ديغول:“اليهود، هذا الشعب الواثق من نفسه، الميّال للسيطرة”

حزيران 1967، حرب الأيام الست التي لا تنتهي · فور اندلاع حرب حزيران/ يونيو 1967، أدان الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول إسرائيل لمبادرتها بالهجوم. هذا الموقف الذي كان مخالفاً لمواقف أغلب المسؤولين السياسيين ووسائل الإعلام والرأي العام كلّف ديغول انتقادات عدّة من بينها اتهامات بمعاداة الساميّة.

الصورة تمثل شخصية سياسية معروفة، حيث يظهر رجل يرتدي بدلة رسمية وهو يتحدث أمام ميكروفونات موضوعة على طاولة. يبدو أنه في لحظة خطاب أو مناقشة، ويعبر عن نفسه بإيماءات يد واضحة. خلفه يوجد جدار بسيط مما يشير إلى بيئة رسمية مثل قاعة مؤتمرات. الطابع العام للصورة أسود وأبيض، مما يضيف لمسة تاريخية.
Keystone/CVCE (cvce.eu).

هل هو احتفال رسمي؟ تجمّع غفير شبه ديني ؟ عرض مسرحي؟ كانت المؤتمرات الصحافية التي يعقدها رئيس الدولة، الجنرال ديغول، تخضع لمَراسم محسوبة بدقة وطقوس مهيبة تليق بالشخصية التي تظهر فيها. في ذلك اليوم من تشرين الثاني/نوفمبر 1967، كان رئيس الجمهورية قد جمع أكثر من ألف صحافي فرنسي وأجنبي في قصر الإيليزيه. وبأسلوب مَهيب، لا يخلو من الشاعرية، عرض الجنرال رؤيته للإصلاحات المُنجزة في فرنسا تحت إشرافه والتحوّلات العميقة التي عمل على تحقيقها. كما دعى إلى أن يصبح دستور الجمهورية الخامسة “طبيعة (الفرنسيين) الثانية، سياسياً”. وفي عالم منقسم بسبب الحرب الباردة والأزمات، خصّص ديغول مساحة واسعة للمسائل الدولية. ولعلّ أكثر الأزمات تهديداً للسلم العالمي كانت تدور آنذاك في فيتنام حيث كان أكثر من 400 ألف جندي أميركي في الميدان. كما تطرّق إلى رحلته إلى الكيبيك في كندا، وشرح تصريحه “يحيا الكيبيك الحر”، فيما .أعرب عن رفضه انضمام المملكة المتحدة إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية، وعن قلقه من أزمة النظام المالي العالمي

“لن نسمح بتدميركم”

وبطبيعة الحال، لم يكن بإمكانه بعد ستة أشهر من الحرب العربية ـــ الإسرائيلية في حزيران/يونيو 1967 أن يتجاهل الشرق الأوسط.

في 22 أيار/مايو تسببت مصر للأسف بقضيّة خليج العقبة مقدمةً بذلك ذريعة لمن كان يبحث عن ذريعة. وكانت الحكومة الفرنسية قد أعلنت رسميّاً في 2 حزيران/يونيو أنّها ستُحمّل المسؤولية لأيّ طرف يبادر بالهجوم المسلّح. وهو ما كرّرَته بكل وضوح لكل الدول المعنيّة، وما قلته بنفسي في 24 أيار/مايو للسيد أبا إيبان، وزير الخارجية الإسرائيلي الذي التقيته في باريس؛ إذا ما هوجمت إسرائيل فإنّنا لن نسمح بتدميرها ولكن إن أنتم هاجمتم فسوف نُدين مبادرتكم. من المؤكّد، أنّكم إذا قمتم بذلك فستظفرون بنجاحات عسكريّة، إذ أنّكم، ورغم القلّة العددية لشعبكم، أكثر تنظيماً وأكثر تكتّلاً وأفضل تسلّحاً من العرب. لكنّكم ستجدون أنفسكم فيما بعد متورّطين على الأرض وفي مأزق متنام في نظر المجموعة الدولية لاسيما أنّ الحرب في الشرق لا يمكن إلّا أن تزيد من التوتر المؤسف في العالم وأن يكون لها عواقب وخيمة على بلدان عديدة. كما ستُنسَب لكم شيئاً فشيئاً كل السيّئات، بصفتكم أنتم الغزاة. نعرف اليوم أن صوت فرنسا لم يُسمع، إذ قامت إسرائيل بالهجوم، محقّقةً الأهداف التي أرادتها في ستّة أيّام.

