القدس: ترامب يطيح بنصف قرن من سياسة الولايات المتحدة

أعلن دونالد ترامب عن اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بالقدس عاصمةً لدولة إسرائيل مساء الأربعاء 6 كانون الأول/ ديسمبر. هذه القطيعة التاريخية مع السياسة الأميركية ومع التوافق الدولي حول هذه القضية طوال الخمسين عاما الأخيرة تعد مشاركة من الرئيس الأمريكي في استمرار الاضطرابات في الشرق الأوسط.

قبة الصخرة- الأقصى - القدس الشرقية

دونالد ترامب،أمير الفوضى، يضرب من جديد، بإعلانه الأربعاء 6 كانون الأوّل/ديسمبر اعتراف الولايات المتحدة الأميركية رسميا بالقدس عاصمةً لدولة إسرائيل. وهو ما طالما أعلن مرشحون لرئاسة الولايات المتحدة الالتزام به من قبل خلال حملاتهم الانتخابية، غير أنهم جميعا تجنبوا إدخال ذلك الوعد في حيز التنفيذ بعد انتخابهم واعين بأن قراراً من هذا النوع كان ليخالف القانون الدولي، وأن من شأنه إشعال النار بالمنطقة. بالإضافة إلى هذا أعطى ترامب تعليمات لموظفيه بالاستعداد لنقل مقر سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس خلال فترة لم يحدد مداها. يأتي هذا القرار تجسيدا لموقف سياسي غير مسبوق يمثل قطيعة مع تاريخ امتدّ لنصف قرن من الدبلوماسية الأميركية.

وحتى يترك الباب مفتوحا أمام متوهّمي العودة إلى طاولة المفاوضات، أشار ترامب إلى “تصور جديد” للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. يقوم هذا التصور على أن الاعتراف بالقدس عاصمةً للدولة اليهودية، قبل أي اتفاق مع الفلسطين، لا يعني أن الولايات المتحدة “تتخذ موقفا بصدد القضايا الحساسة موضع الصراع، بما فيها حدود السيادة الإسرائيلية على القدس، أو ترسيم حدود غير متفق عليها”.

بالنسبة لأغلب المعلقين العرب، فإن الولايات المتحدة تفقد، نهائيا، موقعها كوسيط يفترض به الحياد في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وحتى لا يتوافر أي مجال للشك حول هذا في إطار المعنى الذي تعطيه الحكومة الإسرائيلية لتصريحات ترامب، عُرضت صورتان مضيئتان هائلتان للعلمين الإسرائيلي والأمريكي طوال فترة إلقائه لخطابه على أسوار القدس العتيقة (وهي أرض فلسطينية محتلة حسب القانون الدولي قام بضمّها الإسرائيليون في 1967). من جانبه، كان ترامب في هذه الأثناء يطالب كلا من الإسرائليين والفلسطينيين بالتزام طريق “التفاهم والاحترام المتبادل”. كأنما كان الرجل، وهو يرمي وراء ظهره الوضع القائم منذ سبعين عاما، حريصا على مطالبة طرفي الصراع بـ “الحفاظ على الوضع القائم في المدينة القديمة”. ربما كنا لنضحك أمام عبارة شبيهة، لو لم تكن الآثار المتوقعة عنها تنذر بمأساة.

يأتي هذا القرار بعد شهر من تسريبات دالة ومستمرة ومدروسة بذكاء، بدأت بتلك التي غذّتها الزيارات المتكررة لجاريد كوشنر، وهو صهر ومستشار ترامب الخاص للشرق الأوسط، إلى الرياض. وفق التسريبات، فإنّ ترامب كان سيقدّم قريباً «خطّته للسلام» في الشرق الأوسط، والتي تشتمل على إخلاء المستوطنات الإسرائيليّة، ويبدو أنّها تراهن على «سلام اقتصاديّ أوّلاً». بعد ذلك، وعلى مدى أيّام، تحمّست وسائل الإعلام الإسرائيلية لموضوع الضغوط السعودية المسلّطة على رئيس السلطة الفلسطينيّة محمود عباس ليقبل بالتفاوض على اتفاق مع إسرائيل يستند إلى الخطّة التي يروّج لها ترامب. وفي منتصف تشرين الثاني/نوفمبر، ظهرت قضية إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينيّة في واشنطن، إذ لم تجدّد وزارة الخارجيّة الأميركيّة ترخيصه، الأمر الذي قُرئ على أنّه ممارسة لضغوط جديدة على محمود عباس. ثمّ حصلت البعثة الفلسطينيّة على الرخصة الأميركيّة لكن وفقاً لشروط أكثر صرامة من المعتاد.

