وضع قرى بأكملها وإضعاف السكان وهم بنسبة 85 % مسلمون، أغلبهم من السنة الشافعية ذات التقاليد الصوفية. وقد خلف العنف في داغستان بين 2010 و2018 سقوط 3600 ضحية، وفق معطيات “كافكاز-أوزال”، الوسيلة الإعلامية المستقلة للمنظمة غير الحكومية الروسية “ميموريال” (يشمل هذا الإحصاء النشطاء الجهاديين).

خريطة شمال القوقاز
(ويكيميديا كومنز)

رجل بوتين على رأس البلاد

قبل فترة قليلة من إعادة انتخابه في 2018، وضع فلاديمير بوتين على رأس داغستان فلاديمير فاسيلياف، والذي يعد أول رئيس جمهورية منذ 1948 غير مسلم ولا ينحدر من إحدى المجموعات العرقية الداغستانية الكبرى. هذا المسيحي الأورثودوكسي هو بالفعل روسي من أصل كازاخي. وهو عضو في حزب “روسيا الموحدة” ونائب سابق في الدوما بين 2003 و2017. وقد كلفته موسكو باستعادة “النظام” في الجمهورية على المستوى السياسي والمالي والأمني.

بالنسبة للمجال الأمني، يستفيد فاسيلياف من تراجع الإرهاب الذي كان قد بدأ في الانحصار ابتداء من 2014، تحت حكم سلفه رمضان عبد اللطيفوف (2013-2017) والذي عوقبت حكومته من طرف موسكو بعد أشهر قليلة من استقالته. ففي حين كانت إمارة القوقاز في تراجع، اتخذ عبد اللطيفوف منعرجا قمعيا أثار انتقادات كثيرة بخصوص شرعيته ونجاعته. وقد أدى هذا المنعطف إلى إنهاء مسار حوار مع المتدينين السلفيين الورعين المعروفين بـ“المعتدلين” والرافضين لاستعمال العنف.

وقد استهدفتهم السلطات رغم أنهم لا يمثلون سوى 1,5% من السكان، من خلال عمليات تفتيش واعتقالات تعسفية عند أبواب المساجد، تقتيل وتجاوزات. وفق العديد من الملاحظين، لم يترتب عن هذا النهج سوى تغذية روح الانتقام وتطرف المئات من الشباب الذين كانوا نادرا ما يمارسون الصلاة أصلا، والذي التحق أغلبهم بتنظيم الدولة الإسلامية التي أعلنت إمارة القوقاز ولاءها له في 2015.

يؤكد المختص من أصل داغستاني أحمد يارليكابوف: “بضغط من موسكو وقبل ألعاب سوتشي الأولمبية في 2014، قامت السلطات المحلية والفدرالية بشكل غير رسمي -وفي بعض الأحيان فرضت ذلك درءا لكل مجازفة- بتشجيع كثير من الداغستانيين المتشددين أو شبه المتشددين على الذهاب إلى سوريا. وحسب الكرملين، سافر 1500 عنصر لكن عددهم قد يصل في الواقع إلى خمسة آلاف!”. وأعقب ذلك العديد من الهجمات التي تبناها تنظيم الدولة الإسلامية بين 2014 و2018. ولكن تدريجيا، تراجعت حالة انعدام أمن في إقليم داغستان.

يتبنى اليوم فاسيلياف موقفا توفيقيا تحت إملاء موسكو مع إنشاء هيئة للوقاية من التطرف وإعادة التوطين من سوريا. لكن من الناحية العملية، مازال منع السلفية قائما، على غرار ما هو قائم في الشيشان وعكس إينغوشيا. وتفرض هذا المنع المديرية الروحية في داغستان، وهي الهيئة التي تمثل تاريخيا “الإسلام الرسمي” منذ الحقبة السوفيتية والمكلفة بتسجيل الشعائر. وهي هيئة صارت لا تتحكم سوى في نصف التنظيمات الدينية في حين اضطرت الأخرى للعيش في سرية.

المسجد الرئيسي لمدينة خاسافيورت، غرب داغستان، على بعد كيلومترات من جمهورية الشيشان.
حقوق الصورة: أرتور فوشار.