وبعدما كرّر ديغول إدانته لهذا الهجوم، ذكّر بأنّ:

أي تسوية لا بد أن تقوم على إجلاء الأراضي التي أُخذت بالقوّة، وإنهاء جميع أشكال القتال واعتراف الدول المعنيّة بعضها ببعض. بعد ذلك، ومن خلال قرارات الأمم المتحدة، وبحضور القوات الدولية كضمانة، سيكون من الممكن ترسيم الحدود بدقة وتحديد شروط العيش والأمن لكلا الجانبين ومصير اللاجئين والأقليّات وآليات التنقل الحرّ للجميع في خليج العقبة وفي قناة السويس.

ولم يأت التصريح بالجديد نظراً لكلّ ما سبق أن أعلنته الحكومة الفرنسية حتى ذلك الحين. حتى أنّ الجرائد لم تذكر الشرق الأوسط في اليوم التالي إلاّ كنقطة من مجمل النقاط الواردة، فيما خصّصت عناوينها الرئيسية لمواضيع أخرى. فنشرت فرانس سوار عنواناً على خمسة أعمدة: “الجنرال ديغول: يجب أن يحلّ الذهب مكان الدولار ، فوضعه المهدد لا يجعل منه ضمانة في التبادلات العالمية”؛ ونشرت لو فيغارو “الجنرال ديغول يؤكّد معارضته دخول إنكلترا للسوق المشتركة”؛ وصحيفة لورور: “ديغول: لا لإنكلترا!”، فيما أوردت صحيفة كومبا ، المعارضة بشدّة لديغول: “ديغول يجازف بإثارة الأزمات”، ملحقة بذلك عنواناً فرعياً يقول: “لقد تمادى أمس” في كل خطوط سياساته الخارجية، إلى درجة الاستفزاز ".

إفراط وغلو

ومع ذلك، فبعد أربع وعشرين ساعة نشب سجال حاد غذّته ردّات الفعل التي أثارها في تلّ أبيب جزء من خطاب ديغول كان قد مرّ بدايةً مرور الكرام. كان ديغول يتحدّث عن نشوء إسرائيل وخشية البعض من أنّ

اليهود، اللّذين كانوا حتى ذلك الحين مُشتّتين واللّذين بقوا، مثل ما كانوا في كل الأزمنة، شعباً نُخبوياً، واثقاً من نفسه ميالاً للسيطرة، سيُحيلون أمانيهم المؤثرة التي ظلت تراودهم منذ تسعة عشرة قرنا في أن يلتقوا “العام المقبل في القدس” إلى طموح جامح ونزعة للغزو حالما يجتمعون في مواقع مجدهم الغابر.

وقد تحدّث هوبير بوف-ميري، مدير جريدة لو موند بتاريخ 29 تشرين الثاني/نوفمبر (في العدد الذي نُشر بعد ظهر الثلاثاء 28 من نفس الشهر)، عن “إشارات معاداة للساميّة”؛ واستنكر جان دانييل في مجلة لو نوفيل أوبسيرفاتور “طيف الكاتب موراس” الذي يسكن ديغول؛ بينما تساءل جان جاك سيرفان-شريبير في افتتاحيته في مجلة ليكسبريس إلى أين سيذهب (ديغول) بالإفراط والغلو؟“، بالغاً به الأمر المطالبة بـ”عزله من منصبه "1.

في المذكرات التي كتبها بعد عامين من ذلك التاريخ، عبّر ديغول عن ندمه على الحماسة التي أخذته: “كان يجب، حتّى في ذلك الظرف، أن أحتفظ ببرودة أعصابي... إنني عاطفي وانفعالي بطبعي!” لقد كان التعبير غير موفّق لاسيما لإظهاره اليهود كمجموعة متجانسة، و في الأمر مفارقة حيث يتماشى هذا الوصف مع طريقة تصوير الصهيونية نفسها لليهود. لكن ماذا عن الاتهام بمعاداة السامية؟ تهمة سيدحضها دافيد بن غوريون مؤسس دولة إسرائيل في رسالة وجّهها للجنرال بتاريخ 6 كانون الأول/ديسمبر 1967:

لقد امتنعتُ عن ضم صوتي لصوت العديد من الناس في فرنسا واسرائيل وبلدان أخرى، الذين وجهوا نقداً مُجحفاً لما ورد على لسانكم لأنّهم لم يتمعّنوا في العبارة المذكورة بالجديّة المطلوبة. (...) وبما أنني كنت رئيس وزراء (لإسرائيل) في عهد الجمهورية الخامسة فأنا أعرف أنّ علاقات الصداقة مع فرنسا منذ إعادة ولادة دولة اسرائيل قد تواصلت حتى خلال الجمهورية الخامسة، وما من حاجة لدي أن أنتظر صداقةً أكثر وفاءً وأكثر صدقاً من صداقتك.