ضغوط مشددة على أبي مازن

في عددها الصادر في 3 كانون الأوّل/ديسمبر، أكّدت نيويورك تايمز New York Times الخطوط العريضة لـ«خطّة سلام» أميركيّة ـ سعوديّة - وقد جرى التصديق في اليوم نفسه على وجود خطّة من ذلك النوع وإن بكلمات غير واضحة لجاريد كوشنر خلال مؤتمر استضافه معهد بروكينغز Brookings في واشنطن. ووفقاً لهذه الخطّة، سوف تُعطى للفلسطينيين دولة مكوّنة من عدّة قطع من الأرض منفصلة عن بعضها البعض. ولن تكون القدس عاصمتها وسوف تُبقي إسرائيل سيادتها على نسبة تتراوح من 50 إلى 60% من أراضي الضفّة الغربيّة. كما ستُستبعد مسألة اللاجئين الفلسطينيين تماماً من الاتفاق. باختصار: سوف تُقدّم إلى محمود عباس نسخة من بانتوستان جنوب أفريقيا أيام نظام الفصل العنصري. وأكّدت الصحيفة أيضاً الضغوط الشديدة المُمارسة على عباس لحمله على تقبل الأمر.

تحت تأثير الهوس بالصراع مع إيران، فإنّ الأمير السعوديّ الشاب محمّد بن سلمان، الذي يُسيّر والده الملك، ينوي القيام بكلّ شيء ليعزّز تحالفه الرأسمالي مع إسرائيل. وبغية الوصول إلى جدول الأعمال هذا، فهو بحاجة إلى التخلّص من «الشوكة» الفلسطينيّة في أسرع وقت. وعليه، قد يكون مستعدّاً لتأييد «خطّة السلام» الأميركيّة، فيما يبدو أنّه عرض مبالغ كبيرة على الفلسطينيين للخضوع لها. والسعوديون، كما يشرح ياكوف ناغل، الذي كان مستشاراً للأمن لدى نتنياهو منذ زمن غير بعيد، «لا يهتمّون لمضمون اتفاق» بشأن المسألة الفلسطينيّة، إذ «إنّهم بحاجة فقط إلى أن يتمّ توقيع اتفاق حتى يتمكّنوا من المرور إلى المرحلة التالية»1 – وهي مرحلة التعاون المتظافر مع إسرائيل ضدّ إيران. ويبدو أنّ محمّد بن سلمان قد عرض حتّى على الرئيس الفلسطيني أن يساعده مالياً بصفة شخصيّة، لكنّ الصحيفة لم تحدّد المبلغ المعروض. كما يبدو أنّ عباس قد رفض وعمد إلى إخطار عدّة قادة سنّة (الأتراك والمصريون) ليساعدوه على مقاومة ضغوط الرياض وواشنطن.

وباعترافه بالقدس عاصمةً، فإنّ دونالد ترامب يرفع من مستوى الضغوط على عباس. وهي طريقة ترامب أن يقول للفلسطينيين: «أسرعوا، إما خطّتي أو لا شيء». ويهدف تجديد هذه الضغوط إلى إقناع المسؤولين الفلسطينيين بأنّ الوسيلة الوحيدة للحصول على ما هو أفضل بقليل ممّا تتداوله الشائعات فيما يخصّ مستقبلهم هي الجلوس إلى طاولة المفاوضات وفق هذه الأسس، وإلاّ فإنّهم سيخسرون كلّ شيء (جدير بالذكر هنا أنّ المملكة العربية السعوديّة هي أحد الممولين الخارجيين الأساسيين للسلطة الفلسطينية، بالإضافة إلى الأوروبيين والأميركيين). لكن بتفعيله مسألة القدس – دون انتظار ما تتوصل إليه مفاوضات الطرفين المعنيين – يمسّ ترامب بأحد المواضيع السياسيّة والرمزيّة الأساسيّة في الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني؛ وهو إضافة إلى ذلك، رهان دوليّ يتجاوز هذا الصراع في حدّ ذاته. بحكم الأمر الواقع، كانت مسألة القدس، مثلها مثل مسألة اللاجئين، في قلب كافة المفاوضات الرسميّة وغير الرسميّة التي قام بها الإسرائيليون والفلسطينيون منذ 1967.