بحر قزوين، رهان استراتيجي

لا ينوي الكرملين فرض الانضباط على الحكومة وتعزيز الاستقرار الأمني في داغستان فحسب. فالجمهورية تمثل فعليا بالنسبة لموسكو محيطا استراتيجيا على النطاق الإقليمي (القوقاز، الشرق الأوسط، آسيا الوسطى). ويشهد على ذلك التحويل الجاري للقاعدة البحرية لآستراخان الموجودة على نهر الفولغا، على بعد حوالي 100 كلم من مصبه في بحر قزوين، وعلى بعد 200 كلم شمال داغستان، نحو كاسبيسك على الساحل الداغستاني، وبضعة كيلومترات جنوب العاصمة محج قلعة.

تسمح إعادة التوطين هذه بتعويض الأشهر الستة السنوية من تجمد المياه الصالحة للملاحة في منطقة آستراخان وتعزيز مكانة القوة البحرية الروسية في المنطقة. يتم ذلك في سياق الاتفاقية الخاصة ببحر قزوين لـ12 أغسطس/آب 2018 (والتي تم التصديق عليها في أكتوبر/تشرين الأول 2019). ويحظر بموجب هذه الاتفاقية في بحر قزوين تنقل السفن التي لا تحمل راية إحدى الدول المشاطئة له (روسيا، كازاخستان، تركمانستان، إيران وأذربيجان).

كما يسمح أيضا الموقع الجغرافي الجديد لهذه القاعدة البحرية بتسهيل القيام بعمليات عسكرية محتملة. وقد كانت هناك سابقة تمثلت في إطلاق صواريخ جوالة استهدفت الأراضي السورية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2015 انطلاقا من سفينة حربية راسية في بحر قزوين. وأخيرا وعلى الرغم من التوترات القائمة بين الدولتين بخصوص الإطار القانوني لبحر قزوين، يسمح انتقال القاعدة هذا بتقريب روسيا وإيران سواء على المستوى التجاري (عبّارات جديدة) أو على المستوى العسكري. وهو ما يمثل رمزا قويا لتعزيز السيطرة على داغستان من طرف السلطة الفدرالية والتي يمكنها أن تستند فضلا عن ذلك إلى الحجة الاقتصادية: إحداث ديناميكية للحاضرة المستقبلية (محج قلعة-كاسبيسك)، والتي تثير مشاهدة تمددها اليومي الدهشة.

ترميم ساحة البرلمان في العاصمة محج قلعة حيث يوجد نصب للينين.
حقوق الصورة: أرتور فوشار.

تأمين خطوط الأنابيب

تمر عبر داغستان منذ عقود طرق نقل المواد الخام التي تعتمد عليها موسكو وتحرص على تأمينها مثل خط أنبوب الغاز موزدوك (اوسيتيا الشمالية-روسيا)-كازيماغوماد (أذربيجان) مرورا بمحج قلعة، وعلى الخصوص خط أنبوب النفط باكو-نوفو روسيسك. ويبلغ طول هذا الخط 1330 كلم ويتم تسييره بصفة مشتركة من طرف الشركة الروسية ترانزنفط والأذرية صوكار، كل واحدة على مستوى أراضيها. ويربط هذا الخط منذ 1997 عاصمة أذربيجان بالساحل الروسي على البحر الأسود مرورا بمحج قلعة وغرب داغستان. عملت موسكو على إعطاء نفس جديد لهذا الخط في 2010، الذي صار منذ 2006 في منافسة مع الخط باكو-تبيليسي-جيهان الموجه إلى تركيا وأوروبا، وذلك عن طريق ضخها فيه نفطها الآتي من الحقل البحري يوري كورتشاغين، وهو الأول الذي تستغله روسيا في بحر قزوين.

يعد ميناء محج قلعة الذي يوجد في مفترق طرق هذه الأنابيب حلقة أساسية لاستقبال الناقلات وضمان النقل نحو الغرب للطاقات الأحفورية الروسية وكذلك الكازاخية والتركمانية. قبل وصوله لهذا الميناء يتم شحن النفط الكازاخي بآكتاو على الشاطئ الشرقي لبحر قزوين، غير أن محتواه الغني بكبريتيد الهيدروجين أدى خلال السنوات الأخيرة إلى الحد من الكميات الموجهة إلى داغستان.

أما الذهب الأسود التركماني القادم من ميناء توركمان باشي فهو يمثل رهانا لا يستهان به بالنسبة لروسيا. عادت الاتفاقات التجارية في ديسمبر/كانون الأول 2019، بعد توقيفها لمدة أربع سنوات في أعقاب فضيحة سرقة النفط سهلتها شركة شحن “دانيافط بروديكت”، ويمثل ذلك عنصرا هاما في إعادة تنشيط ميناء محج قلعة ومنافذ التصدير في خطوط الأنابيب الروسية.