ولم يكن ديغول كذلك مُعادياً للصهيونية. فقد عبّر مجدّداً خلال مؤتمره الصحافي عن إعجابه بقيام دولة إسرائيل:

لذا، وبصرف النظر عن تضافر الأموال والنفوذ والبروباغندا التي تمتع بها الاسرائيليون بفضل الأوساط اليهودية في أميركا وأوروبا، فلقد كانت عدة بلدان ومن ضمنها فرنسا، تنظر بعين الرضى لقيام دولتهم على الأرض التي اعترفت لهم بها القوى الكبرى، آملة أن يتمكّنوا، بقليل من التواضع، من إيجاد صيغة عيش سلميّة مع جيرانهم.

إنّه إعجاب قديم يشهد له به سفير إسرائيل في باريس، جاكوب تسور، الذي زاره في 28 نيسان/إبريل 1955: “لقد قال لي ديغول إنّه يعتبر قيام الدولة اليهودية ضرورةً تاريخية. إنّ من حقّ الشعب اليهودي أن ينتظر التعويض عن الظلم الذي كان ضحيّته طيلة قرون”، معبّراً عن احترامه “لمواهب اليهود ولفكرهم الواضح والمنطقي ولحيويتهم”.2

قطع غيار لطائرات الميراج

في الواقع، فإنّ هذا السجال حول معاداة السامية المزعومة للرجل الذي وجه (نداء) 18 حزيران/يونيو 1940 الشهير كان يهدف إلى تجديد الهجمة على مواقفه التي تبنّاها في حزيران/يونيو 1967. وهي مواقف أقلّ ما يقال عنها إنّها لم تكن يسيرة. لقد كانت فرنسا طيلة الخمسينيات الحليف الأوفى لإسرائيل، مزوّدةً جيشها بالأجهزة المتطوّرة وبطائرات الميراج، ومساعدةً إيّاها على اكتساب التكنولوجيا العسكرية النووية. وكانت قد شاركت في حملة السويس المشينة عام 1956 والتي وافق عليها ديغول في ذلك الحين. لاشكّ أنّ فرنسا، ومنذ نهاية حرب الجزائر، قد تخلّت عن التزامها “ببعض الروابط الخاصّة والوثيقة” التي أقامتها الجمهورية الخامسة مع إسرائيل، كما يُؤكّد الجنرال في مؤتمره الصحافي. فبعد استقلال الجزائر عام 1962،

قمنا باستئناف علاقاتنا مع الشعوب العربية في المشرق، وباستئناف سياسة الصداقة والتعاون التي كانت السياسة الفرنسية لقرون خلت في هذا الجزء من العالم، والتي يُملي العقل والشعور أن تكون اليوم إحدى أُسس نشاطنا في الخارج.

إلا أنّه استدرك قائلاً: “لكنّنا طبعاً قد وضّحنا للعرب أنّ إسرائيل هي بالنسبة لنا أمر واقع، وأنّنا لن نسمح بتدميرها”. ورغم الحظر الذي تم فرضه على بيع الأسلحة في المنطقة في حزيران/يونيو 1967، واصلت فرنسا تزويد تل أبيب بقطع غيار طائرات الميراج3.

مع ذلك، فإنّ موقف الجنرال فاجأ المسؤولين السياسيين ووسائل الإعلام والرأي العام. حتى أصدقاؤه “الديغوليين” لم يُساندوه. وكانت قد شُكّلت منذ 16 أيار/مايو 1967 اللجنة الفرنسية للتضامن مع إسرائيل برئاسة الجنرال بيار كونيغ، وضمّت نوّاباً من كل الأطياف (باستثناء الشيوعيين)، عاكسةً إجماعاً واسعاً، إذ كان فيها كلود جيرار ماركوس (“المناصر ل”دي غول") وميشال بونياتويسكي (الجمهوري المستقلّ، من حركة فاليري جيسكار ديستان)، وموريس فور (الراديكالي) وساندها غاستون ديفير (الفرع الفرنسي من الحركة الدولية العمّالية – الحزب الاشتراكي).