من التقسيم إلى الضمّ

لمَ تكتسب هذه المسألة أهميّة كبرى؟ إنّ قرار تقسيم فلسطين تحت الانتداب البريطاني إلى دولتين، واحدة «يهوديّة» وأخرى «عربية»، والذي جرى التصويت عليه في تشرين الثاني/نوفمبر 1947، يستثني مدينة القدس ويدعو إلى أن تكون «كياناً منفصلاً» (corpus separatum) تحت إدارة أمميّة. إلاّ أنّ الحرب التي تلت إنشاء دولة إسرائيل في 15 أيار/مايو 1948، شهدت اقتسام اثنين من لاعبيها، إسرائيل والأردن ([إمارة] شرق الأردن في ذلك الحين)، للمدينة فيما بينهما. استولى الإسرائيليون على الجزء الأكبر من أراضيها فيما بسطت المملكة الهاشميّة سيطرتها على معظم الأحياء العربية بما فيها المدينة القديمة ونواحيها والتي تضمّ ساحة المساجد والأماكن المقدّسة الإسلاميّة (المسجد الأقصى وقبّة الصخرة)، ولكن أيضاً حائط المبكى، من بقايا الهيكل الثاني لليهود. (وقد أُبرِم اتفاق مسبق بين الطرفين لمنع قيام دولة فلسطينية).

منذ عام 1949، وضعت إسرائيل حكومتها وبرلمانها في القدس جاعلةًً منها رسميّاً عاصمتها. وقد اصطدم قرارها هذا بعدم اعتراف المجتمع الدولي. وهو وضع سيتواصل بعد حرب حزيران/يونيو 1967 التي استولت إسرائيل خلالها على الضفة الغربية، بما في ذلك الجزء الشرقي (العربي) من القدس. وبعد سبعة عشرة يوماً، صوّت الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) على ضمّ الجزء الشرقي من المدينة التي تمّ غزوها حديثاً. وسوف يدين مجلس الأمن في الأمم المتحدة هذا الضمّ في 21 أيار/مايو 1968: «جميع الإجراءات والتدابير التشريعيّة والإداريّة التي اتّخذتها إسرائيل (...) والتي تهدف إلى تغيير الوضع القانوني للقدس، باطلة»، كما ينص. وسوف تصادق الولايات المتحدة على القرار ولن تغيّر هذا الموقف مطلقاً. وعندما قام الكنيست في 30 تموز/يوليو 1980 بالنص في «القوانين الأساسيّة» (القوانين الدستوريّة) لدولة إسرائيل على أنّ «القدس المُوحَّدة» هي «العاصمة الأبدية وغير القابلة للتقسيم لإسرائيل»، أعاد مجلس الأمن التأكيد في مناسبتين (القرار 476 و478) على أنّ تصويت البرلمان الإسرائيلي يشكّل «خرقاً للقانون الدولي»، داعياً «الدول التي أقامت بعثات ديبلوماسية في القدس إلى سحب هذه البعثات من المدينة المقدّسة».