لعبة مزدوجة

في الواقع، تبقى إمكانات داغستان النفطية متواضعة. فهناك العديد من الآبار الصغيرة ذات الاحتياطات المنخفضة ولا توجد حقول كبيرة مربحة بما يكفي من حيث التنقيب للسماح بتطوير البنية التحتية. كما لا توجد مصفاة كبيرة ولم يكف الإنتاج عن الانخفاض منذ 1991، في حين تحتفظ الشركات الروسية العملاقة عبر فروعها (روز نفط-داغ نفط) بالسيطرة على المستثمرات ذات الحجم المتوسط

يرى ميخائيل تشرنيتشوف، الباحث بمعهد شؤون السوق في الأكاديمية الروسية للعلوم، أن القطاع الغازي يوفر آفاقا أكثر أهمية. ويشرح قائلا: “بالفعل، احتياطات الغاز أكثر أهمية ويمكنها أن تسمح للجمهورية بتحقيق الاكتفاء الذاتي لعقود عديدة”.

ولكن أمام احتكار سوق الغاز من قبل المجموعات الروسية (غازبروم أساسا)، والتي لها فائض في الإنتاج، تضطر داغستان إلى استيراد أكثر من 70% من الغاز ذو الاستعمال المنزلي والصناعي من حقول سيبيريا، معرضة نفسها هكذا إلى مديونية هائلة تزيد من تبعيتها لموسكو. صحيح أن الرئيس عبد اللطيفوف قد تحصل في 2014 من الكرملين على إمكانية إنشاء كيان مستقل، الشركة الحكومية للنفط والغاز لجمهورية داغستان، ولكنها في الواقع ما تزال مجرد قوقعة فارغة، وفوق ذلك هي مثقلة بالديون ولم تنجح أبدا في جذب اللاعبين الأجانب.

ويبدو هكذا أنه خدمة لمصالحها الخاصة وحفاظا على ربحية استثمارات الشركات الفدرالية، عملت موسكو على تجميد التنمية الصناعية والاقتصادية للجمهورية. ويرى العديد من الخبراء منذ عقدين أن الكرملين شجع حالة من التبعية من خلال عمليات تحويل الميزانيات وكبح الانعتاق الاقتصادي لداغستان قصد تجنب أي نزعة استقلالية. ولكن يجب تناول هذه الأطروحة بحذر على الرغم من الأهمية التي تشكلها داغستان بالنسبة لموسكو، وعلى الرغم من أن تنمية واستقرار جمهورية داغستان لا يزالان مرتبطين أكثر من أي وقت مضى بتبعية متزايدة تجاه السلطات الفدرالية.

في دربند، هجر الساحل القزويني يشير إلى انعدام الاستثمار في السياحة.
حقوق الصورة: أرتور فوشار.

خلافا للشيشان المجاور لم تعبر داغستان أبدا عن ميول انفصالية، ويعود ذلك أساسا إلى تركيبة سكانها. فهي فسيفساء من ثلاثين عرقا وعدد من اللغات. وقد أظهر هؤلاء السكان في العموم وحدة أمام زعزعة استقرار البلاد من طرف مناضلين شيشان في 1999. غير أن غياب الثقة تجاه الكرملين والنخب المحلية الفاسدة والتي تجسدها المجموعات العرقية الرئيسية الثلاث في داغستان3 قد تؤدي إلى زعزعة هذا التوازن. ولكن منذ تراجع التوترات الأمنية، يتطلع الشعب الداغستاني -بدون أوهام مفرطة- إلى المضي قدما. فالتحديات لا تزال كبيرة: الاستثمارات في الصناعة وإنعاش السياحة ومكافحة البطالة التي تصل إلى نسبة 25% وإعادة النظر في النظام الجبائي ومحاربة ضروب الاحتيال المرتبطة بتصاريح البناء، وتوزيع الأراضي ...

1كانت داغستان خلال الحقبة السوفييتية منطقة صناعية هامة خاصة بالنسبة للصناعة العسكرية.

2من 9 أغسطس/آب إلى 11 سبتمبر/أيلول 1999 خاصة في قرى كاراماخي وشبنماخي في منطقة كادار.

3تعد الآفار والدارغوين والكوميكس المجموعات العرقية الرئيسية الثلاث في داغستان.