كما شنت الصحافة حملةً شعواء أطلقت فيها العنان لتعاطفها مع إسرائيل ـــ داوود الصغير المحاط بأكثر من جالوت عظيم ـــ وحذرت من “ميونيخ” جديدة وإبادة جديدة. وقد قرأنا في صحيفة باري-جور بتاريخ 2 حزيران/يونيو: “غداً، من جديد، ستعود صرخات”الكابو“(حراس المعتقلات النازية) ، وصوت نباح الكلاب، وصياح الأطفال الذين يُعَذَبون، ثم يأتي الانفجار الذي سيُنهي الكابوس”. “هل إنّ إسرائيل مهدّدة بالموت؟” يتساءل جان دانييل في مجلة لو نوفيل أبوسيرفاتور . “نعم، دون شك. هل يمكن أن نقبل بذلك؟ لا، مهما كان الثمن”.

“عربٌ مُتخمون حشيشاً”

فضلاً عن الخشية من إبادة جديدة، راحت العنصريةٌ المفضوحة ضد العرب، والتي يصعب سترها، تفعل فعلها، خمس سنوات بعد استقلال الجزائر. فقد كتب سارج غروسار، الكاتب الكبير في صحيفة لورور في 24 أيار/مايو: “ألفا سنة (كذا !) من التقصير الإسلامي قد حوّلت جنّة الذهب والعسل هذه (فلسطين) إلى سُهوب جرداء”. وتواصل الجريدة حديثها عن العرب “المحقونين بالكراهية الماضين في أكثر الحملات تعصّبا منذ غوبيلز، والمتخمين بالحشيش والمغيّبين بالأفيون”، والطامعين في “الثروات الجديدة المغرية للشعب العبري”. فيما راحت صحيفة لو فيغارو تؤكّد أنّ الإذاعات العربية تَعِد الجموع العربية بكروم الجليل وبرتقال يافا وبنات تل أبيب.4

في مثل هذه الظروف، باتت العاطفة جياشة في الرأي العام و اتسعت حملات التجنيد مساندةً لإسرائيل. وقد تجمّع في 31 أيار/مايو 1967، 30 ألف متظاهر أمام سفارة إسرائيل في باريس والآلاف في المناطق الاخرى: ستة آلاف شخص في مرسيليا، وخمسة آلاف في تولوز ونيس، وألفان وخمسمائة في ستراسبورغ وليون، وألفان في نانسي وميتز ومونبولييه. احتشدت الجالية اليهودية بشكل كبير، مدعومةً بوصول العديد من ذوي “الأقدام السوداء” (المستوطنين الفرنسيين المرحّلين من الجزائر بعد الاستقلال) من الطائفة اليهودية . وقد عبّر عدد من الفنانين والمثقفين عن تضامنهم. فكتب سارج غانسبور، المغني البعيد عن أي التزام، أغنية “رمال إسرائيل”، التي أكّد فيها استعداده للموت من أجل بلد لم تطأه قدماه من قبل.

كانت الأصوات المعارضة قليلة. حتى أنّ رجلاً مثل جان بول سارتر، الملتزم بالنضال ضد الاستعمار بصفة حاسمة في الجزائر وغيرها ـــ والذي كتب توطئة لكتاب “معذبو الأرض” لمؤلفه فرانتز فانون الصادر عن منشورات ماسبيرو5 قد وقّع نداءً يشير إلى “إرادة اسرائيل السلمية”. وكتب في مقدمة عدد خاص من صحيفة لي تان موديرن مقالاً عنوانه “النزاع العربي الإسرائيلي” ونُشر مطلع حزيران/يونيو:

نحن شديدو الحساسية تجاه كلّ ما يُمكنه من قريب أو بعيد أن يُشبه معاداة الساميّة. يقول أصدقاؤنا العرب رداً على ذلك بأنّهم ليسوا معادين للساميّة ولكنهم معادون للإسرائيليين. ولكن بالنسبة لنا، كيف يمكنهم أن يمنعوا هؤلاء الإسرائيليين من أن يكونوا يهوداً؟

وهو بذلك يمحو كل البعد الاستعماري المتمثل بالمستوطنين اليهود في فلسطين، وهو ما تحدّث عنه ماكسيم رودينسون في نفس العدد تحت عنوان : “إسرائيل، واقع استعماري؟”

احتلال، مقاومة، إرهاب...