ومنذ ذلك الحين لم تُدحض هذه القرارات. ولا توجد إلى اليوم أيّ سفارة أجنبيّة في القدس. فالمجتمع الدولي لا يعترف، بالإجماع، بالقدس كعاصمة لإسرائيل، لكن برغم ذلك، فإنّ تعاطيه مع المدينة قد تطوّر جزئيّاً – لاسيما الموقف الأميركي. فحتى الثمانينيات، كانت هذه الأخيرة تعتبر أنّ «الوضع النهائي للقدس لا ينبغي أن يُقرّر من جانب واحد وإنّما بالتشاور بين جميع الأطراف المعنيّة»إقرأ في2، وهو ملخّص لتطوّر الموقف الأميركي. . إلا أنّه مع الصعود القويّ لمنظمة التحرير الفلسطينيّة على الصعيد الديبلوماسي، الذي تلا «الاعتراف المتبادل» بين منظمة التحرير ودولة إسرائيل الموقّع في آب/أغسطس 1993 ضمن اتفاق أوسلو، تمّ القبول عموماً بأنّ المستقبل القانوني للمدينة مرتبط بإبرام اتفاق سلام بين الخصمين اللذين يطالبان بها كعاصمة: الإسرائليون والفلسطينيون. ومنذ ذلك الحين، أعلنت غالبية دول العالم أنّها إثر توقيع اتفاق سلام، ستعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وستقوم بنفس الشيء بالنسبة لعاصمة فلسطين، إذا ما صادق الاتفاق على هذا الخيار الذي يطالب به الفلسطينيون منذ 24 عاماً. أمّا الولايات المتحدة الأميركية، فقد كان موقفها الرسمي هو أنّ «الوضع الدائم» المستقبلي للقدس ينبغي أن يُتوصّل إليه كنتيجة «مفاوضات ثنائيّة» بين الإسرائيليين والفلسطينيين. في المقابل، صوّت الكونغرس الأميركي عام 1995 على قانون بشأن السفارة في القدس، يُطالب باعتراف أميركي بالمدينة كعاصمة لإسرائيل وبنقل السفارة الأميركيّة إليها. وقد أكّدت هذا الموقف تصويتات عدّة شهدها الكونغرس منذ ذلك الحين.

من جهة أخرى، كانت الإدارات الأميركيّة ترفض دوماً هذا الأمر، ما أبقى الموقف الرسمي للديبلوماسية الأميركية من دون تغيير، وهو - بخصوص القدس - الامتناع عن دعم أي عمل من شأنه أن يضرّ بـ«مسار السلام». وكان الوضع المستقبلي للمدينة إلى جانب مسألة اللاجئين الفلسطينيين، أكثر ما وضع العراقيل أمام التوصل إلى اتفاق في تموز/يوليو 2000 خلال المفاوضات التي أجريت في كامب ديفيد بين إيهود باراك وياسر عرفات، برعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون. وبشأن القدس، على وجه الخصوص، كان المسؤولون الإسرائيليون قد عبّروا عن نفس الفكرة المطروحة اليوم: تحويل حي أبو ديس، المحاذي للقدس، إلى «عاصمة» فلسطينية. وكان الرفض الإسرائيلي لترك السيادة على ساحة المساجد للفلسطينيين أحد العناصر المحوريّة التي أدّت إلى فشل المفاوضات. بعد ذلك، أجريت مفاوضات غير رسميّة، إحداها أقيمت في طابا (كانون الثاني/يناير 2001)، والأخرى قادت إلى اتفاق جنيف (كانون الأوّل/ديسمبر 2003). أحرزت تلك المفاوضات تقدّماً بشأن مسألة القدس، لاسيما المفاوضات الثانية التي أفضت إلى اتفاق لتقاسم السيادة على المدينة التي أصبحت «عاصمة للدولتين»: لإسرائيل المناطق التي يسكنها اليهود، ولفلسطين المستقبلية تلك التي يسكنها العرب (كما أُبرِم اتفاق مفصّل بخصوص ساحة المساجد ـ جبل الهيكل). لكنّ هذه الاتفاقات لم تحظَ أبداً بدعم رسمي.

وهكذا، باعترافه بالقدس كعاصمة لإسرائيل، فإنّ دونالد ترامب لا يدير ظهره لسياسة خارجية أميركية ثابتة منذ عقود فحسب، وإنّما يدير ظهره للقانون الدولي إذ إنّه يخرج عن الإطار الذي تبنّته قرارات عدّة لمجلس الأمن. ولن يندهش من ذلك أحد، إذ إنّنا منذ انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من COP21 والرفض، بحكم الأمر الواقع، للاتفاق النووي الموقّع مع طهران (والمسجّل في قرارين أمميين)، قد عرفنا وزن التعددية الديبلوماسيّة الدولية من وجهة نظر ترامب.