لم تتبع جريدة تيموانياج كريتيان الأسبوعية الاتجاه السائد بدقّ طبول الحرب، إلا أن القوّة الحقيقية الوحيدة التي انتقدت السياسة الإسرائيلية هي الحزب الشيوعي الفرنسي، وقد أدانه الكثيرون متّهمين إيّاه بأنّه “عميل لموسكو”. كتب رئيس تحرير لومانيتي رينيه أندريوو في 30 أيار/مايو 1967: “تتحمّل حكومة إسرائيل التي يترائ من ورائها ظلّ الإمبريالية الأميركية مسؤولية الخلاف الذي يضع شعوب الشرق الأوسط على حافة الحرب”. وكان من الأوائل اللّذين أخذوا بعين الإعتبار الواقع الفلسطيني الغائب عن مجمل التحاليل: “لا يمكننا أن نقبل الطريقة التي طَرَدَ بها المسؤولون الإسرائيليون أكثر من مليون عربي من فلسطين واستباحوا أملاكهم (في عامي 1948 و1949)”، مُضيفاً: “إنّ السبب الأساسي للنّزاع متعلّق بالرفض الإسرائيلي لعودة اللاجئين إلى بيوتهم”6.

في جوّ هستيريّ كهذا، لم يكن من المفاجئ أن تنشر جريدة فرانس سوار وهي واحدة من أهم الجرائد اليومية الفرنسية، على خمسة أعمدة، العنوان الآتي: “المصريّون يهاجمون إسرائيل”، فيما تُعلن صحيفة لو بوبيلار التابعة للفرع الفرنسي من الرابطة الدولية العُماليّة: “إسرائيل تقاوم منتصرة بعدما هوجمت من كل الجوانب”. لم يكن في حينها الحديث عن الأخبار المزيفة“رائجاً كما هو اليوم” ...

رغم كل الصعاب، تمسّك ديغول بموقفه وطالب بالعودة إلى حدود 4 حزيران/يونيو 1967. وسرعان ما قدّرت فرنسا أيضاً أهمية العامل الفلسطيني في الأزمة التي اندلعت. وقد تميّز ديغول، المعزول في الساحة السياسية الداخلية، بموقفه عن حلفائه الغربين، لاسيما الولايات المتحدة. ومع ذلك، فلقد تبنى كل من خلفه بعد ذلك مواقفه هذه على مر السنين، بمن فيهم أولئك اللذين انتقدوها بشدّة على غرار فاليري جيسكار ديستان (1974-1981) وفرانسوا ميتيران (1981-1995). وهي مواقف سينتهي الأمر بـ“المجتمع الدولي” إلى تبنّيها في الثمانينيات: رفض اجتياح الأراضي بالقوّة؛ حقّ الفلسطينيين في تقرير المصير؛ ضرورة الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية.

ولعلّ هذه الجملة من مؤتمره الصحافي في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 1967 تبيّن الرؤية التنبؤية للرجل:

تُعِدّ اسرائيل اليوم، على الأراضي التي أخذتها، لاحتلالٍ لا يمكن أن يكون دون ظلم وقمع وتهجير، وستظهر ضدّه المقاومة التي سيصفها بدوره بالإرهاب"..

1ذكرته لورونس كولون في كتابها “الرأي العام الفرنسي، إسرائيل والنزاع العربي الإسرائيلي” ،الصادر عن منشورات هونوري شامبيون وهو كتاب يندرج في خانة دعم السياسة الإسرائيلية.

L’opinion française، Israël et le conflit israélo-arabe, 1947-1987 -Honoré Champion، 2009

2ذكره سامي كوهين في ديغول، الديغوليون وإسرائيل“” من منشورات ألان مورو 1974

De Gaulle, les gaullistes et Israël، Alain Moreau، 1974

3سيتم تعليق المبيعات في كانون الثاني/يناير 1969 على إثر الغارة الإسرائيلية على مطار بيروت وتدمير أسطول الطيران المدني اللبناني وهو ما مكّن إسرائيل من الحفاظ على سيطرتها على الأجواء.

4هذه الإستشهادات مقتطفة من كتاب سمير قصير وفاروق مردم بيك "مسارات من باريس إلى القدس: فرنسا والنزاع العربي الإسرائيلي، من منشورات مجلة الدراسات الفلسطيني

Itinéraires de Paris à Jérusalem : la France et le conflit israélo-arabe. Les livres de la Revue d’études palestiniennes، 1993. tome 2، 1958-1985

5إثر الموقف الذي إتخذه سارتر حول حرب 1967 طالبت أرملة الكاتب فرانتز فانون أن تحذف هذه التوطئة من الطبعات الجديدة للكتاب.

6إلا أن الحزب الشيوعي ظل شديد التحفظ بعد حرب 1967 على كفاح الفلسطينيين المسلّح وعلى منظمات “الفيدائيين”