التبشير عن بعد، و«التنكيل» بالأمم المتحدة

تتصف شخصية ترامب بالثنائية، ولا تعرف إلاّ «استراتيجيّة» الفرض الفظ للقوّة. ليس مرد ذلك إلى كونه لا يعرف التراجع إذا لزم الأمر – لقد فعل ذلك أكثر ممّا نتصور في حياته كرجل أعمال – لكنّ نزعته الأولى تتمثّل دوماً في فرض ميزان قوى أمام العدوّ أو المنافس أو حتّى الحليف. ومن جهة أخرى، فهو مدفوع في إدارته للحياة العامّة كما في السياسة الخارجيّة، بأولويّات وتوقعات قاعدته الانتخابيّة. ومن وجهة النظر هذه، فإنّ إدارة الظهر للقانون الدولي أمر شبه محتّم! فنواة المستهدَفين بالنسبة له مكوّنة من إنجيليين وقوميين أميركيين، أي من الشريحة التي يمثّل لها الـ«UN bashing» (التنكيل بالأمم المتحدة) رياضة قتاليّة، فيما تشكّل عدّديّة الأطراف بالنسبة إليهم عائقاً لا يُحتمل أمام سيادة الولايات المتحدة الأميركيّة. باختصار، فإنّ النواة الصلبة لناخبيه هي الأكثر تأثراً بشعار «أميركا أوّلاً». وبعد COP21 وإيران، يؤكّد ترامب اليوم على تعهّداته الانتخابيّة بشأن الملف الإسرائيلي ـ الفلسطيني، وهو أمر لا يمكن إلاّ أن يُبهج قاعدته الانتخابيّة. أمّا بالنسبة للمشهد السياسي الداخلي، فليس لترامب الكثير ليخشاه: مجلس الشيوخ ومجلس النواب مؤيدان بوضوح لما يقوم به في موضوع القدس.

قبل خطابه الأربعاء، كان ترامب قد دعا رئيس السلطة الفلسطينية إلى زيارته في واشنطن، غير أن عباس أجاب بأنه “لم يكن لديه وقت”. ومنذ انتشرت الشائعات الأولى، قام الملك عبد الله ملك الأردن ومسؤولون عرب عديدون بتحذير البيت الأبيض من مخاطر الانفجار الإقليمي إذا ما أعلن رسميّاً اعترافه بالقدس عاصمةً للدولة اليهوديّة. وأن قرارا من هذا النوع خارج على كل الأعراف والاتفاقات الدولية مع الفلسطينيين. كما أعلنت حركة حماس الفلسطينيّة، التي لا تعوزها أبداً التهديدات الخاوية، «انتفاضة جديدة» في هذه الحالة. وبينما توقّع أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربيّة، المنظّمة التي تحتضر منذ انطلاق الحرب في سوريا، أنّ القرار الأميركي سوف «يغذّي التطرّف والاحتكام إلى العنف» في العالم العربي، وكذا قامت ممثليات أوروبية بتبليغ واشنطن بمقدار خطورة قرارها أحادي الجانب. حتى الملك سلمان رأى أن من المفيد التذكير بأنه أشار على الرئيس ترامب بأن قراره ليس إلا “إثارة لمشاعر المسلمين”. الاتحاد الأوروبي عبر أيضا عن قلقه، حيث اتصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بنظيره الأميركي ليعرب عن تحفّظاته. وفي الولايات المتحدة، كان قد اعتبر - بشكل مسبق - أن إعلان ترامب “غير مدروس”، وأنه سيضيف مزيدا من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط".

لكنّ الرئيس الأميركي لم يستسلم. فإدارة ترامب يمكنها أن تقدّر، من وجهة نظرها، أنّه لم يسبق للظرف أن كان مواتياً بقدر ما هو الآن لإجراء تغيير جذريّ بالموقف في الشرق الأوسط: لم يسبق لإسرائيل منذ الخمسينيات أن كانت بهذه القوّة، متمتّعة بخيارات تحرّك واسعة وبإفلات مذهل من العقاب في كلّ مرّة، في وقت لم يسبق فيه للفلسطينيين أن كانوا أكثر وهناً. فمنذ فشل الانتفاضة الثانية (2001-2006)، والفلسطينيون المحاصرون والخاضعون أكثر من أيّ وقت مضى لإرادة المحتل الإسرائيلي الذي يضاعف المستوطنات والعوائق اليوميّة أمام إمكانية قيام حياة عاديّة لهم، عاجزون تماماً عن فرض أي تغيير في التوجّه على إسرائيل. إضافة إلى ذلك، فبين المواجهة الجيو ـ استراتيجيّة بين الرياض وطهران والحرب في سوريا وظهور الجهاد الراديكالي وتعدّد المواجهات المسلّحة ووضعيّات الفوضى المحيطة، لم يسبق للقضية الفلسطينية أن كانت أكثر تهميشاً ممّا هي عليه اليوم في المحيط العربي. وهو الأمر الذي يثبته موقف محمد بن سلمان إلى حدّ السخرية. وأخيراً، لم يسبق لإسرائيل أن أقامت مع قوى عربيّة من الصفّ الأوّل، مثل المملكة العربيّة السعوديّة ودولة الإمارات الخليجية ومصر، علاقات قرب وتفاهم واضحة بهذا القدر وقائمة على مصالح ظرفيّة متقاربة.

قد يجد ترامب والأمير بن سلمان فلسطينياً مُستعدّاً لقبول سلام بالشروط التي ذَكرَتها الشائعات المتداولة مؤخّراً. والاسم الذي يتكرّر كثيراً بهذا الخصوص هو محمد دحلان، أحد المقرّبين من المسؤولين الإماراتيين والذي كانت صلاته بالـ«سي آي ايه» حين كان رجل فتح القويّ في غزّة، معروفة للعموم. قد يكون هذا الرجل، أو غيره، مستعدّاً أن يحكم دولة متآكلة ومتناثرة الأطراف، يمكنه فيها التنقل من حاجز إسرائيليّ إلى آخر ويسمّيها فلسطين – وأن يوقّع «سلاماً» مع إسرائيل بشروطها. لكنّ مأساة الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني سوف تتعمّق على المدى الطويل، لأنّ «خطّة ترامب» تعادل استسلاماً فلسطينيّاً وتخلّي بين شعب وبين تاريخه من دون أي تعويض سوى بعض الملاليم.

يمكننا أن نتفهّم أن ترامب، وهو رجل الأعمال الذي يعتقد بأنّه من الممكن «شراء» مسؤولين فلسطينيين كي يُخضعوا شعبهم إلى رغباته. فقط نُذكّر أولئك الذين يعتقدون بأنّ طرحاً كهذا واقعيّ، أنّ الإسرائيليين كانوا يحاولون طيلة سنوات الاحتلال العشرين الأولى بعد حرب حزيران/يونيو 1967 إيجاد فلسطينيين من بين الوجاهات المحليّة والمسؤولين الدينيين في الضفة الغربية وغزة، مستعدّين للعمل كتابعين، خاضعين ومنصاعين. وقد وجدوا بعضهم إلى أن انفجرت الانتفاضة الأولى في عام 1987، والتي حملتهم على أن ينسوا هذا الوهم ويعترفوا بمنظمة التحرير الفلسطينية كمحاور وحيد ممكن.

يمكننا أيضاً أن نتفهّم أنّ ترامب، معتمداً على ركيزتيه، إسرائيل والمملكة العربية السعودية، ينوي أن ينشر جبهة موحدّة بين سنّة وإسرائيليين في مواجهة «الخطر» الإيراني الذي ساهم هو نفسه في وضعه من خلال شيطنته عوضاً عن القبول بالتفاوض معه. وعلى الرغم من ذلك، كان ينبغي للعمليات التي قام بها الحليف السعودي إلى الآن، أن تحمل ترامب على التفكير. فـ«الأمير الصغير» محمد بن سلمان يتنقل حتى الآن من خيبة أمل إلى فشل: في حربه في اليمن، وفي صراعه مع قطر، وأيضاً مؤخّراً في تدخّله الكارثيّ في لبنان ضدّ حزب الله، حيث لم يؤدّي سوى لتعزيز وزن «العدو» الشيعي. فمن يدري أي تداعيات مغايرة لآمال الأمير الشاب، قد تنتج في المحيط الإسلامي عن إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، بما في ذلك داخل مملكته نفسها، وهي الهشّة أكثر ممّا نتصوّر.

1Raf Sanchez: “‘Saudi Arabia doesn’t care about the Palestinians as long as iy can make a deal with Israel against Iran’, says former Netanyahu adviser”, The Telegraph, 25 novembre 2017

2Foreign Policy، Scott Anderson & Yishai Schwartz : « How to Move the US Embassy to Jerusalem »